"ذاكرة لا تصدأ" يُكمل عامه الأول:
لاجئون يُعيدون بناء لحظات النكبة!
طوباس: أعاد رجال ونساء بناء لحظات التهجير القاسية خلال النكبة. وأستذكروا خلال الحلقة الثانية عشرة من برنامج"ذاكرة لا تصدأ" لوزارة الإعلام واللجنة الشعبية للخدمات في مخيم الفارعة حكايات رحيلهم عن قرى قنير، والريحانية، وصبارين، ومصمص، شمال فلسطين وشحمة في جنوبها.
ونقلت يُسر توفيق محمد صلاح(الشوبكي)، 85 عاماً، قصة هجوم العصابات الصهيوينة على قنير المجاورة لحيفا: كانت الدنيا وجه الصبح، عندما هجم اليهود على البلد، وطلع الناس منها دفعة وحدة، بعدما سمعوا أصوات إطلاق النار، وطلعت أنا وابوي وأمي وأخوتي: رشدي ورشيد ومحمد، وأخواتي: لطيفة ورشيدة. ركبت أنا وخواتي على الحمار، وأخوتي على الفرس، ووصلنا كفر قرع، وقعدنا في بيت زوج خالتي(شحادة) 20 يوماً، وكانت الناس تقول لبعض: بعد أسبوع بيرجع كل واحد على أرضه وداره!
تضيف: بعدها، انتقلنا إلى عرعرة لشهر، ثم وصلنا طوباس، ولم نُخرج من بيتنا أي شيء، وظل كل شيء على حاله فيها. وكنا ساكنين غرب عين الماء، وعنا 3 غرف وحمام ومطبخ، وحولنا أشجار العنب والتفاح والزيتون، وكان أبوي جمّالاً، وأخذني عدة مرات على حيفا، وشاهدت "الهادرار"، والبحر، والفينري. ولا أنسى، حتى اليوم، مشاهد الناس التي فرّت من قنير، وكانت مثل المسحبة التي أنفرطت حباتها، والقلة، والذلة، والخوف، والكحل الأسود.
وبحسب رواية آمنة وراد يوسف صبح (كانت في التاسعة من عمرها لحظة النكبة)، فإن أهالي قريتها الريحانية المجاورة لحيفا، قرروا الانتقال لقرية أم الزينات المجاورة، بعد أن سمعوا إشاعات وأخبار عن دير ياسين، وكيف تقتل العصابات اليهودية النساء والرجال والحوامل. ولكن حينما علموا بهجوم اليهود على حوّاسة، صارت الناس تهرب.
واستناداً للرواية، فقد رحل أهالي القرية في الساعة الرابعة فجراً، بعد سماع أصوات إطلاق النار. ووصلت عائلتها إلى منزل خالها، الذي كان يعمل في رعي الأغنام بأراضي أم الزينات، في الخلاء، فنصب لهم بيت شعر. ولم يكن معهم شيئاً، فقد تركوا أغراضهم، وبقراتهم التسع، وحتى ملابسهم في المنزل، الذي لا زالت تحفظ جيران (الحوش) كرجا اليوسف، ومسعود السعيد، ومصطفى السعيد، ورجا السعيد.
الفطور الأخير!
تقول: كانت الدنيا، صباح يوم الهجرة، خطيطة(ضباب)، ولم نكن نشاهد لمسافات طويلة، ووصلنا بعد مدة قصيرة إلى إجزم المجاورة، وصارت الناس تسرق حالها، وترجع لإحضار الملابس والأغطية. وقعدنا فيها مدة شهر تقريباً، ولا أنسى كيف طلعنا منها، فقد كنا نستعد لتناول طعام الأفطار في رمضان، حين هاجمت الطائرات اليهودية القرية، ولم نأكل أفطارنا، وهجت الناس، وكنت أشاهد القيزانات( القذائف كما كانوا يطلقون عليها)، وهي تسقط في الحارة الغربية. وبعد ثلاثة أيام من الإقامة في دالية الكرمل، تحت الشجر، ودون أغطية وأي شيء، أغارت الطائرات علينا، وكان الكبار يقولون لنا ( نمن بين السمسم)، أما الرجال فيحتموا وراء الرجوم(أكوام الحجارة)، ثم أقمنا في المدارس ليلة، ولم يرحب بنا الدروز، وطلعنا منها الدالية غياب الشمس، ومشينا حتى منطقة( بيرة قطينة) في مرج ابن عامر، وشاهدنا الدبابات( من نوع لاند) خلال الليل من بين حقول الذرة، ثم كشفتنا أضويتها، وحطت الناس ايديها على قلبها، خوفاً من العصابات.
