مواضيع اليوم

لا مكان للمثليين في مجتمعاتنا(قصة بالمناسبة)

حمادي بلخشين

2010-06-26 12:04:00

0


مثليّة

 

كان الجوّ قائظا حين التجأت رفقة صديقي فوزي رابح الي ظل شجرة وفيرة الظلال كي نصيب بعض الراحة. بينما اعتصم ثالثنا مبروك حمدي بجدار كي ينام قليلا.

ما أعجب ما تأتي به الأيام و تفاجئنا به صروف الزمن و تقلب الأحوال، فبعد خمس سنين من تخرّجنا بامتياز من المعهد الأعلى للهندسة المعمارية بتونس العاصمة، و بدل ان يجمعنا مكتب هندسة مكيّف، وجدنا اليأس يجمعنا على ظهر أحد قوارب الموت، قبل ان يجمعنا الرعب من ترحيل قريب في زنزانة ايطالية شديدة الرطوبة، لنجتمع أخيرا بعد زوال غمتنا في مزرعة ايطالي شابّ كي نجمع له محصوله الجيّد من الفراولة!

فور استرجاع أنفاسنا طفق صديقي فوزي رابح يحدثني عن خبر بلغه من برّ تونس يتعلق باحتفال جارهم (الذي سبق ووافاني بتطورات نكبته) باكتشاف جثة ابنته التي أشيع و لأشهر عديدة بأنها فرّت مع عشيقها.
ــ منذ اختفائها، ظل المسكين معتكفا في بيته إلى أن بلغه نعيها.
قلت مؤيدا:
ـــ له الحق أن يفعل ذلك فالشعور بالعار أسوأ ألف مرة من فقدان الأحبة.
مسح صديقي جبينه المتعرّق ثم أضاف بحماس:
ــ و ذلك حتى يعلم دعاة الحرية الجنسية في بلادنا أنه مهما بلغ السقوط بأمتنا، فستظل الزانية منبوذة.
ما ان اتم صديقي فوزي رابح كلامه حتى وافانا صوت صارخ:
ـــ و المثليّ أيضا و المثلي أيضا!
كنا مستغرقين في الضحك حين أطلّ علينا المهندس المهذار مبروك حمدي (الذي يبدو أنه آثر الحديث على النوم) وهو يخطب فينا ملوحا بقبضته كمنذر جيش:
ــ لا الزانية ولا اللوطي يمكن التطبيع معهما.
ثم وهو يتخذ له مكانا بيننا:
ـــ وهذا هو المؤشر الوحيد على وجود رمق في أمتنا قد يتحول الى بعث جديد.
ــــ ...
ــــ مصداقا لقولى أسمحا لي بان أحكى لكم حكاية كان والدي أحد اطرافها لما كان جارنا الحاج مخلوف عبّاس مصابا بالسكّري و ضغط الدم و ثلاث
جلطات قلبية سابقة، فقد عهد شقيقه الأصغر مسعود عباس الي والدي مهمة تبليغ أخيه المريض بوفاة ولده سمير الذي كان شديد التعلق به.
فكر والدي قليلا، ثم طلب مهلة ثلاثة أيام تظل الجثة خلالها في مستشفى المدينة .. بعد يومين من انقطاع خبر سمير، سرّب والدي إشاعة مفتعلة تدور حول شاب شديد الشبه بسمير قد شوهد و هو يتعرض الى حادث سير رفع بعدها مباشرة من قبل السائق الذي صدمه قبل ان يتوجه به الي جهة مجهولة.
خلال اليومين المذكورين دأب معارف و جيران الحاج مخلوف عباس على طمأنته حينا بامكانية سلامة ولده كما كان البعض منهم يلمح اليه احيانا اخرى بإمكانية تخلص السائق من المصاب مما قد يعرضه الي الخطر... ظلوا كذلك الى حد افتراض الحاج عباس إمكانية ضئيلة لموته.
في اليوم الثالث دنا والدي من الحاج مخلوف عباس، نصحه ربما للمرة الخمسين بالتحلي بالصبر الجميل حين رن هاتفه الجوّال.. كان والدي يعلم انه مسعود عباس شقيق الحاج وعم الميت... بعد تبادل كلمات مقتضبة انهى ابي المكالمة ثم قال لوالد الفقيد الذي سأله عن طبيعة المكالمة:
ـــ انها من صديق يعمل في مركز الشرطة وقد اسر لي ــ نظرا لحساسية الموضوع ـ بان هناك شاب اسمه سمير يوجد الآن على قيد التحقيق معه بعد ضبطه مع نجل شخصية مهمة في شبكة مثليين.
سأل الحاج مخلوف عباس مستوضحا.
ــ يعني ممثلين؟
ــ لا يا حاج يعني... حاشاك... لوطيين!
إهتز الحاج مخلوف عباس مرتاعا.
ـــ " أعوذ بالله من غضب الله". ثم وهو يرفع يديه متضرعا: "إلاّ هذه يا رب إلاّ هذه يارب... اللهم لا تشمت بنا الأعداء"أضاف بعد سكوت لم يطل:" قالوا لا يصلى قلنا يكبر ثم يتوب، قالوا يسكر قلنا ربي يهديه، اما مأبون فلا......اللهم لا تجعل ولدي شقيا ولا مابونا يا أرحم الراحمين يا رب العالمين"
قطع الحاج مخلوف عباس دعاءه ليسأل والدي " و سمير ذاك... اعني المأبون أبعده الله أصغير أم كبير" أجاب ابي وهو يكتم ابتسامة " في سن ولدك!"صكّ الحاج مخلوف عباس وجهه ثم صاح متألما؟" الله المستعان الله المستعان" بعد أقل من خمس دقائق رن الهاتف الجوال ثانية، كان والدي يعلم ايضا أنه مسعود: بعد مكالمة قصيرة همس والدي بخشوع " لاحول ولا قوة الا بالله" سأله الحاج مخلوف عباس" خيرا ان شاء الله؟!"
قال ابي و وهو يتصنع الحزن:
ـــ أبلغني صديق يعمل بالمستشفى الجهوي بوجود جثة شاب في ثلاجة الموتى يدعى سمير في سن ولدك
انتفض الحاج قال هو وهو يستنهض والدي" قم بنا الى المستشفى"
ثم و هو يرفع يديه لي السماء" اللهم اجعله ولدي! قال له ابي مهدئا"تفاءل بالخير يا حاج! "
رمق الحاج مخلوف عباس ابي بنظرة حانقة ثم سأله غاضبا:
" عن أي خرا تتحدث يا رجل؟ و أي خير في مأبون؟!"

