لأنهم لا يخجلون يواصلون الخداع
البعض من ملامح الالتفاف على الثورة
- البشير عبيد
لا يكاد المرء يتصفح وسيلة إعلامية إلا ويفاجئ بأخبار طازجة عن أيتام بن علي الهارب والمطرود من قصر قرطاج .جرائد ومجلات أغرقت الساحة الإعلامية في طوفان من صحف ودوريات تفتقر لجوانب كبرى من المهنية والموضوعية.الدين أسسوا هذه الجرائد والمجلات كانوا بالأمس يناشدون الطاغية ويلمعون صورته ونظامه السياسي داخل البلد وخارجه ،وهاهم اليوم يؤسسون "منابر" إعلامية متحدثين بلا خجل عن شهداء وحرحى الثورة ،واستحقاقات المرحلة الراهنة ..كأنهم كانوا من أبرز الحركة السياسية والحقوقية المعارضة لبن علي .رهط آخر من هؤلاء إتجه إلى الجمعييات مستعطفا الشباب وكل من ليس له ثقافة سياسية لجلبهم إلى صفوفهم ،معليين حربا شعواء ولم بشكل رمزيا على نشطاء الحراك السياسي والحقوقي بكل تعبيراته التي قاومت بن علي ودعت صراحة وبكل وضوح في أحلك الفترات إلى إسقاط حكمه الاستبدادي البغيض .هؤلاء صاروا اليوم "مناضلين" وقد خدعهم بن علي وماكينته الإعلامية الضخمة وجهازه الأمني الإستخباراتي .
هنا بيت القصيد ..كيف لهؤلاء أن يقلبوا "الفيسته " بين عشية وضحاها والحال أنهم يمتلكون الوعي النقدي لتحليل الأوضاع وقراءة الأحداث .لكن الجواب يأتي من الزاوية المعاكسة،فهؤلاء "المواطنين" ليس لهم في الدنيا ما يقدموه أو يضيفون سواء تصفح قواميس الانتهازية والوصولية ومعرفة التقنيات الضرورية الموصلة للمصالح والمنافع ،حتى وان تضاربت مع القيم والأخلاق .فكيف لرجل حاور ليلى الطرابلسي ومجدها في حوار مطول جاعلا منها "سيدة تونس الأولى" ،أن يصير اليوم مدافعا عن أهداف وقيم الثورة ، رغم أن هذه الفصيلة من التونسيين هي العدو الأول للثورة ،بل لا تؤمن إطلاقا بالتغيير الذي حدث بعد سقوط النظام النوفمبري.من عالم الإعلام ،إلى دنيا الجمعيات ،إلى حلبة السياسة .. بإمكان المرء أن يلحظ أن شيء ما يقع التخطيط له بحنكة عالية وحبكة قصوى ونظرة بعيدة المدى من أجل صنع "مستقبل" شبيه بالماضي البغيض ولو بأشكال أخرى وأدوات جديدة و وجوه مستحدثة مع تطعيمها بشخصيات سياسية تدعي أنها كانت تعارض نظام بن علي ولو بنسق هادئ وبطيء خوفا من بطش الجنرال ساكن قصر قرطاج وزوجته المدللة العاشقة للجنس والمال والخمور. هكذا إذا ، بإمكاننا تفكيك الصورة والآليات المتحكمة في المشهد الراهن الذي بدأ يتلوث بهؤلاء المهرولين بإتحاه المصالح والمنافع الشخصية على حساب المصلحة الوطنية . هذا النهج الذي سلكه هؤلاء ،ليس بدعة ، بل هو قديم ،والتاريخ بكل حقبه إلى الآن ،أكد ومازال يؤكد أن الملتفين على الثورات هنا وهناك ،لن يدخلوا إلى جحورهم ،ولن يستسلموا طالما أن مصالحهم مهددة بالانقراض .. وهنا يبدأ التكتيك من أجل إعداد أجندا بعيدة المدى الهدف منها إفتكاك المواقع واستغلال الوقائع وخلط الأوراق وإندساس في الأحزاب والمنظمات التي ساهمت في إسقاط النظام وبث البلبلة بين قواعدها وقياداتها بإختلاق أكاذيب وإشاعات وإنشقاقات (هذا ما حدث بالضبط في حزبي المؤتمر والتكتل) . ما من شك أن أي متابع للمشهد السياسي بعد 14 جانفي لا يستطيع أن يفهم تداعيات هذا المشهد ويقوم بتفكيك هذه الميكانيزمات دون التوجه لنظرة ثاقبة لما يحدث في مصر الآن بعد سقوط نظام مبارك . بدءا بمسارعة أنصاره إلى تأسيس جمعيات وأحزاب جديدة وإحداث بلبلة وصدام طائفي بين المسلمين والمسحيين الأقباط ،مرورا بإشعال فتنة بين أنصار فرق في كرة القدم نجم عنها فوضى عارمة وسقوط العشرات من القتلى والجرحى ( أحداث ملعب بور سعيد)، وصولا إلى خلق نزاع كبير بين الأطياف السياسية والفكرية ،خاصة بين التيارات العلمانية ونشطاء الحركات الإسلامية بكل تعبيراتها .إذا ،المشهد بكل تداعياته وتفاصيله واضح كل الوضوح ،فالدكتاتوريات تتشابه بشك عجيب ،وأنصار هذه الأنظمة يتشابهون في كل الأمكنة والأزمنة. ما أكدته الأحداث المتسارعة هنا وهناك ،أن المتربصين بالثورة بما تعنيه من أهداف ومبادئ وقيم وتغيير هياكل ومؤسسات وتأسيس منظومات بديلة في كل القطاعات تعلي من شأن الإنسان وتقطع نهائيا مع منظومة الاستبداد والفساد ،لا يمكنهم أن يستسلموا للأمر الواقع ،لأن استسلامهم هذا يعني إجرائيا موتهم واندثارهم النهائي ،الأمر الذي جعلهم في المدة الأخيرة يجتمعون ويتحالفون ويناورون من أجل بث الفتنة والبلبلة في أروقة المشهد السياسي ومحاولة تكسير جدران وأبواب ونوافذ الحراك الجديد التناقض كليا معهم على كل الأصعدة : فكريا وسياسيا وإديولوجيا ،لأنهم بكل بساطة لا يمكن عمليا أن يساوي والضحية ، أو أن نرى عناق ما بين القاتل والقتيل إلا في أخيلة عباقرة السينما العجائبية .المهم الآن هو التسريع بتحقيق العدالة الانتقالية وإقامة حوار وطني شامل حول أهم القضايا الوطنية العاجلة والآجلة ،بين مختلف مكونات المشهد السياسي التونسي ،حكما ومعارضة ،دون نسيان زخم وعراقة إتحاد الشغل ومنظمات حقوق الإنسان .إنطلاقا من هذا المسار ،يبدأ البنيان في التماسك ،ويكبر مع الأيام البناء الجديد ،أي الحكم الديمقراطي المنشود. حتما سوف يذهب هؤلاء (الذين لا يخجلون ويواصلون الخداع )،إلى مزبلة التاريخ وتنكشف ألاعيبهم مهما خدعوا أو تلونوا أو ناوروا.
الأيام وحدها كافية بتوضيح الصورة وتفكيك المشاريع المزمع تمريرها بقصد استحداث استبداد جديد تحت هذا الغطاء أو ذاك ....
- شاعر وإعلامي وناشط حقوقي مستقل .
- البريد الإلكتروني : abidbechir@yahoo.fr
التعليقات (0)