إذا أردنا،نحن العرب، أن نرى صورتنا على حقيقتها فليس ثمّة من مرآة تعكسها بوضوح وأمانة بمثل ما تقدر عليه القضية الفلسطينية بتفاصيلها وتفاعلاتها وتداعياتها...هي مرآة ليست ككلّ المرايا الأخرى لأنّها مُتلبّسة بنا تُطاردنا في أيّ وجهة وخلوة ومكان وزمان...ثم لأنها تخصّنا لوحدنا فلا تعكس صورة غيرنا لأنّ غيرنا لا يمتلك هذه المرآة...ولأنّ القضية الفلسطينية ليست قضيّته وبالتالي لا تعكس صورته فضلا عن أنه لا يرغب، أصلا، في أن يرى صورته من خلالها...
صورتنا من خلال مرآتنا كما هي، تحرجنا بندوبها وتضايقنا بتفاصيلها وتزعجنا بكشفها لعاهاتنا...
لو نبشنا في أدبيات القضيّة الفلسطينية لتُهنا في كثرة المنعرجات التي وقّعنا على أنّها "منعرجات حاسمة" ولاستنكفنا من تكرار وصفنا لكلّ حدث تمرّ به هذه القضية بأنه "حدث مصيري" أو "مرحلة دقيقة" وما شابه ذلك من تعبيرات تنمّ عن قلق لا يجد مبرّره،غالبا،في أهمّية الحدث وخطورته بقدر ما تفسّره حالة الإعياء والإنهاك التي وقعنا فريستها...إلى حدّ أنّ تلويح "رئيس السلطة الفلسطينية" محمود عباس،مثلا، بعدم التّرشّح لولاية قادمة أصبحنا نعُدّه حدثا محدّدا لمصير القضية الفلسطينية يستوجب الاستنفار والتعبئة التامّة بكلّ ما أوتينا من "تُرسانة لغوية" واصطفاف مع أو ضدّ هذه النّيّة التي أعرب عنها "رئيس لوطن مؤجّل"...
ربّما رأى البعض أنّ قرار عبّاس ليس حدثا غير عاديّ فحسب بل إنّه يستوجب الدّعوة لعقد قمّة عاجلة لجامعة الدول العربية تليها قمّة لمنظمة الدّول الإسلامية وتُتوّ ج بجلسة طارئة لمنظّمة الأمم المتحدة ومجلس أمنها...وقد يُعيب علينا "الفتحاويون" تلكّأنا في عدم الخروج في مظاهرات شعبية حاشدة،من الخليج إلى المحيط ،تُناشد أبي مازن بالاستمرار في تحمّل "أعباء المسؤولية التاريخيّة" التي تُمليها المرحلة ...في حين يكون "الحمساويّون" قد نفذ صبرهم من عدم انتصارنا لموقفهم الذي ينزع الشرعية عن الرّئيس المنتخب بعد أن مدّد في مدّة حكمه...
لسنا في مجال تقييم حصاد الرّجل ولا الإيحاء بأنّ إعلانه عن عدم التّرشح من جديد لا يثير الاهتمام ولا يستدعي فهم دلالاته،فالخبر لا يُصنّف ضمن الأخبار العادية الشبيهة بحوادث الطرقات والطلاق ولا حتى بقتل فلسطيني بنار إسرائيلية أو فلسطينية لم يعد يُنغّص علينا "حياتنا الهانئة" أو يدفعنا حتى إلى مجرّد التنديد به...ثمّ إنّ من يتولّى القيادة الفلسطينيّة هو شأن لا يعني إلا الفلسطينيين الذين يُمسكون بجمر قضيّتهم..لكن يجوز لنا ولو تلميحا أن نتساءل:هل أنّ حلّ القضيّة الفلسطينيّة أصبح مرهونا بتولّي الرئيس محمود عباس لولاية جديدة؟..
مهما يكن الأمر فليس من حقّنا أن نقرّر نيابة عن شعب خبر عدوّه وقاوم واستبسل وصمد من أجل حقوقه المشروعة وتجرّع علقم الوصاية العربية...
قد يقوم دعاة ليُنبّهونا إلى أنّ الشعب الفلسطيني اليوم منقسم على نفسه غير موحّد الكلمة تتنازعه تيّارات ورؤى متباينة وتحكمه سلطتان وربّما أكثر...وعليه فهو في حاجة إلى حسم عربي...لئن كان هذا التنبيه وجيها فإنّه لا يُفيد إلا بالقدر الذي يُحيل فيه العرب على أن يتأمّلوا جيّدا صورتهم في المرآة التي هي لا تختلف في شيء عن المشهد الفلسطيني بل هي التي شكّلته لترى من خلاله هوانها وتشوّهاتها...
وعليه،ألا يكون من الحكمة ،والعرب "لا حول ولا قوّة لهم"، أن يتركوا الفلسطينيين وشأنهم؟..أي أن يتفهّموا خيارهم في ألاّ يضعوا بيضهم في سلّة واحدة وألاّ يُمضوا جميعا صكّا على بياض لمجرّد نوايا حسنة تعدهم بحقوق مبهمة ومُشفّرة...ولعلّه من الحكمة أيضا أن يظلّ العرب على اختلافهم وخلافهم لأنّ وحدة الموقف في حالة الإحباط والقصور ليست بالضرورة سفينة النجاة بل هي أشبه بغريق يُمسك بغريق...
أمّا إذا قُدّر للضمير العالمي أن يستيقظ ليُنصف الشعب الفلسطيني فليبْشر اليهود قبل غيرهم بتحوّل كلّ الفلسطينيين ،بلا استثناء،ومعهم العرب أجمعين إلى "فتحاويين" مسالمين لا يُفجّرون ولا ينفجرون، يُدينون بالولاء لهذا الضّمير الملائكي الذي مكّنهم من حقّهم،بل من البعض من حقّهم...ويغتسلون مما علق بهم من ظلم وقهر دون أن يُطالبوا جلاّديهم بوخز الضمير أو بالتكفير عن ذنب "المحرقة" في حقّهم...
أمّا إذا قذفوا أبي مازن ببيضه وضحكوا على ذقنه فحريّ بالرّجل وجماعته أن يثأروا لكرامتهم بالانسحاب في هدوء وصمت وذلك "أضعف الإيمان"،وبالمقابل فإنّ ما تبقّى من بيض فلسطيني وعربي في "السّلّة الأخرى" يكون صالحا للاستعمال يُدمي وجه العدوّ ويُرهبه ويُبقي على القضيّة الفلسطينية نابضة بالحياة...آنذاك نكون قد استحضرنا قولة منثورة للشاعر الراحل محمود درويش:"لقد تعبنا من هذا العقل العربي الدّاعي إلى التّعقّل..." وآنذاك نتساءل عن مدى جدوى اهتمامنا بتجميل صورتنا لدى الغرب والحال أنّه رآها قبيحة بمرآته،أي نتساءل مقتطعين من نفس النّصّ النثري لمحمود درويش قولته:"..لقد أصبح مطلب تغيير صورة العربي في الغرب عنوان نشاط عربي كبير لا ينتهي.لعلّه تجاوز الفهم السابق الذي روّجه أصدقاء المؤسسة الغربية والقائل،إنّ إصلاح الصورة يبدأ بإصلاح الخطّ السياسي العربي بما يتلاءم مع الإدراك الغربي لنا وللصراع،ولكن دون أن يتساءل عن جدوى اعتماد هذه المرآة مقياسا..."(1)
-----------------
(1)الصورة في المرآة:ص 53-العدد 159-سنة 1980.
التعليقات (0)