لا كما يفعلُ الرّومان
عن الاستحمام مع صبيّةٍ جميلةٍ :
لستُ مولعًا بالكتابة عن المدن التي أمرّ بها ، ولكنّ عذري أنّي لم أفتن من قبلُ بمدينة كهذه . حيث أنّ الحديث عن (إيطاليا) بشكلٍ عام يُشبه كتابة قصيدة عن صبيّةٍ فادحة الجمال وهي تستحمّ . فيما الحديث عن (فلورنسا) يشبه استراق النظر إلى صبيّة فادحة الجمال – أيضًا - وهي تستحمّ . أمّا الحديث عن (روما) فيشبه الاستحمام مع ذات الصبيّة فادحة الجمال ؛ ولكَ – قارئي - أن تتخيّل اللّذّة .. إلخ .
في أنّ (روما) ابنة الخلود :
منذ أن تحطّ على أرض مطار ليوناردو دافنتشي (فيوميتشينو) [35 كم غرب العاصمة روما] ؛ عليك أن تتوقّع أن يجيبك الآخرون بالإيطاليّة وإنْ كنتَ تتحدّث معهم الانجليزيّة . وهكذا كانت أولى مراحل لغة الإشارة بيني و بين السائق المرح الذي اجتهدتُ في إفهامه عدم اتقاني الإيطاليّة ، فيما اجتهد هو في شرح وجهة نظره حول أسباب تأخّر موعد وصولي بالإيطاليّة .. !!
الإيطاليّون شعب سعيد .. رغم مشاكله الماليّة – قياسًا بدول أوربّا - يبقى سعيدًا . شعب يحبّ الحياة ، ولغة الحياة ، و موسيقى الحياة ، وفنون الحياة ، و رياضة الحياة .. لا يمكن أن يشعر المرء بالملل وهو في أحد شوارع (روما) . وعلى ذكر الشوارع فبالنسبة لرجل مثلي قادم من دولة أوربيّة تسير على المسطرة كـ (السويد) كان عبور الشوارع في (روما) يستوجب العودة بذاكرتي إلى أيام اللاّقانون في (بغداد) و (طرابلس) و (عمّان) لأنّ عبور شارع عريض في (روما) مغامرة من نواح عدّة .
أقمتُ في فندقٍ على الجانب الشرقي من نهر (التيبر | Tevere) ، و لم يفصلني عن محطّة (روما) المركزيّة سوى بضع دقائق مشيًا ، ومن هنا كانت الرحلة أجمل مما توقّعتُ .. حيث معظم معالم المدينة الهامّة يمكن الوصول إليها سيرًا على الأقدام وبجهد معقول . ناهيك عن أنّ السير في شوارع و أزقّة (روما) يشابه – مجازًا – السير على رف مزدحم بالمقتنيات في محلّ لبيع الأنتيكات . لا يخلو طريق من منحوتة أو تمثال أو نصب أو كنيسة أثريّة أو نافورة أو حتى مضخّة ماء كلاسيكيّة . المدينة تحفة من الناحيّة الجماليّة ، لا يمكن مقارنتها بأيّة مدينة عصريّة قائمة حتّى الآن . كلّ شيء يقودك إلى الإنصات إلى صوت التاريخ ، و شفاعة المجد .. كلّ شيء يعبّر عن نفسه بنفسه . كلّ شيء يهمس في أذنيك (لقد كانوا هنا .. مرّوا من هنا) .
