الانتخابات تمت .... لكنها على الأرجح لم تمر ولن تمر!
لا قضاة ولا مراقبين دوليين..والجنجويد المصريين "عملوا الواجب وزيادة"
بقلم/ ممدوح الشيخ
العنف الوحشي قد يعني اتجاه دوائر في النظام لخيار "إما أن نحكم هذا البلد أو نحرقه"!
الانتقال من "القمع الأمني" إلى العنف الأهلي خيار اليائسين
تغير نوعي في موقف الاتحاد الأوروبي....وانتظروا تغيرا عاصفا في المزاج السياسي المصري
الصلف في استبعاد الإخوان والأحزاب قد يدفع الجميع نحو خيار مواجهة شاملة مع النظام
كلام صفوت الشريف عن البلد الذي يعرفه ككف يده لن يخفي الصدع الكبير في الحزب الوطني
إذا اختار النظام الاستمرار كما هو فسيتحول من "الدولة البوليسية" إلى "دولة الجنجويد"
في كتابه "رحلة الشاه الأخيرة" كشف الصحافي البريطاني وليم شو كروس عن حقيقة أن ما كتب شهادة وفاة نظام الشاه فعليا كان الخط الأحمر الذي وضعه سفيرا أمريكا وبريطانيا على سفك دماء المعارضين، وقد نجح سفك الدم في تأخير سقوط النظام لكنه لم يستطع منع هذا السقوط في النهاية، والانتخابات الأخيرة انطوت على دروس وعبر شديدة الأهمية، قد يفيد في فهمها استحضار حقيقة أن "التواطؤ الغربي" هو ما يمكن الأنظمة المستبدة في العالم الثالث من الاستمرار لا تماسك هذه الأنظمة أو تغول أجهزتها الأمنية.
نهاية "التفاهمات الضمنية"
وهذا "التواطؤ" كان يبدو حتى وقت قريب بلاغة لفظية أو ميلا غير موضوعي لافتراض وجود "مؤامرة" غربية تستهدفنا، لكن الظاهرة بدأت تتحول إلى حقيقة من حقائق التحليل السياسي. والتفاهمات الضمنية لن تجدها مكتوبة في أي وثائق رسمية لكنها حقيقة راسخة. وفي 5 فبراير 2005 خرجت افتتاحية التلغراف البريطانية بمعلومات مثيرة عن "التفاهمات الضمنية" بين النظم الحاكمة في الشرق الأوسط كاشفة عن المعاني الحقيقية للمصطلحات الأكثر أهمية في تحديد العلاقة مع النظم الحاكمة في الشرق الأوسط، وأهم ما كشفت عنه الافتتاحية أن الأوروبيين يتحدثون دائما عن "الاستقرار" ويقصدون به دعم الاستبداد.
وإذا استخدمنا هذا المفهوم التحليلي في فك شفرة الخطاب الرسمي الأوروبي قبل الانتخابات مباشرة وبالتحديد ما انتهت إليه المناقشات المصرية الأوروبية بشأن ضرورة وجود مراقبين دوليين، فسندرك – بلا مواربة – أن الاتحاد الأوروبي أعطى الضوء الأخضر للنظام ليقوم بالمهزلة التي شهدتها الانتخابات، وقد أعرب الأوروبيون عن "تفهم الموقف المصري الرافض للمراقبة الدولية علي الانتخابات"!!.
وبناء على ما سبق فيمكننا تقدير الأهمية غير المسبوقة لتصريح رئيس البرلمان الأوروبي جيرسي بوزيك على الانتخابات حيث قال: "إن مصر تعتبر شريكا رئيسيا للاتحاد الأوروبي ولاعبا أساسيا في الشرق الأوسط، ومصر الديمقراطية أمر مهم لكل مواطنيها، ومصر ديمقراطية بالنسبة للاتحاد الأوروبي لا تقل أهمية عن مصر المستقرة".
فللمرة الأولى في تاريخ العلاقات المصرية الأوروبية ينتقد الأوروبيون بهذا المستوى من المسئولية الانتخابات المصرية، ولأول مرة تصبح "الديموقراطية" في أهمية "الاستقرار".