تزيد: ظلينا نمشي في الليل، ووصلنا إلى قريتي عارة وعرعرة، قرب أم الفحم، وكان الأولاد حافيين ويمشون على الأشواك، وحين شاهدنا الجيش العراقي على الحدود، أخذ يطلق علينا النار، ظناً منه أننا يهود، قبل أن يصرخ عليهم الرجال( احنا عرب..احنا عرب). ووصلنا إلى عانين( شمال جنين)، وقعدنا فيها سنتين، وأمطرت الدنيا علينا، وتبهدلنا، وعشنا في المغر، والخشاش( بيوت من الحجارة، قليلة الارتفاع). ولا أنسى كيف أن سقف الخشة في المطر، كاد يقع علينا، لولا أن أحضر والدي عمود خشب.
تنهي: بدأ الصليب الأحمر يصل إلينا، وصار يوزّع علينا الطحين والمعلبات، وعشنا أيام سوداء، ثم انتقلنا إلى حياة المخيم الصعبة، ولا ننسى ثلجة عام 1950 في الفارعة، وكيف انتقلنا إلى معسكر الجيش الأ{دني، بعد خراب الخيام من شدة الثلج.
صبارين: رواية توجع القلب
ويرسم عبد القادر حمد محمد عبد الهادي، الذي أبصر النور عام 1932، مشهد اليوم الأخير لصبارين القريبة لحيفا، حينما طوقت العصابات الصهيونية البلدة من جهة جبل اللبيدة، وراحت تهاجمها مع أم الزينات والكفرين والسنديانة.
مما سمعه وشاهده: حكاية يوسف أبو صيام، الذي كان يركب على عربة يجر حمار، ثم أخذه اليهود ووضعوه تحت شجرة خروب وقتلوة. وقصة طفل اسم( فؤاد الفارس)، حينما وصلت له العصابات الصهيوينة، وسألوه عن صاحب المنزل المجاور لبيتهم، فلم يعرف، وكان وقتها يأكل الخبز والجبن، فقالت لهم أمه، هذا طفل لا يعرف الجيران، أتركوه يأكل، فقتلوه قبل أن يكمل ما في يده. ومشهد رجل اسمه ارحيم، لما علموا أنه فلسطيني أطلقوا عليه النار من مسافة قريبة.
يتابع: كانت أمي تهرب وخلفها رجل من بلدنا اسمه جميل عبد المالك (أبو جمال)، واليهود خلفها يطلقون النار، وحين جاءت إلينا، شاهدنا عدة رصاصات( وكأنها لخرطوش) ثقبت حطتها البيضاء، وأجزاء من ثوبها. ولا أنسى كيف وزعت في بلدنا 500 بارودة على الشبان وصلت من سوريا، حين وضعت على البنادق الأرقام، وكتبت على أوراق أخرى أرقام مماثلة، وكان على الشاب أن يختار أحدى اليدين، ليُعطى الباردة المحددة. لكن المفارقة أن السلاح لكم يكن فعالأ، غير ثلاث بنادق فقط!
يضيف: حفر أخي محمد قرب البت خندقاً، وأراد أن يدافع عن الحي، لكن أخبار قصف الاحتلال للقرى المجاورة بالطائرات، جعل والدي يخاف عليه، ولم يسمح له بالبقاء وحيداً. وبعدها احتجزت العصابات نساء القرية اللواتي لم يخرجن، ووضعهن تحت شجرة خروب، وقتل بعضهن.