أزقّة الفن الخالص :
لقد كانت كنيسة (Basilica Di Santa Maria Degli Angeli) لـ (مايكل آنجلو) [المُنجزة عام 1566 مـ ] ، وهي توليفة بارعة من التشكيل والنحت أوّل ما زرته نظرًا لقربها الشديد من الفندق . وهنا تحسّستُ أولى خطواتي كطفل يخطو بكلّه على جسد أمّه . و لمّا كنتُ أبعد ما يمكنني عن الاعتناء بقيمة الأماكن من الناحيّة الدينية أو الفكريّة .. اتّجهت بكلّي إلى قراءة الزوايا من النواحي الفنيّة والجماليّة ، فكانت دهشتي أكثر إفراطًا . وبعد أن أنهيتُ تلك الجولة السّريعة خرجتُ من باب الكنيسة لأجدني أمام ساحة (Piazza della Repubblica) لـ (غيتانو كوخ) [المُنجزة عام 1898 مـ ] ، حيث يشكّل المبنيان قوسين تتوسّطهما نافورة هي قطعة دقيقة الجمال والبراعة . ولأنّ الإنسان كائن مفطور على الفضول و حبّ الاكتشاف فلن يتوقّف ما لم يشبع نهمه ، ولم أكن قد شبعتُ حين أكملت سيري على جادّة (Via Nazionale) لأمرّ من جوار مبنى (Palazzo Delle Esposizioni) لـ (بيو بياتشينتيني) [المُنجز عام 1883 مـ ] وقد تمّ تعديل تصميمه في مرحلة إيطاليا الفاشيّة . المبنى يضمّ عددًا من صالات العرض و السينما و المسرح والمقاهي و غير ذلك الكثير . وعلى ذات الشارع بعد مسافة بسيطة انتصبت أمام عينيّ مسلّة (Colomna Traiana) [المُنجزة 113 مـ] ، تخليدًا للإمبراطور الروماني (تراجان) .. والتي يفصلها شارع واحد عن المبنى الأخّاذ الهائل – حجمًا وفنًّا - (Vittoriano) لـ (جوزيبي ساتشوني) [المُنجز في ظلّ إيطاليا الفاشيّة عام 1935 مـ ] و الذي يعتبر نصبًا لتخليد ذكرى أوّل ملوك إيطاليا الموحّدة (فيكتور إيمانويل الثّاني) . وللأمانة ؛ فأنا ما زلتُ مأخوذًا ببراعة هذا البناء ، إنّه أجمل بكثير من أن يكون لمجرّد تخليد ذكرى رحيل ملك عظيم ، أنّه عمل متقن فنّيًّا ومعماريًّا .. مقتن جدًّا ، ومن هنا كان ولعي به .
الكولوسيوم ؛ مجد الإمبراطوريّة :
لا أخفي انبهاري بآثار (روما) الامبراطوريّة أكثر من المشاهد و المعالم المرتبطة بالدين بشكل عام . فبعد أن عبرت كنيسة (Basilica Di Santa Maria Maggiore) لـ (فرناندو فوغا + تصميمات سابقة لـ جوليانو سانغالو) [ المُنجزة عام 1743 مـ ] كانت رحلتي إلى تُحفة المعمار الـ (Colosseo) [المُنجز عام 80 مـ ] في عهد الإمبراطور (تيتوس) . وهنا يجب أن نتوقّف قليلاً و نقول بأنّ هذا البناء لا يشبه أيّ شيء آخر مهما كانت جماليّته و براعته ؛ فهو أخّاذ من الخارج كما من الداخل . مجرّد وقوفي أمامه أشعرني بأنّي جوهرة في تاج ، أو حجر كريم في قلادة تتدلى على صدر عاشقة رومانيّة . هذا البناء ليس ترفًا فقط ، ولا يعنيني تاريخه المرعب وحفلات الدّم التي كانت تقام بداخله ، و لكنّني معنيُّ بالإتقان الذي عَبَرَ الألفيّتينِ و ما زال مبهرًا كما في أوّل مرّة .. رغم أنّي لم أكن موجودًا في أوّل مرّة .. ولكنّه كان مهيبًا .. بلا شك . وبنسبة أقل منه – إذا لا شيء يصمد أمام الكولوسيوم – يبهرنا منظر (Arco Di Costantino) [المُنجز عام 315 مـ ] . وهو قوس أُقيم تخليدًا لانتصار الإمبراطور (قسطنطين الأوّل) على غريمه (ماكسيميانوس) . و (قسطنطين) هذا أحد أكثر الأباطرة الرومان إثارةً للجدل ، حيث تحوّلت الإمبراطوريّة الرومانيّة في عهده إلى الديانة (المسيحيّة) .. وتمّ تعميده وهو على فراش الموت ، و بعض المصادر – المستقلّة - تقول بأنّه لم يعمّد أصلاً .
