خلال برنامج "ذاكرة لا تصدأ"
لاجئو الفارعة يستدفئون بشتاء قراهم المُدمرة!
عوني ظاهر
بقلم الكاتب والباحث الاعلامي: عبد الباسط خلف
أطلق رجال ونساء تجرعوا مرارة النكبة العنان لذاكرتهم، وقصوا حكايتهم مع مواسم المطر وطقوس الأرض وإعداد للزراعة، ورسموا صورة لمشاهد الشتاء ولياليه وأزهاره وأطباقه وطرائفه وأمثاله.
واستحضروا خلال الحلقة السادسة من برنامج "ذاكرة لا تصدأ" المشترك بين وزارة الإعلام واللجنة الشعبية للخدمات في مخيم الفارعة حضور الشتاء في القرى التي دمرتها العصابات الصهيونية عام 1948.
وقص محمد عبد أيوب، الذي خرج إلى الحياة عام 1927 في قرية الفالوجة، تفاصيل حراثة الأرض والمزروعات الشتوية التي كان يزرعها الأهالي.
وقال: كنا نحرث مناطق أبو البطم، والمراح، والخصاص، والرسوم، والسدرة، على الخيول والأبقار، ونبذر القمح والشعير والقطاني. وفي ليالي المطر الطويلة نذهب إلى ديوان آل النجار، ونسهر على كومة نار كبيرة.
فيما رحلت ذاكرة الثمانيني تقي محمد وشاحي إلى بلدته إجزم، حين كانوا يعدون العدة لمواجهة موسم المطر والرياح، إذ يقيمون في خيامهم، ويرعون الأغنام والأبقار والجمال. وبعدها يشرعون في إعداد الأرض للمزروعات الشتوية.
يفيد: في ليالي الشتاء كنا نتسامر حول كومة النار، ونشاهد الرجال يلعبون صينية الفناجين( 9 فناجين توضع على صينية، وتحتها خاتم يتطلب أن يعثر عليه اللاعب، وإذا خسر ينصاع مع فريقه لطلبات الفريق الرابح). وكان الشيخ حسن وشاحي يقص لنا الحكايات.
ووفق الراوي، فإنه حفظ عن ظهر قلب أسماء الأراضي كوادي الشقاق، ووادي الجلع الذي كان ينفجر بداية الشتاء. وعرف نبات بلده مثل شقائق النعمان والنرجس والزعتر والشومر والعكوب والخبيزة.
يقول: كنا في المطر نأكل من خيرات أرضنا، ونخبز القراص والحميض والسلك والعونية، وكانت مواسم المطر أفضل من اليوم وأطول كثيراً.
وتعيد الحاجة بهية مصطفى صالح(80) عاماً بناء قريتها أم الزينات المجاورة لحيفا: لكثرة المطر كان الحراثون يقعدون في البيت كثيراً، وينتظرون وفرة الأرض. وكنا نحن نفرح بالخبيزة والشومر والعلك والحميض والنعناع البري، ونذهب إلى أرضنا في: الجرماشة والبطيحة، وجورة البير، وظهر البير، والنتاشة، وكرم انجاص، وأبو خديجة والشقاق، وذراع نجم.
تضيف: كنا نلعب بنزول الثلج ونفرحه به رغم البرد، ونحب أكلات الشتاء، ولا ننسى قصة وفاة يوسف الشيخ أبو خليل، الذي خرج لبيع الحليب من قريتنا مع عمي طاهر، فنزلت عليه الصاعقة ومات وقضت على حماره.
وبحسب شريط ذكريات الثمانيني محمد أسعد إسماعل نعجة عن شتاء بلدة الكفرين الملاصقة لحيفا، فإن ينابيعها العديدة( كعين فارس، والبلد، والحنانة) كانت تنتعش في مواسم المطر، فيما كانت أرضها تزرع بالحنطة، وتُحرث بالخيول وعَمّال البقر.
يتذكر: كانت الكفرين جنة، وينبت فيها كل شيء: الزعتر والشومر والزعمطوط وورق اللسان، وكان بستانا يشتهر بالقدونس والسبانخ والسلك، وكنا نسهر بالتناوب في ليالي المطر، ونشوي الكستنا والبطاطا على النار، وكانت أيام الشتاء أطول، وفي إحدى السنوات بارت الأرض( لم تًحرث)؛ لكثرة المطر، وهبّطت الأبقار( كان يُذبح بعضها لطول فترة ربطها في البيوت، وعدم إخراجها للرعي).
ويسترد السبعيني حافظ مصطفى خليل حكايات شتاء قرية البرية المجارة لمدينة الرملة، فيقول: كان الجار لا يصل جاره من كثرة الأيام الماطرة، بعكس أيامنا الحالية، وشاهدنا الثلوج، وكنا نأكل قراص الحميض والسلك.
يتابع: كان لكل عائلة( حمدان، وسليم، وخليل) في ليالي الشتاء مضافة، وكنا نشعل النار في حفرة داخلها، ونسمع لقصص كبار السن من الحاضرين.