توقف صديقنا مبروك حمدي عند هذا الحد من القصة، حال سماعنا هدير سيارة لند روفر تلاها صمت أعقبه ظهور جليانو برتيتا.

كان يلذ لجليانو برتيتا مجالستنا و الأنس بحديثنا بقدر ما كان يلذ له أكل الكسكي الذي برع صديقنا فوزي رابح في طهيه بحكم طول الممارسة.
توثقت علاقة جليانو برتيتا بنا حين خبر أمانتنا و سبر دواخلنا فوجدها كما يحب و يشتهي و لكن بعد أن اخضعنا ــ كما أخبرنا بنفسه فيما بعد ـ الى إمتحانات ووضعتنا أمام اغراءات سقط فيها أكثر التونسيين و الجزائريين و المغاربة الذين تعاقبوا على مزرعته. كما توثقت صلتنا بالمزارع الشاب ــ الذي سمّانا الفرسان الثلاثة! ــ بعد أن أبدى لنا تعاطفه مع قضيتنا و ما آل إليه أمرنا. كما زدنا به و ثوقا حين اظهر تعاطفه مع عموم المسلمين بسبب ما يكابدونه في أوطانهم من حرمان و تضييق وعدوان غربي غاشم.

كان جليانو برتيتا يتردد علينا بانتظام كل ثلاثة أو أربعة أيام لتزويدنا بما نحتاجه من مواد غذائية عدا اللحم الذي كفانا مؤنته وجود أعداد وافرة من خرفان و بط و دجاج حكّمنا في رقاب من شئنا منها، وقد بلغ لطف جليانو برتيتا و مراعاة شعورنا الدينيّ الى درجة تضحيته بقطيع معتبر من الخنازير حتى يعفينا وزر العناية بهم تعليفا و تنظيفا.
" لن ازعجكم برعاية خنازير محلية، يكفي ايطاليا إثما رعاية خنازيركم الحاكمة في تونس!" هكذا قال جليانو برتينا ضاحكا و هو يراقب إجلاء آخر خنزير من حظيرته!

بعد مصافحة ثلاثتنا و تأكده من أن جمع الفراولة يسير على أحسن ما يرام جلس جليانو برتيتا على كومة تبن ثم طلب منا وصل ما قطعناه من حديث.
حالما تولى فوزي رابح بفعل حسن اتقانه الانكليزية، ترجمة ما فات الإيطالي الشاب من خبر الحاج مخلوف عباس و ابنه المفقود اندفع مبروك حمدي يقول بانكليزية سليمة و أن كانت متعثرة:
ـــ حدثني والدي قال "حال مغادرة الحاج مخلوف عباس غرفة الموتى بعلامات بعث جديد تكسو محياه، انتزع سلاح جندي كان يحرس سجينا مريضا... قبل أن يفيق المسكين من صدمته كان الحاج مخلوف عباس قد
أفرغ بندقيته من آخر رصاصة إحتفالية أطلقها! بعد ذلك ظل يردد" الحمد لله الحمد لله.. أسد ميت ولا كلب حيّ"
ضحكنا كثيرا بما فينا جولياني برتيتا من طرافة الحادثة و مغزاها العميق.
سألت جولياني برتيتا و انأ أهبّ واقفا عن موقف مواطنيه من المثليين.
زم شفتيه ادار رأسه ثم قال:
ــ الإحتقار
ثم مردفا :
ـــ هذا في اغلب الأحيان .
سأله فوزي رابح :
ـــ و بالنسبة لجوليانو برتيتا...
ثم موضحا:
ـــ أعني كيف كان سيصرف الشاب الإيطالي جوليانو بريتيتا لو كان مكان الحاج مخلوف
رد جولياني بتيتا وقد كست وجهه مسحة الجد:
ـــ أنا مخلوفيست من هذه الناحية!
قال ذلك ثم انتزع الرفش الذي كان بين يدي،رفعه نحو السماء ثم
بعربية مثيرة للضحك:
ـــ بم بم بم بم الهمد لله!
بم بم بم بم الهمد لله!

أوسلو 4 جوان 2010




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !