ساهم المسيحيون العرب والأكراد والأرمن والشركس .. في إضاءة الشرق, شرقنا, منذ القدم والى يومنا هذا. أغنوه فكريا وعلميا وفلسفيا وأدبيا وحقوقيا. ساهموا في فتحه على العالم, وكانوا رسلا من الشرق للغرب نقلوا حضارة منه واليه. في كل حركة نهضة كان لهم دور وريادة. عميقة جذورهم في مشرقنا. مسيحهم, مسيحنا, شرقي. قبل الإسلام كانوا. وعايشوا نزوله وانتشاره. لم يجبرهم نبي الإسلام على تغيير دينهم. و لا فعله الخلفاء طيلة تاريخهم. لم يعادوا الإسلام. ولم يشهروا سلاحا في وجهه. لم يتقوقعوا على أنفسهم. لم يتنكروا لأوطانهم, لها الانتماء والولاء. كانوا حربا مع المسلمين بطوائفهم على الاستعمار الغربي لمنطقتنا. لم ينصروه ولم يُخدعوا بالتحريض الديني. فهموا معنى المواطنية بعمق وتمثلوها: الدين لله والوطن للجميع. كانوا وما زالوا غنى للمجتمعات المتواجدين فيها. عاشوا عاداتها وتقاليدها فتأثروا بها وأثروا فيها. نسيج متكامل في الكل. لم يقتتلوا فيما بينها مذهبيا, رغم تعدد مذاهبهم. لم ينشروا ثقافة الكراهية والرعب والإرهاب. تعايشوا فيما بينهم على أساس التسامح, وتعايشوه مع غيرهم. اختلفوا في لبنان سياسيا, ولم يتقاتلوا فيما بينهم دينيا, اختلفوا مع غيرهم وكانوا يجدون معهم وسائل التفاهم في كل صراع وبعده. دافعوا عن أوطانهم في حروب الجيوش العربية النظامية ضد اسرائيل. وقادوا حركات مقاومة شعبية ضد الاحتلال الإسرائيلي. والأسماء كثيرة, والقادة أعلام في الحرب والسياسة. عانوا مثلهم مثل غيرهم من اضطهاد الأنظمة الدكتاتورية الشمولية والقمعية. من المكونات الأساسية لمجتمعاتنا كانوا وما زالوا. ليسوا من الملائكة وأنهم ككل البشر. (من لم يخطئ فليرمني بحجر).
الظلاميون ممن ترسخ نهائيا في عقولهم, أن قتل المسيحيين الكفرة, والكفرة من كل الطوائف الإسلامية من غير طائفتهم, يضمن للقاتل مفاتيح أبواب الجنة. ولا يهم إن كان المقتول الكافر طفلا أم بالغا, رجلا أم امرأة, شيخا أم ممن هو على حافة قبره. من هنا القتل ليس إلا تقربا من الله ومن اجل الله ولإعلاء كلمته في الأرض. عجز الله عن إعلائها فتكفلوا هم بالمهمة. خلق بقية البشر خطأ ففُرض عليهم إصلاح الخطأ.
الظلاميون الذين لا يرون نعم الله و"الملذات" إلا في الجنة. يرون كل إبداع إنساني خارجها باطل. الأدب باطل. الشعر باطل. الفن باطل. الموسيقى باطلة. الرسم. الرقص, الغناء, التمثيل, من ابتكار الشيطان. لا يكفي عدم الإقبال, أو النصح بعدم الإقبال على هذه المنكرات, وإنما ملاحقتها لاستئصالها واستئصال مبتكريها و المعجبين بها, أو المشاركين بترويجها, فرض وواجب ديني . ومن سوء حظ العلمانيين المسيحيين أن لهم في هذا باع طويل, حتى أنهم يعزفون الموسيقى في كنائسهم, وفيها يشربون الخمر على مسؤوليتهم دون تحميل ذلك لأحد. ومع ذلك إن أمهل الله عقابهم فالمهلة لا تلزم الظلاميين. لأن الوكالة تلزم الوكيل.
عزاء المسيحيين الصليبين أنهم ليسوا وحدهم محل سخط غلاة المتدينين الجدد, وإنما, وربما بسخط اشد, كل العلمانيين الملحدين الذين لا يُقبل منهم أي دين. وعليه إن لم يستطيعوا ردعهم بالقوة يعمدون إلى أن يوغروا صدر الله عليهم بالدعاء له بان لا يقبلهم كعباد صالحين في دنياه وجنته, والله لا يرد لهم طلبا فهم وحدهم مخلوقاته من بني البشر.