وقد أدان بوزيك الأجواء المتوترة التي جرت أثناء العملية الانتخابية، وطالب الحكومة المصرية، وأعضاء البرلمان الجديد، بالعمل من أجل تخفيف شروط المشاركة في العمل السياسي، وقال في بيان صدر ببروكسل إن مصر بحاجة إلى تطوير السياسات الحزبية الحقيقية، ولا بد من تعزيز احترام سيادة القانون، وإعطاء مزيد من الضمانات للمرشحين والمجتمع المدني، وينبغي أيضا احترام حرية الصحافة وحماية الأصوات المعارضة، ولا بد للانتخابات المقبلة أن تكون فرصة لإصلاح النظام السياسي، على أن تكون أكثر شفافية وسهولة وتعددية، مع القبول بفكرة دعوة المراقبين الدوليين لمراقبة الانتخابات المقبلة.
وهذا البيان معناه أن المسافة التي كانت تفصل الموقفين الأوروبي والأمريكي من قضية الديموقراطية في مصر قد بدأت تتلاشى، وأن النظام مهدد لأول مرة بأن يفقد "الملاذ الآمن" الذي طالما لجأ إليه هربا من الضغوط الأمريكية. لكن التفاوت في الموقف الأوروبي "قبل" الانتخابات و"بعدها"، يعني أيضا أن صفقة تمت مع نظام مبارك على قاعدة: "خذوا كل ما تريدون...لكن لآخر مرة".!
التصدع الكبير
الدرس الأول في الانتخابات الأخيرة أن النظام الحاكم لم يعد يواجه مشكلة منع الإخوان من الوصول للحكم وحسب، ولم يعد يواجه مهمة تهميش المعارضين من التيارات الأخرى وحسب، بل أصبح التحدي الأخطر – كما كشفت الانتخابات – التصدع الكبير داخل صفوف الحزب الحاكم. وهو تصدع مزدوج، فهناك من ناحية التياران اللذان خرجا للعلن في شأن الترشح لمنصب رئيس الجمهورية، أحدهما انتدب نفسه للدعاية لجمال مبارك مرشحا، والثاني انتدب نفسه للتصريح بأن الرئيس مبارك هو المرشح الوحيد للانتخابات الرئاسية القادمة، بينما الأول أكد في حوار أخير حرص الإعلام الرسمي على إبرازه أنه ليس له طموح شخصي، ومبارك يلتزم الصمت، والدعاية لجمال مستمرة – وإن انخفضت وتيرتها – والتأكيد مستمر وإن لم يخرج الرئيس عن صمته لينفي أو يؤكد.
التصدع الثاني في القاعدة وهو أخطر ودلالاته أكبر، فما حدث في المجمع الانتخابي دليل قاطع على أن مهابة الحزب في نفوس كوادره أصبحت مجرد ذكرى، والطريقة التي تم بها الإعلان عن أسماء مرشحي والتفويض – الذي قطع القضاء ببطلانه – منع كثيرا ممن تقدموا بأسمائهم للمجمع لينالوا "شرف" ترشيح الحزب، لكنه لم يمنع غضبهم وهجومهم الحاد على الحزب، بل لم يمنع بعضهم من التنسيق العلني مع "خصوم" ردا على السلوك الملتوي لقيادة الحزب في اختيار المرشحين وإعلان أسمائهم.
وفكرة أن يترشح عضو بالحزب "منشقا" أو "مستقلا على مبادئ الحزب" (التي هي أصلا غامضة) جميعها كانت حتى سنوات قليلة فكرة لا يجرؤ على التفكير فيها إلا قليلون، والمستبعدون كانوا صداعا في رأس الحزب في دورتي 2000 و2005 أما الآن فهم صدع في بنائه وشهادة وفاه للمهابة الكبيرة التي كانت تحيط بالحزب في نفوس هؤلاء.
فتح الثغرة
الدرس الثاني أن المنعطف الذي حدث في قواعد السياسية نتيجة التحول من نظام الاستفتاء على منصب رئيس الجمهورية إلى نظام الانتخاب بين متنافسين (وهو منعطف كان ثمرة عامل واحد لا غير: الضغوط الأمريكية)، هذا المنعطف لم يكن تحولا شكليا بل كان من دفعوا باتجاهه يدركون جيدا البنية الاستبدادية للنظام، وأنه لا يستطيع الاستمرار إلا بالسيطرة الشاملة. وأن انهياره الحتمي يبدأ بفتح ثغرة في "الجدار العازل" الذي يختبئ خلفه، وكما هو متوقع سينتقل الجدل من "مبدأ" الانتخاب إلى الشروط الضامنة لنزاهة وتنافسية الانتخابات فيتآكل النظام قطعة قطعة.