(برنيني) ؛ حين ينطق الحجر :
نظرًا لبُعد المسافة ؛ استأجرتُ سيارة لتقلّني إلى حيث ينطق الحجر .. أو هكذا قيل لي . ذهبتُ إلى ساحة (Piazza Navona) حيث نوافير (Fontana Del Moro) لـ (برنيني) [ المُنجزة عام 1654] ، تتوسّطها مسلّة مصريّة ، وتحيط بالسّاحة ككل مجموعة من المباني التي تحتفي بالورد و أصيصات النبت الأخضر ، فيما المقاهي والمطاعم تشعل الطوابق الأرضيّة بالحركة مشكّلةً حزامًا من المتعة . أمّا الرسّامون فيفترشون الساحة منقسمين إلى فريقين أحدهما يرسم الشخصيّة كاريكاتوريًّا مقابل 10 – 20 يورو ، فيما الفريق الآخر يرسم البورتريه جادًّا مقابل 30 – 40 يورو .
ما أن تفارق السّاحة من وجهها الغربي حتى تمر عبر طريق متعرّجة - نوعًا ما - على مجموعة من المعالم الباهرة التي سأذكرها بسرعة كـ (Pantheon) [المُنجز عام 126 مـ ] ، والبانثيون هو معبد لجميع آلهة روما القديمة قبل أن تتحوّل إلى المسيحيّة تمّ تشييده في عهد الإمبراطور (أدريان) . ثمّ معبد (Tempio Di Adriano) [المُنجز عام 145 مـ ] في عهد الإمبراطور (بيوس) تخليدًا و تأليهًا لوالده بالتبنّي (أدريان) . ثمّ مسلّة (Piazza Colonna) [المُنجزة عام 193 مـ ] تخليدًا للإمبراطور (ماركوس أوريليوس) . و إلى الشرق من المسلّة وعلى مسافة دقائق سيرًا على الأقدام سيقف المرء على واحدٍ من أكثر معالم (روما) دهشة ، و أشهر نوافير العالم الباروكيّة على الإطلاق .. إنّها (Fontana Di Trevi) لـ (سالفي) [المُنجزة عام 1762مـ ] ، هنا وجدت الناس سكارى فعلاً .. وحين أقول الناس فأنا أعني جموعًا غفيرة لا نهاية لها ، حتّى أنّ التقاط الصور التذكارية الصالحة للعرض سيحتاج إلى نضال و دأب شديدين لشدّة الزحام و الاحتكاك .. إلخ .
السلالم الإسبانيّة ؛ فتنة العلوّ :
تبلغ 138 درجة سلّم .. إنّها (Scalinata Della Trinita Dei Monti) لـ (أليخاندرو سبيتشي + تصميمات سابقة لـ فرانسيسكو دي سناتشيز) [ المُنجزة عام 1725 مـ ] . حيث تقع في نهايتها (نافورة القارب القديم ) (Fontana Della Barcaccia) لـ (برنيني الأب + برنيني الإبن) [ المُنجزة عام 1627 مـ ] . ويمكن قراءة هذه التحفة بطريقتين ؛ الأولى أنّها بُنيت من أجل ربط مقرّ السفارة الإسبانيّة لدى الكرسي الرّسولي في الأسفل بكنيسة (Basilica Di Trinita Dei Monti) بالأعلى .. وبقيت هذه المنطقة مثار جدل ؛ حتّى انّها اُعتبِرت جزءًا من الممتلكات الإسبانية و دخولها – في القرن السابع عشر مثلاً – كان يعني دخول الأراضي الإسبانيّة . إنّها مكان مزدحم تمامًا ، الجميع يتحرّك و يحدّق بالسلالم وبالمشاة ثم بالكنيسة في الأعلى ثم يلتقط صورة تذكاريّة .. ثم يعود إلى مراقبة المارّة .. إلخ .
أمّا الطريقة الثّانية لقراءة تلك المنطقة فهي أن يشاهد المرء أغنية (قولي أحبّك) لـ (كاظم الساهر) ليعرف عمّ أتحدّث بالضبط .. حيث صوّر بعض مشاهدها في هذا المكان مع فتيات جميلات ارتدين الأبيض و رقصن طوال اليوم بلا كلل أو ملل .. !!
