لؤم
في الأشهر القليلة الماضية، أصبح جدي شديد التوتر،عصبيّ المزاج، لا يكاد يحتمل، لأجل ذلك، كنت أتحاشى محادثته حتى لا أمكنه من فرصة إيذائي بيده و لسانه، غير أن البهجة الإستثنائية التي غمرته اليوم، بمجرّد سماعه نعي دكتاتور عربي طغى في البلاد فأكثر فيها الفساد، قد شجعتني على الدنوّ منه، والتقرّب إليه خصوصا بعد ان شملني بملاطفته، و غمرني بإحسانه، حين تنازل لي عن كل محتويات حافظة نقوده المكتنزة، انتهزت فرصة انشراح صدره لأقول له: " اضرب لي مثلا عن النذالة و الأنذال"، ضحك جدّي طويلا ثم قال" يا لكع بن لكع، أتنشد الماء و أنت في البحر؟ و تطلب التمر و أنت في هجر، فقد امتلأت الدنيا بالأنذال، حتى لا تكاد ترى غيرهم، و لا تسمع غير أخبارهم, قلت له "أرو لي حادثة تبين الي أيّ مدى تبلغ الخسة و النذالة بصاحبها" اعتدل جدي في جلسته ثم قال:
ـــ إلي حد السنوات العشر الماضية، كانت تلك الطرفة المشهورة عن مسابقة الخسة و النذالة التي أجراها نذلان، هي السقف الأعلى لما يمكن أن تصل النذالة بأهلها، غير ان المتغيرات السياسية في منطقتنا العربية و الإسلامية، قد جعلتني أستهين بذلك الضرب المحدود من النذالة، بالقياس الي ما نسمعه و نراه في أيامنا هذه وعلى الهواء، من خسة و نذالة فاقت تصورات القصّاصين، و أعجزت أرباب الخيال المجنحين.
رغم معرفتي بطرفة النذلين التي سمعتها من جدي مرات عديدة وهو يرويها لأبي و أمي و إخوتي الكبار و لمن زاره من أصدقائه والجيران( كل مرة بصيغة مختلفة عن سابقتها، و بإضافات جديدة و خروج محبّب عن نصها الأصلي المقتضب)، فقد رغبت في سماعه مرّة أخرى... قلت لجدي و أنا تصنع الجهل:
ــ حدثني بما كان من أمر النذلين فقد أثرت فضولي:
دسّ جدي يده في جيبه، أخرج ساعته المستديرة ذات الغطاء و السلسلة الفضيتين، تأملها طويلا، سألني عن موعد صلاة الظهر، حين نظرت في تقويم الصلاة و أعلمته بموعدها الذي سيحل بعد عشرين دقيقة دسّ ساعته في جيبه ثم اندفع يقول:
ـــ ذات مرة،و أثناء جلسة خمريةّ، تراهن شقيان أيهما أكثر خسة و نذالة من صاحبه...
حك جدي شعره اللأشيب تنحنح مرتين ثم اضاف:
ـــ كي يبرهنا عما في نفسيهما من تينك الخصلتين الخبيثين، فقد اتفقا على مغادرة الحانة و القيام بجولة تطبيقية... في أول منعطف طريق، لقيا شيخا هرما يعتمد على عكازة ترتعش بين يديه الواهنتين، و لا تكاد تثبت على الأرض( اسمحوا لي بمقاطعة جدّي.. فقد سمعته ذات رواية يقول: أن الشيخ الهرم كان يجلس على كرسيّ متحرّك، و مرة ثانية، أنه كان أعمى يقوده كلب مدرّب... أقول هذا، حتى اثبت للقارئ مدى تلاعب جدي بالنصّ الأصلي للطرفة، ولو امتد به العمر، فسيزعم في رواية لاحقة أن إنسانا آليا كان يساعد ذلك الشيخ الهرم على المشي!) تقدم أحد الرجلين ــ و الكلام هنا لجدي ــ من ذلك الشيخ الهرم الذي توقف بمجرّد رؤيته، ثم ركل العكازة برجله، فخرّ الشيخ على وجهه( اسمحوا لي ثانية كي أسجل أن آخر رواية قد أوردت أن النذل قد نطح الشيخ فور الاقتراب منه، وقد شبه جدّي تلك النطحة الآثمة حينها، بنطحة زين الدين زيدان الشهيرة التي صرع بها المدافع الإيطالي، و كلفته الإقصاء من كأس عالم كانت فرنسا الإمبريالية تريد تحصيلها ثانية بجهود افريقية صرفة) في تلك اللحظة ــ و الكلام لجدّي ـ أخرج صاحبه سيجارة ثم أشعلها وهو يستمتع بما يحدث أمامه... و قد تضاعفت متعته، وزاد تصفيقه، حين انحنى صاحبه على الضحية ثم أداره كاشفا عن وجهه الدّامي، قبل أن يشرع في ركله على جنبه تارة، و رأسه تارة، و خصيتيه تارة أخرى( أسمحوا لي مرة ثالثة كي أسجل، أن جدّي ــ عافاه الله ـ لم يشر في رواياته السابقة الي أية خصية، و لكن لا بأس من الإشارة، إلــي أن جديّ قد أصيب في
