لا تنسوا "هدية" عيد الميلاد لهذه السنة 2009 التي تكرّمت بها إسرائيل على العالم في شكل شلاّل من الدم والدموع والدّمار كانت غزة مسرحها والفلسطينيون ضحيّتها...
لا تنسوا هذه الهدية فليس ثمّة من إزعاج "للمسيح"غير أن يُستقبل ميلاده بجريمة نكراء...
وعلينا نحن العرب شعوبا ونخبا،أن ننشغل،لحظة،عن همومنا اليومية ومعاناتنا مع نكد حاضرنا المأزوم لنستعيد شريط أحداث غزّة المروّع كما تفنّنت في صياغته الوحشية الصهيونية،وبرعت في بشاعته براعة لا يضاهيها فيها أحد سفكا لدماء الحوامل والعجّز والأطفال وتدميرا للحياة بشرا وشجرا وحجرا واستهتارا بشرائع السماء والأرض...
علينا أن نستحضر هذا بكلّ فواجعه وفظاعته لا لننافس المتطرّفين اليهود في ذرف الدّموع والبكاء،هناك حيث "حائط المبكى" في "قدس" سُلخ جلدها الإسلامي ببربرية وصلف فشوّه سحر الوجود وجماله وخلع عنه برهان تعايش خلاّق بين الديانات السماوية يمنع البغْي والمنكر ويُلوّن التباين بألوان قوس قزح البديعة...ولا لنندب حظنا في مرآة غزّة الشهيدة وهي تعكس هواننا، ولا لنقرّر،في تعصّب بدائي أن نكون "حمساويين" أو "فتحاويين" على طريقة المستمتعين بفرجة كروية تُلهب المشاعر وتُغذّي الأحقاد بفعل الإفراط في الانحياز والتّعصّب لهذا الفريق أو ذاك...
إنّما لنتّعظ بدرس غزّة-وما أكثر دروس التاريخ التي لم نحسن قراءتها والاتّعاظ بها-...
ما انفكّت تداعيات جريمة إسرائيل على غزّة الشهيدة المحاصرة تتفاعل فتُحدث حراكا جدّيا تكمن أهمّيته في محاولة بلورة واقع جديد في الشرق الأوسط يُزحزح الهيمنة الإسرائيلية عليه ويُربك مخططاتها العدوانية ويكشف أوجها أخرى من غيّها وعربدتها...
فكأنّما دماء شهداء غزة التي تُلطّخ جبين سفّاحيها بالخزي والعار تُصرّ على ملاحقتهم دون كلل ولا ملل،برغم تخاذل المتخاذلين-وما أكثرهم-وبرغم الإعياء والحصار الذين تنوء بحملهما ثكالى غزّة وأراملها وأيتامها وجرحاها...
إنّ درس غزّة يأبى أن يكون شبيها بدروس نكباتنا ونكساتنا وفواجعنا الأخرى التي لوطأة مثيلاتها انقرضت أمم وشعوب...هو درس،قبل أن يستوعب عبره العرب،أزعج حكّام الكيان الصهيوني وأرّقهم وحوّل حياتهم إلى كابوس لا يحتملونه...
هذا الدرس تلقّفته تركيا بين طيّات التُعصّب الأوروبي لمسيحيّة ناديه لينفجر غضب "أردوغان"إرثا عثمانيا مُدوّيا غير موارب،في وجه "شيمون بيريز" الحائز على جائزة نوبل للسلام،بقوله-والحديث موجّه مباشرة إلى بيريز على الهواء ودون ستار أو وسيط وفي منتدى دافوس الذائع الصيت-: "إنّك تعرف جيّدا كيف تقتل الناس..."،فعلها "أردوغان" ولم تكن قنبلته الكلامية لتحجب الزلزال الذي أحدثه وهو ينصرف مقاطعا "حوار الحضارات" الذي يُقام على نخب جريمة غزّة...وفي الوقت الذي كان ينتظر فيه المراهنون على "صفعة" إسرائيلية لتركيا تعيد هذه الأخيرة إلى "رشدها"لكي لا تُكرّر تطاولها،حدث العكس،إذ صعّد الوريث العثماني من لهجة استهجانه للعربدة الإسرائيلية-والحال أنّ إسرائيل حليفه الاستراتيجي كما تثبته المواثيق والمعاهدات المشتركة،بل إنّ التصعيد تدرّج ليبلغ إلغاء مناورات عسكرية مشتركة وتعويضها بمثيلة لها مع سوريا ومع تمهيد لتحالف إستراتيجي مع هذه الأخيرة...
طبعا إنّ تركيا ليست مستعدّة لتنتحر من أجل الدّفاع عن الدّم الفلسطيني المسفوك،ولا أخال أنّ هنالك من العرب من يُريد لها هذا المصير،كما أنّ قادة تركيا-وهم يركبون الحدث-لا يندفعون بموجب الانحياز لقضية عادلة فحسب،إنّما في إطار رؤية بعيدة المدى يستفيدون منها وشعبهم الذي ائتمنهم بمحض إرادته على تحمّل أعباء حكمه...
درس غزة يقول للعرب:"لا تنتحروا من أجل فلسطين فانتحاركم كارثة عليها قبل أن يكون عليكم-حتى وإن كانت فلسطين ضحيّتكم-...
ودرس غزّة يقول أيضا للعرب:"لا تُضحّوا بمصالح دويلاتكم وكراسي حكّامكم من أجل فلسطين،لكن حرام عليكم أن تُهدروا فرصة ثمينة تبرّع بها عليكم الدّم الفلسطيني فلا تتلقّفونها من أجل مصالحكم-المعلن منها والخفيّ-ومن أجل الانتصار لقضيّة حقّ هي بالأساس قضيتكم...وهي قضية ليست للسمسرة، حارقة للسماسرة كما هي مطهّرة من الذنوب لمن أخلص لها بحكمة وبعد نظر وتوبة نصوح...
درس غزة ماثل أمامكم بلا غموض ولبس يُمكن أن تستوعبوه من خلال تقرير يهودي أبى إلا أن يشهّر بجرائم رهط من بني جلدته تبرئة لذمّته منهم،لأنه يرفض أن يلعنه التاريخ،و"التاريخ يلعن المتواطئين ولا يرحم المغفّلين..."
ومع هذا فإنّنا نتطيّر من خبر يتسلّل إلى مسامعنا ويستهدف إيذاءنا بالقول: إنّ ضحايا حصار غزّة وأنفاقها لا تقلّ أهمّية عن ضحايا جريمة العدوان الإسرائيلي البشعة...
لسنا بحاجة لنتّهم أنفسنا-علينا من الذنوب ما يكفي- فضلا عن أنه ليس بيننا من يقدر أو يتجرّأ على إنجاز تقرير إدانة يُضاهي تقرير "غولدستون"....
التعليقات (0)