لا خوف اليوم من إعلان النشيد
ليس المكان وحده العابق بالأسئلة ‘وليس الزمان هو الحامل لكل الأحلام و الانكسارات ‘بل الروح هي البوابة الرئيسية لخروج الأنين و الآهات و الجراحات من تضاريس الجسد.
هذا الكلام البسيط العميق في أن عقاله لي رجل كسيح تجاوز عقده الخامس ‘التقيت صبيحة يوم صيفي وهو يعبر باب الجزيرة بالعاصمة. رجل خانته الأيام و السنوات العجاف ‘لكنه لم ينسي العلاقة الجدلية بين المكان و الزمان و الذاكرة.لم تأخذه الخيبات إلى متاهة الجنون و لم تبعده الطعنات التي انهالت على جسده الهزيل من كل اتجاه عن صخب الدنيا.أحيانا يباغتني بقراءة مقاطع من القصيدة المطولة للراحل الكبير محمود درويش" مأساة النرجس..ملهاة الفضة"‘دون إن ينسي تذكيري ببهاء الصورة المحفورة في خبايا الذاكرة... صورة الأجداد القابعين في المقابر هنا و هناك .هؤلاء الرجال الذين ضاعت أحلامهم في قرطبة و اشبيلية‘ و كادت إن تنحني قاماتهم لرياح العسف
و الحيف في الناصرة ورام الله. لكن هل يعلم هؤلاء إن الأسئلة المركزية مازالت محا فضة على وجاهة مشروعيتها‘و البلاد كعادتها تتفنن في الحفاظ على بهاء الأشجار و النهار و الصباحات و الموسيقي و الرؤى .إذن‘ مازال في المكان متسع لعناق استثنائي ‘والإفلات من قبضة الكوابيس و الذهاب سريعا إلى فضاءات الارتواء من نبع الروح الطافحة بمناخات الحنين للأزقة القديمة و الأمكنة القصية و الورقات المكتوبة بجمر الأيام و الحقائق.المكان هنا قابع في الذاكرة لامحالة...و الزمان ذاهب بصباحاته و مسائه و أطيافه إلى زوايا الاستراحة من تعب و ارق الدوران.ليست الكلمات وحدها المخترقة للجدار الفاصل بين الروح
و الجسد‘إنما الأجواء القابعة في قيعان المعني هي المحددة للبوصلة قبل مجيء العواصف و الطوفان و ارتماء الأبدان المترهلة المنهكة في أحضان التيه و السراب. فجأة يسألني الرجل الكسيح: هل نسي الأجداد بهاء الخرائط و نداءات الأقاليم ‘أم أحلامهم ضاعت و لم ينصتوا جيدا للتساؤلات القابعة في أعماق الجسد؟.ربما أعطتهم الروح قادحا كبيرا لمواصلة المسار رغم تهطل الطعنات
و الخيبات و إنسا بت مياه الحيرة في الوديان ‘و الخطوات أضاعت الهذيان و ليالي الصخب و اختفاء القمر من سماء الكون.الصورة ألان واضحة تماما... و بإمكان الفتيان القادمين من الدهاليز‘أن يرحلوا فرادى أو جماعات ‘إلى الضواحي و التلال و الجداول‘لكن شريطة أن يعلنوا عشقهم الخرافي للورقات الذهبية و الحارات الباحثة عن بهاء نادر‘عسي أن تسعفهم الطبيعة بانفتاح عصر جديد ‘يكون فيه الحبر هو السيد و الحضن الدافئ لكل البسطاء و الحالمين و اليتامى ‘ و تنحني فيه جباه القياصرة لنداءات الحكمة وأصوات العقل و جراحات الروح ‘و تختفي من أزقة و شوارع القرى المنسية جحافل التائهين و أشباه الرجال الغارقين في مياه الوهم .لا شيء هنا سوى صور الأحبة الذين خبأتهم الذاكرة‘و اخفت ملمحهم عن العيون‘مخافة أن يترصدهم احد العابرين للجسر العتيق.