الأشهر الأخيرة الماضية بتضخّم غير عاديّ في خصيتيه حتى بدا للناظر و كأنه يخفي أرنبا صغيرا تحت سراويله، لكنه تعافى الآن، بعد أن كان منظره يثير الضحك و الإشفاق معا!) ومازال النذل يضرب الشيخ الهرم ــ و الكلام لجدّي ــ حتى أغمي عليه، كل ذلك و صاحبه يصيح به مشجعا " سبع و الله سبع، زده بحق صداقتنا واحدة أخرى!".. بعد أن فرغ الرجل من عدوانه، تقدم صاحبه، قال له بعد أن القي بعقب سيجارته على جسد الشيخ الذي كان يحتضر" برافوا، برافو عليك ! لقد كبرت اليوم في عينيّ، وعظم قدرك لديّ، بعد أن برهنت لي عن خسّة قلّ نظيرها في هاته الأيام الكئيبة التي تشهد صحوة دينية قد تهدّد تراثنا الخالد بالزوال! ( اسمحوا لي كي أفيدكم بأن جدّي سامحه الله لم يذكر الدين في رواياته السابقة لا من قريب او من بعيد) غير أنني ــ و الكلام لجدي على لسان النذل المتفرج ــ مضطر لتبليغك بكل حزن و أسف انك قد سقطت في الامتحان و خسرت الرهان، بعد ان ثبث لديّ بالبرهان أنك ستظل مجرّد تلميذ محدود الإمكانيات في مدرسة النذالة التي سأرأسها مدى الحياة" قال ذلك ثم انحنى على الشيخ الذي فارق الحياة، قبل أن يستل من ثيابه محفظة أخرج منها بطاقة تعريف( هويّة) قدمها لصاحبه وهو يقول :
ـــ أنا اشد منك نذالة لأن هذا الشيخ الصّريع هو والدي!، وهذه هويته!( مقاطعة أعدكم بأن تكون الأخيرة: لم تشر أية رواية سابقة الي محفظة أو بطاقة تعريف قد استخرجتا من جيب الضحيّة، كل ما في الأمر أن محفظة جدي ــ غفر الله له ــ قد نشلت منذ ستة أشهر، فيما كان يستقل حافلة عمومية، وقد تردّد جدي كثيرا على مركز الشرطة حتى استخرج بطاقة تعريف قومية جديدة، بعد تسويف مرهق، و استجوابات طويلة من قبل الدوائر الأمنية!)
فيما كنت ابدي تعجبا مصطنعا من لؤم الرجلين و خستهما، (و كأنّ خبرهما يطرق سمعي لأول مرّة)، تمطّى جدي طويلا، أخرج ساعته العتيقة، نظر فيها ثم أعادها الي جيب قميصه وهو يقول:
ــ هل تعلم يا بني من أشد نذالة من والد الضحية؟
حين حركت راسي نافيا معرفة ذلك اجابني:
ــ أشد منه نذالة، من شارك المعتدي ضرب والده! وهذا ما يفعله حكام المسلمين الذين شاركوا قادة الغرب إرهاب أبناء جلدتهم و التضييق عليهم و التنكيل بهم قتلا و تعذيبا و نفيا و تشريدا.
ـــ !!!
ـــ ثم هل تعلم من اشد نذالة من حكامنا الأميين الذين لا يفرق الواحد منهم بين مثل شعبي و آية من الذكر المبين؟
ـــ؟؟؟؟
ـــ الأشد منهم نذالة مراجع الشيعة في العراق، حين سمحوا لأتباعهم بمشاركة قوات الإحتلال تقتيل أبناء وطنهم و اغتصاب نسائه حكم العراق منفردين!
ــــ !!!!
أضاف جدي وهو يستوي واقفا:
ـــ ثم هل تعلم من اشد نذالة من هؤلاء جميعا.
ـــ؟؟؟؟
ـــ جهلة اتباع الإخوان المسلمين الذين يشاركون القوات الأمريكية في ديالى بالعراق، تقتيل أبناء جلدتهم، بعد أن شارك زعماؤهم في مجلس الحكم الذي نصّبه الاحتلال!
ـــ !!!!
ولاّني جدي ظهره، قال وهو يتجه الي دوره المياه:
ــ ثم هل تعلم نذل الأنذال و عرّة الرجال ومن شابه أبا رغال
ــ ...؟
ـــ الشيخ اللئيم الذي أفتي للجيوش الغربية بغزو أي بلاد إسلامية مستعينة بأبناء المسلمين؟
رفعت صوتي قائلا :
ـــ من ذلك النذل الغاوي؟
وصلني صوت جدي من بعيد :
ــ إنه يوسف ... أعني جوزيف القرضاوي!
أوسلو 14/8/2009
التعليقات (0)