كما أن فتح الباب للاعتراف – ولو ضمنا – بدور خارجي في التغيير الديموقراطي سيؤدي إلى تحول كل استحقاق إلى محك: انتخابات محليات – انتخابات برلمانية – انتخابات رئاسية....وهو منحدر بدأ ولم يعد من سبيل إلى وقفه. وفيما يتصل بالدعوة إلى التغيير فإن مصر قد وصلت بالفعل إلى نقطة اللاعودة، وولدت بها أنماط من الفعل تعبر عن قوى جديدة يصعب جدا اقتلاعها وإعادة الساعة إلى الوراء.
العنف الأهلي
الدرس الثالث من دروس الانتخابات الأخيرة أن رغبة النظام في حماية أجهزة الدولة من تحمل أي مسئولية قانونية عن الممارسات القمعية جعله يبعد جهاز الشرطة – على نحو ملحوظ – عن التورط المباشر في تزوير الانتخابات والعنف ضد المعارضين، وهو ما كان من المحتم أن يفتح الباب للاعب جديد هو "البلطجية". وقد كتبت عقب الانتخابات الماضية (2005) مقالا "مجهضا" عن انتقال مصر من الدولة البوليسية إلى دولة الجنجويد، لكن ما شهدته الانتخابات الأخيرة أكد أن التحول حدث بالفعل، ويتجه إلى أن يصبح سمة ثابتة في سلوك النظام.
وما حدث من وقائع مرعبة للناشطات السياسيات على سلم نقابة الصحافيين وفي أماكن أخرى من هتك عرض منظم، وما حدث قبل الانتخابات بأيام في جامعة عين شمس من عنف – غير رسمي – لم يخضع مرتكبوه لأية مساءلة، ومظاهرات الهجوم – اللفظي والبدني – على المعارضين و.. ..جميعها وقائع تؤكد ميلاد "دولة الجنجويد" على أرض مصر المحروسة. الفرق بين البلطجية وميليشات الجنجويد فرق نسبي لا نوعي، فالعشوائيات التي نمت بشكل حول القاهرة ومدن أخرى كان تحولا مخططا بشكل جزئي.
وأذكر أنني عندما زرت العراق في العام 2007 التقيت المفكر الماركسي الكردي عز الدين رسول وطرحت عليه سؤالا عن ظاهرة "ترييف المدينة" فروى لي قصة مدهشة. ففي زيارة إلى الصين في إطار العلاقة مع الحزب الشيوعي الصيني أطلعه المسئولون الصينيون على مخططات لخنق المدن الكبرى في الصين بأحزمة من الأحياء العشوائية لعلمهم – من دراسات عن الأسس الاجتماعية للتحول السياسي – أن الديموقراطية ظاهرة مدينية في المقام الأول، أي أنها لا تعيش إلا في مجتمع المدينة وتختنق في مجتمعي: الريف والبداوة. وهذا الخنق المنظم للبيئات الحاضنة للديموقراطية تم في مصر أيضا، وكثير من مدننا التي كانت قبل عقود مدينية الطابع تحول إلى قرى كبيرة، وها هي الثمرة المرة كما ذقناها في الانتخابات الأخيرة.
وفي هذه الانتخابات أيضا بدا بوضوح أن "الريف يحكم مصر"، وأن التصويت الجماعي الكثيف لا يحدث في المدينة، ما يعني أن عملية الهندسة الاجتماعية التي تمت لوأد الديموقراطية قبل أن تولد ما تزال تحكم المشهد السياسي، وربما كانت أحد أهم مصادر إحساس صفوت الشريف بالثقة.
والقوى الاجتماعية التي يجند منها النظام ميليشياته، والقوى الرافضة للتغيير الديموقراطي – بشكل واعٍ أو غير واعٍ – ستكون وقود معركة طويلة، وإن لم يتداركنا الله برحمته فستكون فصولها دامية.