ومشي رمضان فريج أبو فريج، الذي جاء إلى الدنيا عام 1927، بين أطلال ذكريات عرب أبو كشك، وأرضها الرملية، التي كانت تزرع بالبازيلاء والقمح وتشتهر بالترمس المر، فيما تنبت أرضها بـ"الحمرصيص"( نبته تُطبخ مع العدس، وكانت تُجفف تباع لأهالي المدن المجاورة)، والخبيزة.
يقول: كنا نحضر خيامنا للشتاء، وندعمها بالأوتاد، وإذا ما شاهدنا قوس قزح نفرح ونتوقع المطر.
ونثر أحمد أبو طربوش حكاية قريته أم الزينات، التي تمتعت بمطر وفير؛ لموقعها في سفوح الكرمل، واشتهرت بالميمرمة والنعناع واللوف وغيرها.
وأعاد الحاج عبد القادر حمد عبد الهادي(80 عاما) عجلة التاريخ إلى الوراء، ليبوح بقصة بلدة صبارين، قضاء حيفا، التي عرف أهلها قصص الشتاء وتقسيماته.
يُعدد ترتيب"خمسينية الشتاء"، التي تبدأ في أوائل شباط وتستمر 12 يوماً، وترتبط كما قال بقصة سعد الذي ذبح ناقته لينجو من السيول خلال سفره في البوادي. وينتقل إلى سعد بلع، حين تبدأ الأرض في 12 شباط باستيعاب كل ما يسقط عليها من مطر بسرعة. وينتقل إلى سعد السعود الذي يتميز ببدء تفتح البراعم نهاية شباط، وحتى التاسع من آذار، حين يحل سعد الخبايا المرتبط بخروج الأفاعي من سباتها الشتوي.
يضيف: كانت أحراش صبارين وجبالها الأربعة( المقشور والهيتري، ووادي المنيا، والقبيصة) تجود علينا بكل النباتات، ولا ننسى الثلج وعطلتنا عن المدارس خلاله.
ووفق محمد صالح العرجا، الذي ولد في الفالوجة في خريف عام 1934، فإن بلدته كانت تراقب الرياح لتستعد إلى المطر، وتحصن بيوتها قبله من الدلف، فيخرج الأهالي في عونة اجتماعية لإصلاح الشقوق والصدوع.
يضيف: كان الفلاحون يعرفون العفير( بذر الحنطة)، ويزرعون أرضهم بعد أول مطر، وكنا نشتهر بزراعة الترمس ، ونتذكر الوادي الذي يقسم بلدنا إلى شمال وغرب بامتداد نهر (السقرير) القادم من الخليل، فيفصلنا عن بعض، ويغمر الجسرين.
ولا ينسى العرجا قصة أستاذه الشيخ عبد الحميد، الذي كان يطلب من تلميذ واحد كل يوم إحضار الحطب للتدفئة، وفي إحدى الأيام عاقب أحدنا من عائلة الشغنوبي، حين لم يأت بالحطب صباحاً، فأمره أن يخرج لجلبه، ولما ذهب قرب الوادي لاقتلاع جذور الينبوت( نبتة شوكية) غرق زميلنا ومات وسحبه النهر إلى أسدود.
يضيف: في ليالي الشتاء، كنا نسهر في كجالس العائلات، ونسمع المتعلمين يسردون قصص أبو زيد الهلالي وعنترة والزير سالم، وشاهدنا ألعاب الفنجان والصينية، وأكلنا القطين والتمر على حساب الفريق الذي كان يخسر. وكان المطر عنيفًا وغزيرًا، ولا يتوقف إلا بعد عدة أيام، وحفظنا أمثال المطر المرتبط بقوس قزح والتي تقول: إذا قوست صبحية إحمل عصاتك للرعية، وإذ قوست مسية دور لك مغارة دفية)
ولا تسقط من ذاكرة أحمد صالح أبو سريس( ولد عام 1938) في الكفرين، طريقة التنبؤات بالشتاء التي كانت متبعة، وفيها، يتم وضع 4 أكوام من الملح بداية الموسم، تمثل شهور الشتاء، وإذا ما ذاب أحدها أكثر، فهذا يعني أن المطر سيكون غزيراً.
يفيد: كانت الخبيزة تُطبخ شتاء بعدة طرق، وكنا نشوي البطاطا والشحيمة( تشبه البصل)، ونستمع إلى قصص الزير سالم، وألف ليلة وليلة حول النار .
واستذكرت بدرية محمد موسى، وفاطمة خالد صبح، وعزية صالح، طقوس الشتاء كما روتها أمهاتهن لهن بعد اقتلاعهن من إجزم والريحانية.
بدوره، قال منسق وزارة الإعلام في طوباس، عبد الباسط خلف، إن الهدف من البرنامج الشهري، الإبقاء على النكبة حاضرة، وعدم تناول قصتها وجرحها بشكل موسمي جاف.
وأضاف: حين نتحدث عن شتاء القرى المدمرة، فإن ذلك يُعيد إلى الأذهان حكاية أرض ومجتمع وشجر وحجارة، في سباق مع الزمن، بفعل الموت الذي يُطارد حراس الذاكرة.
فيما أشار نافز جوابرة من اللجنة الشعبية للخدمات، أن جمع قصص النكبة بكل ما فيها من مفردات، مهمة تحتاج إلى جهد جماعي، لحماية حق العودة وصونه من التحريف.
التعليقات (0)