رمسيس الثّاني في (روما) :
ومن أحد تفرّعات (Piazza Di Spagna) أسفل السلالم الإسبانيّة نصل إلى جادّة (Via Condotti) حيث تقبع – وهذا لهواة ومدمني الماركات - فروع أهم دور الأزياء و الماركات العالميّة مثل (Armani ، Hermes ، Cartier ، Louis Vuitton ، Fendi ، Gucci ، Prada ، Chanel ، Dolce & Gabbana ، Salvatore Ferragamo) ومنه إلى جادّة (Via Del Corso) التي ستؤدّي بنا إلى ساحة (Piazza Del Popolo) لـ (فاليدير) [المُنجزة عام 1822 مـ ] و التي تتوسّطها مسلّة (رمسيس الثّاني) ثالث فراعنة الأسرة التاسعة عشر في (مصر) ، والتي نهبها الإيطاليّون – على مايبدو - من (هيليوبولس) شمالي (القاهرة) و غرسوها في ساحة (Piazza del Popolo) شمالي (روما) . على طرف هذه الساحة تناولتُ طعام الغداء في مطعم (Rosati) المبهج .. وفي هذا الساحة – تمامًا – تولّدت لدي الرغبة الكاملة في كتابة هذا المقال .. !!
تُجاور ساحة (Piazza Del Popolo) بمسافة معقولة ؛ مجموعة حدائق ومتنزّهات (بورجيزي) (Villa Borghese Giardino) لـ (فازانسيو + تصميمات سابقة لـ فلامينيو بونيتسيو) [ المُنجزة بشكلها الحالي عام 1903 مـ ] . تمتدّ الحدائق على مساحة تتجاوز الـ 80 هكتارًا . لقد استمتعتُ بتجوالي عبر الحدائق و مشاهدة البحيرات ومعبد (اسكولابيوس) ذي الطراز الأيوني (Tempio Di Esculapio) لـ (آنتونيو أسبيروزي + ولده ماريو أسبيروزي) [المُنجز عام 1786 مـ ] ، و مجموعة تماثيل من ضمنها تمثال للشّاعر الرّاحل (أحمد شوقي) .. و الذي ذهبتُ إلى الحديقة خصيصًا لمشاهدته رغم رأيي – الذي لم يتغيّر - في منجزه الشّعري بشكلٍ عام .
الفاتيكان ؛ ذاكرة الفن :
برفقة مرشدة و مجموعة من السيّاح السّعداء ؛ امتطيتُ باصًا لعبور جسر (Ponte Vittorio Emanuele II) الرابض على نهر (التيبر) و الموشّى بالمنحوتات والتماثيل المدهشة ، والمحاذي من جهة اليسار لقلعة (Castel Sant Angelo) المهيبة و التي يُعتقد بأنّها تعود إلى عهد الإمبراطور الرّومانيّ (أدريان) .
قطع الباص السياحي جادّة (Via Stefano Porcari) إلى (متاحف الفاتيكان) (Musei Vaticani) حيث إرث الإنسانيّة من كنوز الفن التشكيلي متراكم بشكل يدعو إلى الحسد .. !!
كانت رحلة المتاحف رائعة بحق ، استفدتُ منها كثيرًا و أضفتُ إلى معلوماتي الكثير . هناك اطّلعتُ على الحدائق والمقتنيات التي تعبّر عن تمازج الحضارات ، وهناك أيضًا شاهدت عيانًا أعمال (مايكل آنجلو) الخالدة و أهمّها على الإطلاق سقوف كنيسة (سيستاين) (Cappella Sistina) وأهمّ ما في الأهمّ لوحتا (الخلق) [المُنجزة عام 1512 مـ ] بعد قُرابة خمسة أعوام من العمل المجهد معلّقًا بالسقف . و (القيامة) [المُنجزة عام 1541 مـ ] بعد سبعة أعوام من الجهد . لقد أضافت شروحات مرشدتنا السياحيّة أبعادًا أخرى لرؤيتي السّابقة ، ولقد استمتعت بمشاهدة هذه التحفة الفنيّة رغم منعنا من التصوير دخل القاعة من أجل الحفاظ على ألوان الرسومات .