لم يُقتل المسيحيون لمنافسة الشيعة أو السنة في العراق ـ حيث المجازر الأخيرة ـ على مناصب سياسية فهم لم يتعصبوا لطائفة ضد أخرى. لم ينظموا فرق قتل على أساس الانتماء الديني, ولا أحزابا طائفية, لم يجندوا جنود الله, ولا أحزاب الله, لم يُكّفروا أحدا, علنا على الأقل. إذا لما تفجيرهم وتهديهم وترحيلهم؟.
مقابل الجريمة وهولها لم تخرج المظاهرات في طول الوطن العربي وعرضه احتجاجا واستنكارا وتنديدا بهذا العمل الوحشي الذي وقع على المسحيين بصفتهم هذه. مجازر تهدف الاستئصال والترحيل عن الوطن, وإلغاء التنوع الديني. وقطع كل طريق يوصل إلى التعايش بين الأديان و الطوائف والمذاهب. العدوان خطير وذو دلالات تختلف عن الصراع المذهبي. فزيادة على كونها مجازر همجية, هي تنكّر للتاريخ المشترك, وتمهيد لإعادة الترتيب السكاني في الأوطان على أسس دينية ومذهبية, وهنا اشد أنواع الخطر ومكامنه.
استنكارات هنا وهناك على استحياء لرفع العتب, أو لتسجيل مواقف. وخطابات العديد منها لا يفصح عمن هو القاتل ومن هو المقتول. ولماذا القتل.
أمام هذا, ومن باب الإنسانية والتعاطف الصادق والأخوة في الإنسانية, عرض السيد مسعود البرزاني على المسيحيين العراقيين الإقامة في الشمال في مناطقه, ولسنا هنا بصدد تقييم هذا العرض, فليس الأمر متعلق بضيوف وكرم ضيافة. ولا بمقيمين اقامات مؤقتة أو دائمة, ولا برحّل يتبعون المراعي وخصوبتها. الأمر متعلق بمواطنين في اصل الوطن وفروعه. فهل على المواطن أن يرحل داخل وطنه ليكون في أمان؟. أليس حقه في وطنه مساو لحق السيد البرزاني والطلباني والعلاوي والمالكي وكل سني وشيعي ويزيدي .. ؟ أليس على الدولة, حتى ولو كانت السلطة فيها لا تملك وسائل السلطة, أن توفر بقدر إمكانياتها, الحماية لكل عراقي كعراقي قبل كل شيء. كعراقي له حق في وطنه وعلى وطنه. أي مبرر للسلطة أية سلطة, وأية شرعية لها إن لم يكن هذا هدفها الأساسي.
لم تأخذ الأنظمة العربية القمعية من المجازر والتصفيات دروسا وعبرا. لم تتوقف طويلا أمامها. كما لم تتوقف عن اللعب بالمسائل الدينية وإثارة النعرات الطائفية, كلما رأت في ذلك مصلحة وخدمة لبقائها وتأبيدها في السلطة. لا تهتم بما يترتب وسوف يترتب على ذلك من ماسي وكوارث. ولا ترى فيه خطرا قادما يمكن أن يقلب مجتمعاتنا وقيمها وثقافاتها. وكنتيجة طبيعة لسياسة القمع وخنق الحريات لا تسمح بالتحليل ولا تريد أن يقال غير ما تقوله هي حتى بصدد المجازر.لا تريد أن تسمع قولا بان الأمن المبني على القمع ــ الذي تظن مخدوعة بمعطيات الساعة, أن بإمكانها الحفاظ عليه إلى ابد الآبدين ــ لا يضمن الوحدة الوطنية.
لم تأخذ الكثير من المحطات الفضائية التحريضية من هذا دروسا وعبرا. فاستمرت في التعبئة على مدار الساعة, والترويج للتطرف الديني. ونشر ثقافة الكراهية والحقد والفرقة. ولم تتوقف المحاضرات والدعوات الدينية المتطرفة التي تحث على العنف والقتل. وعدم قبول الآخر. وتمرير الرسائل بهذا الاتجاه وتعميمها.
المصابيح المطلوب إطفاؤها في شرقنا هي كل تنويري أو متنور من أي دين كان أو أية طائفة كانت. كل صاحب فكر حر وقلم حر. كل متسامح. كل متدين يقبل الغير. كل علماني. او موصوف بالعلمانية. كل كاتب وشاعر وموسيقي ورسام وفنان. كل سياسي يؤمن بالديمقراطية كنظام حكم. كل من ينادي بحقوق الإنسان والحريات الأساسية. كل من يطالب بجمعيات مجتمع مدني حرة. كل من ينادي بالمساواة بين الرجل والمرأة. كل من ينادي بدولة القانون والحق. كل من يقول أن الدين لله والوطن للجميع.
القناديل لإنارة الطريق للجميع. والنور كالملائكة لا جنس له. وشرقنا المهدد بزحف ظلام قادم ومخيف بحاجة لكل قناديله.
د. هايل نصر
التعليقات (0)