قد تكون لفظة " الديموقراطية" هي الأكثر استعمالا داخل الأوساط السياسية والفكرية والمنتديات العامة في مختلف الدول الإسلامية. وتداولها المكثف هو علامة صحية، على الأقل من حيث أن الوعي بالحاجة إليها يتزايد باستمرار، خصوصا في ظل تداعيات رياح ما يسمى ب" الربيع الديموقراطي" التي هبت على عدد من دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط. غير أن الوعي بالديموقراطية كممارسة سياسية تتوق إليها كل الشعوب من أجل تحقيق الحرية والكرامة الإنسانيتين، هذا الوعي لوحده إذن، يظل غير كاف لبلورتها عمليا، فالديموقراطية ليست مطلبا ينتظر تأشيرة الحكام، ولا مجرد تعبير عن اختيار شعبي أفرزته صناديق الاقتراع، بل هو قبل كل شيء سلوك وتربية وثقافة اجتماعية تتأسس على القدرة على الاختيار، واستقلال الذات واحترام الآخر، واستيعاب القيم الإنسانية الكونية كما تنظمها القوانين المدنية التي تضع الإنسان في صلب اهتمامها، بغض النظر عن أي تصنيف عرقي أو جنسي أو اعتقادي ضيق.
العائق الأساسي الذي يحول دون تقعيد شروط الفعل الديموقراطي في المجتمعات الإسلامية هو أن مظاهر الاستبداد تتجذر عميقا في الثقافة السائدة، وكان للتأويل الديني المهيمن الذي يحكم الوجدان العام دور أساسي في توجيه الثقافة الاجتماعية والمساهمة في تكريس الانغلاق و" الأنا وحدية"، والتصدي لكل ما يخالف الـتأويل " الأرثوذكسي" للنص الديني كما تم تأسيسه منذ القرون الوسطى. وهكذا ظل العقل الإسلامي يشتغل بأدوات تراثية لم تخضع للتحيين والتجديد بسبب نضوب آلية الاجتهاد الفقهي. وفي ظل هذا الواقع كان طبيعيا جدا أن يتنامى المد " الأصولي" المتشدد في المشهد المجتمعي، كما كان عاديا جدا أن تنجح أحزاب " الإسلام السياسي" في استقطاب التعاطف الشعبي الذي يؤهلها لاكتساح أية عملية انتخابية تتوفر فيها الشروط الدنيا للنزاهة والشفافية. لكن صعود أسهم الإسلاميين وتصدرهم للمشهد السياسي في عدد من الدول الإسلامية ليس إلا تعبيرا عن أزمة انسداد الأفق التي ترخي بظلالها على شعوب المنطقة... ذلك أن هذه الأحزاب التي تنصب نفسها وصية على الإسلام والمسلمين لا تفهم الديموقراطية إلا بوصفها آلية تسمح لها بالوصول إلى الحكم، وتؤهلها لتنفيذ أجنداتها استنادا لمنطق خضوع الأقلية لقرار الأغلبية. لكن ماذا لو كان هذا القرار يصادر حقوق الأٌقلية؟. هذا السؤال يحتاج لإجابة، لأن هذا التصريف المغلوط للديموقراطية ينتج الاستبداد والتسلط باسم الدين هذه المرة. لذلك لن يؤدي خيار " أسلمة الدولة" كما تعبر عنه مطالب إقرار الشريعة بالشكل الذي يتم التهييء له في تونس ومصر مثلا إلا إلى مزيد من النكوص والإرتداد إلى الماضوية واللاديموقراطية، لأن المشكل هنا لا يتعلق بالشريعة في حد ذاتها، بل بالتأويل " الطالباني" لها، والذي يعيد محاكم التفتيش إلى الواجهة من جديد.
إن حصر مفهوم "الديموقراطية" في مستوى الدلالة التي تشير إليها الأغلبية العددية المنبثقة عن العملية الإنتخابية هو فهم يفرغ اللفظ من معناه الحقيقي، ويجعله إسما على غير مسمى، لأنه لا معنى للممارسة الديموقراطية إلا في ظل نظام سياسي تنفصل فيه الدولة عن الدين ( دون أن يعني ذلك فصل المجتمع عن الدين طبعا)، نظام تحول قوانين الدولة بموجبه دون الاستغلال السياسي للدين، حتى لا تكون السلطة السياسية رهينة للسلطة الدينية، لكن ذلك لا يعني معاداة الدين أو إقصاءه... لذلك فإن تجربة العدالة والتنمية الناجحة في تركيا لا يمكن أن تتكرر في أي بلد آخر مادام شرط علمنة أو مدنية الدولة غائبا، ومادام مفهوم "العلمانية" في العالم الإسلامي يقابل بكثير من الحذر والخوف، ويتعرض لللرفض على نطاق واسع باعتباره مرادفا للكفر بالنسبة للكثيرين. إذ عادة ما يوصف دعاة العلمانية في بلاد الإسلام بكل النعوت القدحية التي تجعلهم خونة وعملاء وفاسقين مهددين لهوية المسلمين وقيم الإسلام. والحال أن العلمانية لا تشكل أي تهديد للدين، بل إنها تحمي التدين، كما تحمي حق الإنسان في التصرف في حدود القانون، لأنها ببساطة شديدة تدافع عن الحرية وتحفظها. محمد مغوتي. 07 – 12 – 2012.
التعليقات (0)