خلال جولتي في المتاحف اطّلعتُ أيضًا على سلسلة التماثيل التي قام (البابا بيوس التاسع) بإخصائها عام 1857 لأنّها مثيرة جنسيًّا ؛ مشوّهًا بذلك أعمالاً فنيّة قيّمة لـ (آنجلو) و (برامنتي) و (برنيني) ، و مستخدمًا بالتالي أوراق شجر التين لرقع النواحي المتضرّرة . وإمعانًا في جلد الذات قمتُ بالتقاط صورةً تذكاريّةً مع هذه التماثيل المخصيّة .. !! وهبطتُ بعد ذلك عبر سلالم المتحف العجيبة التي يتوازى فيها الصاعد مع الهابط بهندسة لطيفة لا تدركها العين مباشرةً .
بعد ذلك استمتعتُ بالمشي على جادّة (Via Della Conciliazione) المؤدّية إلى ساحة (القدّيس بطرس) (Piazza San Pietro) لـ (برنيني) [المُنجزة عام 1667 مـ ] ، حيثُ تقع في نهايتها كنيسة (القدّيس بطرس) (Basilica Di San Pietro) بقبّتها الشّهيرة لـ (مايكل آنجلو) [ المُنجزة عام 1546 مـ ] .
في أنّ (فلورنسا) حكاية لا تنتهي :
كقطرة حليب خاثرة على شفة الأرض .. تسرّبت (فلورنسا) الشّهيّة من حلمة ثدي القدر . هكذا أحبّ أن أصفها لأنّها تقول الكثير دون أن تجهدنا بالثرثرة . هذه المدينة كلّ ما فيها شاهق القيمة ، غائر في محاكاة الجذور . ليس من السهل على المرء أن يخطو على شوارع تزيّنها أعمال (مايكل أنجلو) أو (دي كامبيو) أو (أماناتي) أو (تشيلليني) . ليس من السهل أبدًا أن تقف على ضفاف نهر (أرنو) لتنظر إلى مدينة غير معنيّة سوى بالفن .. !!
ساحة الكاتدرائيّة ؛ قُبلة سقطتْ من فم السّماء :
مركّب أو هجين متناسق ؛ لا تكاد العين أن تميّز أنّها أمام توليفة ثلاثيّة كان من المفترض أن تحتويها بناية واحدة ؛ فإذا بالجرس في بناء و الكاتدرائيّة في آخر و بيت المعموديّة في ثالث لتصبح بعد ذلك واحدة من أهم معالم إيطاليا . الكاتدرائيّة (Cattedrale Di Santa Maria Del Fiore) لـ (دي كامبيو + برونيليتشي) [المُنجزة بشكلها الحالي عام 1436مـ ] هي الأجمل على الإطلاق وتعود بجذورها الأولى إلى القرن السادس الميلادي . ثمّ يليها في البراعة واستلاب البصر مبنى الجرس بطرازه القوطي (Campanile Di Giotto) لـ (جيتو بوندوني) [ المُنجز بشكله الحالي عام 1435 مـ ] ولكنّ العمل فيه يعود إلى بداية القرن الرابع عشر . ثمّ مبنى (معموديّة سان جوفياني) (Battistero Di San Giovanni) ذو الشكل المثمّن بأسلوب يزاوج بين الأقواس العربيّة و الفن الرومانسكي و اللمسات القوطية .. ويُقال بأنّه بُني في القرن العاشر الميلادي ، فيما يرى آخرون (دانتي ألفيري مثالاً) أنّه من بقايا الوثنيّة الرومانيّة ؛ حيث كان مكرّسًا لعبادة الإله (مارس) ربّ (فلورنسا) القديمة .. وتمّ تطويره فيما بعد ليلائم متطلّبات الديانة المسيحيّة . ومن الغريب فعلاً أنّ يصدر هذا الكلام عن (دانتي) وهو شخصيًّا قد تمّ تعميده في هذا المكان . عمومًا أهمّ ما في هذا المبنى أنّه يحتوي على نسخة طبق الأصل من الباب الذهبي (بوّابة الجنّة) (la Porta Del Paradiso) لـ (غيبرتي) [ المُنجزة عام 1422 مـ ] إذ أمضى الرّجل قُرابة 21 عامًا يعمل عليها مستلهمًا مشاهدها المحفورة في عشرة صورة ذهبيّة من قصص العهدين (القديم | الجديد) . حاليًّا يتمّ إصلاح و صيانة النسخة الأصليّة بتبرّع سخيٍّ من أحد رجال الأعمال اليابانيين كما أخبرتنا المرشدة . و بحسب كلام مرشدتنا السياحيّة – أيضًا - فإنّ بناء هذا الصرح احتاج للمزاوجة بين خمس مدارس فنّية | معماريّة من بينها العربيّة | الإسلاميّة بالطبع . المكان ساحر من الخارج والداخل ؛ و إن كان الداخل أكثر قتامةً بسبب عملية الحفاظ على الرسوم و المنحوتات من تأثيرات الضوء .