مما لا ينساعبد الهادي، كيف أن منزلهم بقي على حاله، ولم يأخذوا أي شيء منه، فقد كانوا يربون سبع بقرات و35 رأساً من الأغنام، واعتادوا على صنع الزبدة والسمن والجبن واللبنة والعسل أيضا والبيض. كما لا تغادر ذاكرته حين خرح للعمل في أرضه بخلة عبيد، وطوقتهم كتيبة يهودية، فهرب أخي محمد للاحتماء خلف رجم حجارة، ولم يكن يحمل سلاحاً، ففروا جميعاً، وأنبطحوا أرضاً.
قتل على حافة الطريق!
ويستجمع عبد الرحمن محمد عبد الرحيم خطيب، المولود عام 1941، حكاية قرية مصمص التي رحل عنها قسراً، فيقول: انتقلنا إلى إجزم المجاورة، وحين بدأ قصفها بالطائرات، رحلنا مع موعد أذان المغرب، وأذكر أننا كنا في شهر رمضان، وبدأنا نمشي في عز الليل، ولا أنسى كيف شاهدنا سيدة كان طفلها يرضع على صدرها، وهما يغرقان في دمهما. ومشينا خطوات اخرى، ورأينا عجوزاً مقتولاً هو ودابته، التي كانت تحمل لحفاً وفراشاً.
كان خط سير نكبة خطيب من إجزم، نحو قنير، ثم عارة وعرعرة، وصلاً إلى رمانة، بجوار جنين، فمنطقة جنزور قرب مثلث الشهداء، حتى الفارعة، تخللته مشاهد قهر وألم ومعاناة لم تنته رغم مضي 65 عاماَ.
وترسم آمنة يوسف شاهين أبو هنية( 85 عاماً) مقاطع من الرحيل المر عن قرية شحمة جنوب فلسطين، والتي كانت تجاور: المغار، وقطرة، وبشييت، والمسمية، ويبنة. فتقول: كان أبي يزرع الكرسنة والعدس والسمسم والخضروات، ولا أنسى ألعاب العرائس والسيارات، التي أشتراها لي والدي.
تقول: كان زوجي يعمل مزارعاً، وعنده بئر ماء، وحين قررنا الرحيل بعد هجوم اليهود، عاد لإطفاء الماتور، وقال: هي يوم أو يوم ونعود. ثم واصلنا، وكانت الناس حافية، وطلعت في ملابسها، وكان صوت البارود خلفنا، وسمعنا عن نساء حملن المخدات بدل أولادهن من شدة الخوف. وأخفت أمي الكواشين والذهب والمصاري في العقود( مبانٍ عالية الارتفاع وسميكة الجدران). وركبت أنا وأختي صبحية على الحمار، وركب أخوتي وأبي على الخيل. وشاهدنا إمرأة مقتولة على جانب الطريق. ورأينا عجوزاً رفضت مغادرة منزلها، بعد أن حرقها اليهود داخل بيتها.
فرت العائلة وأهالي شحمة نحو خربة (مغلس)، ثم إلى بيت جبرين، فعجور، ثم وصلنا بني نعيم ( بمحافظة الخليل)، وسكنا فترة في المغر، وأثلجت الدنيا علينا وكسرت الزيتون من قوته، وكان جارنا شاكر عوض محاصراً في المغارة، وصار يطلق بالفرد النار ليفتح الطريق بالثلج.
بدوره، أشار منسق وزارة الإعلام في طوباس، عبد الباسط خلف، إن "ذاكرة لا تصدأ" بعد عام من إنطلاقه في مخيم الفارعة سينتقل إلى مخيمات أخرى في الوطن، وسيسعى للبحث عن آليات لتوثيق الذاكرة في مخيمات الشتات.
وأضاف أن الوزارة في صدد جمع شهادات البرنامج خلال اثنتي عشرة حلقة، في كتاب سيرى النور؛ للإبقاء على الذاكرة الشفوية حية، ونقلها إلى الأجيال، وصونها من الضياع.
فيما قال نافز جوابرة من اللجنة الشعبية، إن الفترة القادمة ستؤسس لمرحلة جديدة للبرنامج، من خلال توثيق مرئي للروايات الحية لكافة أوجه الحياة، في وقت يتهدد الموات حُراس ذاكرتها.
التعليقات (0)