كنا أطفالاً ننتظر أن يطفئ الليل آخر شمعاتنا، وأن يستنفذ الكبار ما بجعبتهم من كلام في السياسة، وتذمراتهم عن استصدار تصاريح مرور تحت وطأة الاحتلال اليهودي الحديث العهد؛ ننتظر أن يبادر زوج خالة لي، إلى حمل بطارية شاحنته على كتفه نزولاً من "كرم العين". نكون لحظتها قد أخذنا مقاعدنا المرتجلة على مصطبة الدار، التي تتحول مسرحاً لحشرات الليل، نقعد على الأرض الخشنة بلا مساند أمام شاشة تلفاز صغير أحمر صيني الصنع، يُخرج بقوة "الاثني عشر فولت" صوراً مهتزة بالأسود والأبيض، حاملاً إلينا القناة المصرية الأولى وقناة "العميل سعد حداد".
أكون قد أغلقت كتاباً لجدي الراحل، مهترئ الغلاف، حصلت عليه بعد إغداقي بالوعود على جدتي بالسمع والطاعة، وألا أزيده تلفاً. على غلافه، وبالرغم من الظلام الصيفي، بين لحظة وأخرى تنعكس ومضات التلفاز، لتمكنني من قراءة عنوانه المذهب بخط ديواني جميل "المجاني الحديثة عن مجاني الأب شيخو".
كنت طفلاً في التاسعة من عمره يلازم الأبونا شيخو، يفلفش أوراقاً اصفرت أطرافها تحوي عيون الشعر العربي، ينام مع المعري، يستيقظ مع جرير، يتعصرن مع الأخطل. في أيام الحبس القسري داخل الجدران الإسمنتية الحاملة للهب تموز، يقضي الكبار أوقاتهم قرب المذياع منتظرين أنباء حصار بيروت، يقتلون اللحظات الطويلة بين النشرة والنشرة بلعب "الأربعتعش"، ويدخنون. ما كان أحد منهم يأبه بما أحمله، فلم يحالفهم الحظ يوماً بمعرفة متعة عبق الورق المعتق، لقد كانوا يركضون خلف لقمة عيش أطفالهم ليل نهار في أزقة المدينة المحاصرة، فإذا بهم يرضخون لصفة لاجئ في قرية تخترق أجواءها الـ "أف 16". كانوا عمالاً يجبلون اللقمة بالعرق اليومي، وبعض المذلة. أما أنا، كبير الأحفاد، تركت وحدي لشهر، مع كتابي الأول لأتعود على كيفية فكّ حروف أبياته المعقدة.
لم ينتظر الكبار طويلاً، حملونا مع أمتعتنا عائدين إلى بيروت المحاصرة، ساعات انتظار طويلة في أفعى رقطاء من سيارات متلاصقة عبر طريق جبلية، ترك جانبها الأيسر لمرور أرتال دبابات الاحتلال. لننام على الطريق أمام معبر المتحف في انتظار فتحه.
مرت سنوات كثيرة قبل أن أذكر تلك الليالي التموزية. كنت خلالها لا أفوت كتاباً إلا وقرأته، أدمنت معارض الكتاب، وبسطات عين السكة، والبربير، والبكاديللي، وشاتيلا، وسوق الإثنين، والأحد، والسبت... وحيث أجد كتاباً.
اليوم، وبعد كل تلك السنين، بحثت عن كتاب المجاني فلم أجده، بين كل تلك الكتب المرصوصة على الرفوف، وتحت الأسرة، وفي الخزائن والصناديق. هل كان يستحق أن أقضي ليلي باحثاً عنه بين مئات من الكتب بلغات وألوان متعددة؟ كنت أنظر إلى إعلان تلفزيوني رسمي عن مدينتي، عاصمة عالمية للكتاب!
ماذا لو أن أولئك الكبار انتبهوا قبل سبعة وعشرين عاماً ونهروك عن القراءة؟ ومنعوك من تذوق طعم الورق الفاقد للرطوبة؟ ماذا لو كانوا أشركوك في لعبة "الأربعتعش"، التي لم يتسن لك يوماً معرفة كيفية احتساب النقاط فيها؟ ماذا لو أنهم ألزموك بقراءة كتابك المدرسي الذي لم تحبه يوماً؟ ماذا لو أنهم منعوك من قراءة أي شيء، أي حرف، أي يافطة، ومحوا من ذاكرتك الرقعة والكوفي والنسخ والثلث؟
في بلد عربي يحتفل بعاصمته "عالمية للكتاب"، كنت لتكون اليوم، على أقل تقدير، وزير ثقافة!
التعليقات (0)