عمومًا ؛ المرء لا يكاد أن يشعر بأنّه يتجوّل في معلم ديني إلاّ حين تقع عيناه على صليب أو رسم أو أيقونة من ذوات الطابع الإيماني .
ساحة السّيادة ؛ جسارة الإزميل :
اسمها (Piazza della Signoria) و في أحد أطرافها يقع قصر (Palazzo Vecchio) لـ (دي كامبيو) [ المُنجز عام 1299] ذو الطراز الرومانسكي السّائد في القرون الوسطى ، والذي يضمّ الآن أعمالاً لـ (آنجلو) و (برونزينو) و (فازاري) . الساحة بشكل عام عبارة عن قطعة فنيّة فاخرة تطالعك من جهة اليمين بجوار قصر (Palazzo Vecchio) تماثيل (اغتصاب نساء سابين) (Ratto delle Sabine) لـ (جان بولونا) و (بيرسي حاملاً رأس ميدوزا) (Perseo con la testa di Medusa) لـ (تشلليني) . فيما تنتصب بجوار مدخل القصر نسخة طبق الأصل من تمثال (داود) الشّهير (David) لـ (مايكل آنجلو) . و على الطرف الأيمن من القصر تقع نافورة (ينبوع نبتون) (Fontana del Nettuno ) لـ (أماناتي) . و على يمينه تمثال ( كوسيمو ميدتشي .. دوق توسكانا الأكبر) (Cosimo I De Medici) لـ (جان بولونا) .
متحف الأكاديميّة ؛ ومضة الكمال :
هذا المتحف – وهو أقدم مدارس ومتاحف الفنّ في أوربا إذ تأسس في 1563 مـ - يجب أن يغيّر اسمه إلى متحف (داود | David) إذ أنّ جميع من يدخل المتحف يعتني بأعمال (مايكل آنجلو) دون سواه ، وبالأخص بالنسخة الأصليّة لتمثاله الأشهر (David ) [ المُنجز عام 1504 مـ ] . التمثال (حوالي 6 أمتار) عبارة عن تحفة في عالم النحت والتشريح ، وقد قام (آنجلو) بدراسة التشريح لعدّة سنوات من أجل إتقان التفاصيل ، و قام أيضًا استلهام قصّة (داود) كما وردت في (العهد القديم) و كيف أنّه قتل (جالوت) بالحجر .. إلخ ؛ حيث يقول النصّ :
(وَعِنْدَمَا شَاهَدَ دَاوُدُ الْفِلِسْطِينِيَّ يَهُبُّ مُتَقَدِّماً نَحْوَهُ ، أَسْرَعَ لِلِقَائِهِ وَمَدَّ يَدَهُ إِلَى الْجِرَابِ ، وَتَنَاوَلَ حَجَراً لَوَّحَ بِهِ بِمِقْلاَعِهِ وَرَمَاهُ ، فَأَصَابَ جِبْهَةَ الْفِلِسْطِينِيِّ ، فَغَاصَ الْحَجَرُ فِي جِبْهَتِهِ وَسَقَطَ جُلْيَاتُ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى الأَرْضِ وَهَكَذَا قَضَى دَاوُدُ عَلَى الْفِلِسْطِينِيِّ بِالْمِقْلاعِ وَالْحَجَرِ وَقَتَلَهُ) [صموئيل الأوّل . 17 : 48 – 50] .
