يُمكنُ القول أنّ ما يُسمّى بالرّبيع العربي هو نتيجة لما خَلـُصَت الشعوب العربيّة إليه من إجماع مُفاده أنّه لا معنى لاستقلال أوطانها المُنتزع بالتضحيات الجسام دون إرساء أنظمة ديمقراطيّة تتجسّم من خلالها سيادة الشعب،تلك السيادة التي تمكّن المواطن من متطلّبات الحياة الكريمة عدلا وحرّيّة ورغيف عيش...
لم يعد الاستقلال يعني،كما كان لدى الشهداء الذين سقطوا في سبيل تحقيقه والمناضلين من أجله،مُجرَّد ذلك المفهوم المُبسَّط الذي يختزل القضيّة في التّحرير من الحضور الأجنبيّ بكلّ رموزه،ذلك المفهوم الذي يستبطن صورة بديعة لوطنٍ يحكمُه أبناؤه لا غير...
أثبتت تجربة الاستقلال وبناء دولته بفكر أبنائه وسواعدهم وعرقهم أنها تكاد لا تختلف في شيء عن دولة عهود الاستعمار من حيث إذلال المواطن والاستهانة بكرامته واستعباده وتخويفه ونهب ثرواته وحرمانه من حقوقه الأساسيّة التي تتيح له أن يرفعَ رأسه عاليا في فضاء وطنه الحرّ من أجل أن يكون الإنسان على أديمه حرّا مثل الطيور المحلّقة في سمائه الرّحب...
سقطت الأقنعة وتكشّف وجه بناء دولة الاستقلال ضحلا بعيوبه وندوبه بعد أن ثبت أنّها أقيمت على تهريج إيديولوجي تعاطته الشعوب العربية "حبوبَ هلوسة" من قبيل النضال من أجل "تحقيق الوحدة العربية" و"لا استقلال دون تحرير فلسطين" و "مقاومة الامبريالية" ثم " التطرّف الديني" و "أعداء الوطن في الداخل والخارج" و"بناء دولة الحداثة والتقدّم"...كلّ ذلك يتمّ عن طريق "الزعامة الملهمة أو المنقذة" للقائد الفرد "المصلح/الفذّ أو المؤمن/التقي" أو "سليل الأنبياء والأشراف"...ثبت أنّ العيب إن لم يكن في الشعار الإيديولوجي فإنّ الكارثة تكمن بالأساس في زعامة الفرد المطلقة التي تبيح لنفسها إتيان أفظع ممّا كان يأتيَه الاستعمار الأجنبيّ،لكن بقناع "القيادة الوطنية" التي يفديها "الشعب بروحه"،وهو إذ يفديها فعلا فإنما يحصل ذلك كأيّ قربان يُقاد إلى مقصلة ذبحه إرغاما وإكراها...
واليوم،إذ تخلّصت شعوبٌ عربية من طغاتها،فإنها تجد نفسها تسير على طريق وعرة محفوفة بالمخاطر لأنها تخشى أن تقع فيما يُضلّلها إلى إعادة إنتاج الديكتاتورية بأقنعة جديدة تذهب بتضحياتها أدراج الرّياح...إنها،تقف أمام ذلك التّحدّي الذي خبرتْه بالأمس والذي أثبت لها أنّ الإطاحة بالاستعمار لا يعني زوال الاستبداد،تماما كما هو حال دولة الاستقلال التي أثبتت أنه من المستحيل أن تتزوّج الديمقراطيةُ حاكما مستبدّا حتى إن كان وطنيّا.غير أنّ الإطاحة بالسلطة الوطنية المطلقة لا يعني الزّواج من الديمقراطيّة بمجرّد طلب يدها،إذ هي كأيّ شيء ثمين،لا يُكتَسبُ إلا وفقا لأصول معلومة ليست في المتناوَل بمُجرّد الرّغبة...
من ثمّة،يُمكنُ في ذات السياق إدراج مضامين من محاضرة ألقاها يوم 4/9/2011 بواشنطن الوزير الأوّل للحكومة المؤقّتة "الباجي قايد السبسي"،يُمكن اعتبار التأويل في محلّه لِمَا قاله - وهو يُقرّ بأنّ الانتقال الراهن في تونس نحو الديمقراطية يشكل عملية سياسية أكثر تعقيدا من بناء دولة بعد الاستقلال،(وهو الذي تقلّب في عديد المسؤوليات مُسهما في بناء دولة الاستقلال)...هذا الشيخ الثمانيني المُحنّك الذي قادته أقداره في خريف عمره إلى أن يسُدَّ شغورا ضروريا لسلطة فاسدة أطاحت بها ثورة شعبية أغلبيّة صنّاعها في عمُر الزّهور،شبابٌ يتّقد حيويّة واندفاعا...هذا الذي ليس من المبالغة في شيء القول: يَحكم ولا يَحكم،وفقا لمشيئة إرادة شعب تتنازعها تجاذبات تارة تجعل منه الوزير الأوّل ممُثّل السلطة في البلاد عن جدارة،وتارة أخرى يُسحَب منه البساط حيث لا حول ولا قوّة له بما يفتح الباب على سيناريوهات،ليست في جملتها ورديّة..ممّا يشدّ الاهتمام فيما قاله الباجي قايد السبسي :"المراحل الانتقالية صعبة في كل البلدان التي عاشت ثورات بل هي أصعب من بناء دول جديدة... لقد تابعنا العمليات الانتقالية التي حصلت في أنظمة مثل اسبانيا والبرتغال وكذلك في دول الشرق. وصدّقوني، إنّ المرحلة الانتقالية بالغة الصعوبة. إنها اكثر صعوبة من بناء دولة..".