لم تكن الحكمة التي قالها لي الرجل الكسيح سلفا هي البدء و المنتهي‘بل صارت الدليل و المنقذ من ضياع قد يباغت الجسد المنهك. و المرء هنا بإمكانه إن يبتعد عن حياض الأسئلة‘و يختفي بمحض إرادته من كل الأمكنة‘ لكن لا يستطيع أن يذهب بعيدا و لا تلمس أصابعه جدران الحيرة ‘و لا تأخذه خطاه إلى عتبات التساؤلات ‘ ذلك أن القرى و المدن بكل تجلياتها الوجودية ‘لا تنسي أولادها
و أحفادها ‘رجالها و نسائها ‘بسطاء ها و مبدعيها.فكل هذا الخليط من البشر هو الضامن الوحيد لتواصل ديمومة الحياة في الأمكنة‘و ما على المرء المتسلح بوعي نقدي و رؤية معرفية شاملة إلا النفاذ إلى جوهر الأشياء و السيرورة الكامنة في الآليات المحركة للكائنات ‘و التمعن بهدوء و عمق في مسار الخطوات الثابت و الرؤية الثاقبة و النضرة الكاشفة الاستباقية لكائن إنساني ما‘يروم التفرد و الخروج عن روتينية السائد. و هذا المسعى الخارق للمألوف أن أصر عليه المرء‘فهذا يعني أن الحلم بتجلياته المتعددة و إبعاده المتنوعة هو الرافد المركزي لسيرورة الحياة و ديمومة الوجود .و إذا نظر الواحد منا إلى مسارات الصراع الذي يقوده أشقاؤنا في رام الله و غزة و بغداد‘يتأكد من مشروعية هذا الخيار و مدى الرؤية المستقبلية لأجيال من القادة و المفكرين الذين أنجبهم الوطن العربي الكبير‘هذه الرقعة من جغرافيا العالم التي أربكت المتربصين بمصالح و توق الشعب العربي في كل الأقطار إلى الكرامة و العدالة
و السيادة الوطنية و القومية .إن الذين يمتلكون مشروعا فكريا و عقائديا متكاملا أساسه رفعة الإنسان و التأكيد الواضح الدائم على حقه في الحياة بعيدا عن أي وصاية‘ليس بإمكانهم نسيان مقولة تأكيد الذات و امتلاك المستقبل‘ذلك أن هذه المفردات هي المرتكز لأي مشروع حضاري حدثي شامل .هذا ما أكده لي الرجل الكسيح حين جالسني في احدي مقاهي باب الجزيرة .كان كلامه بسيطا جدا ‘لكنه ينفذ إلى الأعماق‘دون بلاغة وهمية أو رمزية عالية."لا تخف من الدنيا‘حذار من المنعطفات و أدعياء الصداقة و المتزلفين و أشباه الرجال‘سافر كثيرا إلى مشارق الأرض و مغاربها‘ولا تنسي الإصغاء لهواجس ألأنثى العاشقة للحبر و الموسيقي و الفرشاة و الألوان‘فهي وحدها القادرة علي أخذك إلى مناخات السكينة و الطمأنينة"لا أتذكر ملامحه في هذه اللحظة‘فقد غاب عني طولا ‘لكن صوته الرخيم ظل عالقا بذاكرتي.
- هل رحل عن الدنيا أم سافر إلى مكان قصي؟
- الجواب تعلمه زوايا الأزقة و الشوارع الخلفية للمدينة.الم نقل في البدء أن المكان هو المكان و الزمان هو الزمان ‘و المدن لا تعرف سوى الوفاء لأولادها و أحفادها‘شريطة أن يتكفل هؤلاء بواصلة المسار و متابعة البناء تدعيما لسيرورة الحلم القابع في جسد الكائن الباحث في كل لحظة عن هواء و ماء و ارض صالحة للإقامة الدائمة."هذا قدرك ...أن تركض كالخيول في كال الاتجاهات ‘بلا هوادة و لا ملل‘لا تخف من ألحمقي و الكسالى و الواهمين.ضع يدك علي ماتبقي من رغام الكلمات المستعصية علي الفهم.لا تنسي الحقائب
و الموسيقي و الرسائل للأحبة الغائبين‘و لا تبتعد كثيرا عن بهاء الحدائق و صباحا ت البحر و دعاء العجائز ".هكذا إذن‘ظل الصوت يشاكس حيطان المقهى بهذا الكلام الرشيق.مازال في الوقت متسع للذهاب إلى هنا و هناك....ليس خوفا من الأمكنة المغلقة‘إنما تطبيقا لنصح الرجل الحكيم ‘و بإمكان الأصابع أن تكتب ورقة تلوي أخري تثبيتا لهذا المشروع و تركيزا لأسس ثابتة من اجل صياغة رؤية معرفية عميقة للأشياء و الكائنات و الأقاليم . بإمكان المرء هنا أن يقول:لا خوف اليوم من إعلان النشيد.!
abidbechir@yahoo.fr كاتب صحفي و شاعر –
التعليقات (0)