وفي الأساطير الإسلاميّة أيضًا شيءٌ من هذا القبيل . عمومًا ؛ استلهم (آنجلو) هذه القصّة وبنى عليها جسدًا خرافيًّا لشاب في كامل فتوّته و قدرته و انتشائه بالنصر الذي حقّقه . وعلى أيّة حال فالتمثال رائع بحق ، طفتُ حوله و شاهدتُ براعته عن كثب ، و اقتنصتُ فرصة نادرة في أن ألتقط صورة تذكاريّة إلى جواره حيث أنّ الحرّاس والمراقبين يمنعون ذلك منعًا باتًا وبشكلٍ مخجلٍ يعرض الزائر للطرد في بعض الأحيان .. ولكنّ الأمر يستحق المغامرة في رأيي .
في القاعة المجاورة لصالة (داود) تصطف ست منحوتات غير مكتملة ؛ وهي لـ (مايكل آنجلو) أيضًا وأهمها تمثال (الشّفقة) (Pieta) الذي يمثّل المسيح محمولاً بواسطة أمّه (مريم) و رفيقته (المجدليّة) بعد صلبه . و أيضًا هناك تمثال (عبودية أطلس) (Atlas Slave) مستلهمًا الميثولوجيا الإغريقيّة هذه المرّة في تصوير الكائن الجبار الذي يحمل قبّة السماء إثر عقوبة من الرّب (زيوس) بعد اجتياح الأوّل لجبل (الأولمب) . وغيرها من الأعمال الرائعة و غير المكتملة للأسف حيث لم يكن بوسعه – أي مايكل آنجلو – أن يقوم بأكثر مما قام به رغم أنّه عمّر طويلاً قُرابة الـ 90 سنة في زمن كان معدّل الأعمار فيه لا يتجاوز الـ 50 عامًا .
سانتا كروتشي .. كلّ أسلافي هنا :
حيث تقع كنيسة (Basilica Di Santa Croce) لـ (دي كامبيو على الأرجح) [ بُدء العمل بها في 1294مـ ] . إحدى أكبر كنائس الفرنسيسكان حول العالم ؛ دُفن بداخلها مجموعة من ألمع الإيطاليين النورانيين مثل (مايكل آنجلو ، غاليليو ، مكيافيللي ، جنتيل ، روسيني ، وماركوني .. و غيرهم) و ينتصب بجوار مدخلها الأمامي تمثال رخاميّ (حوالي 10 أمتار) للشّاعر الإيطالي الشهير (دانتي أليفيري) صاحب (الكوميديا الإلهيّة) يجاوره صقر جارح و يحيط بقاعدته أربعة أسود . الساحة عبارة عن صورة بانورامية للتناسق والانسجام تُحفر داخل الذهن ولا تفارقه .. أحببتها جدًّا و وددتُ لو أنّي قضيتُ وقتًا أطول فيها لولا ارتباطي بمواعيد رحيل الفوج السياحي الذي أتيتُ معه .
خاتمة الطواف :
في الختام سأترككم مع مقتطفات من صورٍ التقطتها لمعالم منتقاة خلال رحلتي ، مع وعدٍ بأن أعود يومًا إلى (إيطاليا) و أكمل مشواري مع مدن أخرى لم يسعفني الوقتُ لزيارتها كـ (ميلان) و (بيزا) و (البندقيّة) و ( نابولي) و (صقلّية) .. سأعود يومًا إلى تلك الرقعة التي لا تشبه أوربّا سوى في طقسها المتوسطي الساحر .. ولا تشبه العرب سوى في ثرثرة وبساطة معشر أهلها ؛ حيث لا يحتاج المرء لكثير مقدّمات كي يندمج مع الجموع .
(إيطاليا) لا تشبه سوى نفسها حين تعارض المثل الرّوماني الشّهير : (إن كنت في روما فافعل كما يفعل الرّومان) ؛ فيما الواقع – أقصد واقع إيطاليا – كان يشدّني من خصل شعري إلى الأعلى .. بشكلٍ مرْهَفٍ و بلهجةٍ آمرةٍ : في روما اِفعل كما يحلو لك .. لا كما يفعل الرّومان .. !!
تنويه :
استعنتُ بالموسوعة الحرّة (ويكيبيديا) من أجل دقّة أسماء الأماكن والتواريخ .
سَعْد اليَاسِري
السّويد
حزيران | 2009
التعليقات (0)