"إنّ الربيع العربي انطلق من تونس، لكنه لن يكون ربيعا إذا ما توقف عندها..."
في كلّ الحالات،لم يكن متاحا للوزير الأوّل التونسي أن يُسمّيَ الأشياء بغير ما تستوجبُه من تسمية وتوصيف...ليس بإمكانه،مثلا،أن يقول:"بناء دولة الاستقلال،بالأمس،كان-على علاّته-أفضل من المطالبة اليوم بالديمقراطية والحرّيّة والكرامة...الحنكة التي لا تعوزه-إن لم يكن الصّدق- تسمح له بالقول:إدارة استحقاقات الحاضر أصعب من إدارة استحقاقات الماضي،لا أرقى منها شأنا...لكنْ كان عليه أن يُضيف: لا زعامة بعد اليوم إن أرادت الشعوب العربيّة أن تنتقل إلى عصر الديمقراطيّة،الديمقراطيّة منهجا في الحكم لا تحتاج إلى تأليه فرد،مهما كانت عبقريّتُه،بل هي تتعارض،تماما،مع الزّعامة الفرديّة أيّا كانت الشرعيّة التي تدّعي الاستناد إليها،إذ لا شرعيّة إلاّ لمؤسسات الدولة التي تُفرز نُخبها وفقا لمبدإ التّداول على السلطة...
إذ تثور الشعوب العربية،اليوم،على زعامات الاستبداد المحلي مُطيحة بها،فإنَّ ذلك ليس إلا عُنوانا على صحوتها وعزمها على أن تمتلك القدرة على سيادة نفسها دون حاجة إلى ذلك الزّعيم المنقذ الذي يرتهن إرادتها ويستعبدها...لكنْ أن تضطرّ إلى الاستغاثة مُستنجِدةَ بأحفاد مستعبديها بالأمس،أيْ بالاستعمار الأجنبيّ الذي قاومته و أطردته بعد أن دفعت الغالي والنفيس ثمنا لتحقيق ذلك،أن تناشده مساعدتها على تخليصها من استبداد طغاتها المحلّيّين فتلك قمّة المأساة...إنّها مأساة شعوبٍ أعوزتها الحيلة في أن تنشُدَ خلاصا في غير الاضطرار إلى الاستغاثة بعدوّ الأمس من أجل الانعتاق من جبروت عدوِّ اليوم "جلاّدِها المحلي"...
في ذات السّياق يُمكن تنزيل معنى أنّ الرّبيع العربيّ لن يكون ربيعا إذا توقّف عند البلد الذي انطلق منه تونس...هذا لا يعني أنّ الرّبيع التونسيّ ليس عربيا،بل إنّه لا يُمكن لتونس أن تكون واحة في فضائها العربي وهو يشكو الجدب والقحط،إمّا أنْ يُلامس ربيع تونس بسحره سائر الوطن العربي وإلاّ اكتسحت الصحراء العربية ربيع تونس فأبطلت سحره...الشعب الليبي لم يترك متّسعا من الوقت لطاغيته القذافي ليُحوّل ربيع تونس إلى جدب وخراب-رُبَّما بأيادي تونسية يسندها-،ثار عليه ثأرا لكرامته المهدورة وتعاطفا مع ثورتي تونس فمصر...
وعليه،وبذات المفهوم،أيضا،نرفع الحرج على الشعوب العربية التي استنجدت بعدوّ الأمس الأجنبي لتتخلّص اليوم من عدوّها المحلي أو راعيها الذئب الذي طغى وتجبّر واستباح الأرض والعرض وشرّدها وجوّعها وسفك دماءها...إنّ الشعوب العربية-ويا للمفارقة-إذ تستعين بالأجنبيّ فلأنّها تعلم أنّ الشقيق غير قادر على نجدتها وهو يشكو مثلها نفس الدّاء العضال،تماما،كما تدرك أنّ الاسعاف الذي يأتيها من بعيد ليس بلا ثمن...
أنّى لهذه الشعوب المقموعة أن تنشُدَ خلاصها في غير ما أجبِرتْ على الاستجارة به وهي التي فاجأتها أبشع مشاهد التاريخ وحشيّة مجسَّمة في حكّامها الطغاة الذين،دون حياء ولا خجل،اعتبروها جرذانا تُلاحق"زنقة زنقة وبيتا بيتا" ترويعا وتهجيرا وإبادة...ما عسى أن تفعله شعوب لحكامها الطغاة الذين فقدوا كلّ حسّ قيادي وإنساني وتفتّقت مواهبهم الاستبداديّة على التّفنّن في ذبحها؟..ماذا عسى أن تفعله شعوب لحكامها الذين يعتبرون مطالبتها بالحرية والديمقراطية والكرامة جريمة أشنع من كلّ جرائم التشريعات الدينية والوضعيّة تستوجب عقابا بالإبادة الجماعيّة من أجل استمرار حكم "الطاغية المتألّه"؟..
التعليقات (0)