وفكرة العنف الأهلي خيار بائس، وهو قد يكون مؤشرا على أن النظام الحاكم فيه حلقة ضيقة تدفع باتجاه خيار انتحاري خلاصته الشعار القائل: "إما أن نحكم هذا البلد وأما أن نحرقه"، وهو في النهاية، سواء كان خيار أقلية أو أغلبية، سيكون خط الدفاع الأخير عن النظام.
فخ التمني
الدرس الرابع أن من يتأمل سلوك النظام الحاكم في انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشورى وبعدها انتخابات مجلس الشعب الأخيرة لا يستطيع أن يستبعد احتمال أن تكون "الحلقة الضيقة" التي تتخذ القرار قد سقطت نهائيا في فخ "التفكير بالتمني" وأصبحت في حالة عجز تام عن الاعتراف بالواقع، إذ سيكون مما يترتب على هذا قطعيا أن يسهم النظام بنفسه في دفع كل المعارضين – في الأحزاب وخارجها – إلى خوض مواجهة شاملة معه، والعبرة هنا ليست بموازين القوى وحدها، بل إن حاجة النظام للحصول على المشروعية من خلال مشاركة أكبر قدر ممكن من معارضيه في العملية السياسية، لا يقل عن حاجة المعارضين للحصول على مشروعية قانونية من النظام!!!!
والسلطة لا تستغني عن المشروعية – حتى لو كانت مزورة أو مدعاة أو مغصوبة – وإلا لما كان هناك حاجة لتنظيم الانتخابات ولما كانت هناك حاجة لتزويرها.
والصلف الذي تصرف به النظام الحاكم بحق الأحزاب والإخوان والمستقلين ينذر بتحول كبير نحو خيار المواجهة الشاملة، وهناك بالفعل مطالبات داخل بعض الأحزاب بمقاطعة الانتخابات الرئاسية.
قاطعوا تصحوا
أما الدرس الخامس فهو أن الانتخابات الأخيرة – من ناحية أخرى – قد أكدت صحة الخيار الذي دعا إليه الدكتور محمد البرادعي: "المقاطعة لسلب المشروعية من النظام". والنتيجة المحبطة للانتخابات ستسقط – ربما نهائيا – كل ما كان يروج عن أن الرقابة الداخلية كافية أو أن النظام يمكن أن يسمح بانتخابات نزيهة دون رقابة خارجية، وعليه، ستنتهي الممانعة بشأن وجود مراقبين دوليين، فهل تتصاعد الدعوة للرقابة الدولية مع انتخابات الرئاسة؟.
من ناحية أخرى فإن اتساع نطاق الدعوة للمقاطعة سيكون خيارا من الصعب على النظام التصرف إزاءه لا بالترهيب ولا بالترغيب، وسيكون من الصعب عليه أيضا تبريره – أو تسويقه – خارجيا، وهذا التحول في المزاج السياسي سيكون قاتلا إذا نضج في الفترة الفاصلة بين الانتخابات التشريعية والرئاسية، فضلا عن أن الانتخابات الرئاسية ستفضي إلى توتر – ولو محدود – داخل الحزب الحاكم.
ومن مفارقات المشهد الانتخابي الأخير أن التقزيم المنهجي للأحزاب أدى إلى صعود المستقلين والجماعات الاحتجاجية والتيارات السياسية غير المؤطرة حزبيا، ما يعني أن التضييق على الأحزاب جاء بعكس النتيجة المرجوة منه، فبدلا من أن يؤدي إلى تضييق دائرة الفعل السياسي أدى إلى توسيعها. فضلا عن أنه أصبح مشوبا بشيء من الغموض، فهذه الظواهر جميعها "غير متحيزة" في هيكل تنظيمي يمكن رصده وتقويمه وتقييمه، أو حتى ضربه. وهو تحول يشبه – إلى حد ما – الفرق بين مواجهات الجيوش النظامية والحركات غير النظامية التي توفر لها بنيتها التنظيمية مزايا تضع كل من يريد السيطرة الأمنية على تحركاتها أمام مهمة تبلغ الغاية في الصعوبة.
التعليقات (0)