كيليطو منقـذاً
محمد أنقار
ليس من السهل تصنيف الأساليب السائدة بين أدباء لغة ما. كما يصعب أيضاً تسميتها، وتمييز بعضها عن بعض تمييزاً دقيقاً. وفي زمن ليس بالبعيد كانت عبارة بوفون "الأسلوب هو الرجل نفسه" واحدة من الجمل العمدةِ في النقد أو البلاغة المعاصرة غربياً وحتى عربياً. وربما استطعنا بتلك الجملة/ الحكمةِ تفسير جانب من الصعوبة التصنيفية التي أشرنا إليها في البداية. وفي ضوء هذا الاحتمال يمكننا أن نقول معممين وملخصين في نفس الآن:
«إن هناك من الأساليب الأدبية بمقدار ما هنالك من الأدباء»
لكن على الرغم من هذه الحقيقة النقدية التقريبية التي لم يتم الاعتماد فيها على أي منهج إحصائي؛ يمكننا أن نميز في الأدب العربي المعاصر على الأقل أسلوبين بارزين: ذاك الذي ينتمي إلى المدرسة البيانية بجملها الفصيحة البعيدة عن العجمة، وروابطها اللغوية العديدة، وإيقاعاتها المنحنية، واستلهامها الروح الخطابية. وذلك الأسلوب الثاني بجمله القصيرة، وإيقاعه التيلغرافي، وندرة الروابط، واعتماد روح الحياد، وتوخي الدقة العلمية والموضوعية، واستشراف صيغ الترجمة عن اللغات الأجنبية.
ومنذ أن قرأت عبد الفتاح كيليطو أول مرة في بداية ثمانينات القرن الماضي لفتتني طريقة كتابته الفريدة من نوعها. ومن دون صعوبات أو حيثيات صنفتُ أسلوب هذا الناقد المغربي ضمن الخانة الثانية. والطريف أن الرجل لم يكد يحيد عن الكتابة بأسلوبه الخاص المتميز منذ حوالي ربع قرن؛ بدءاً من كتابه "الأدب والغرابة" الصادر في سنة 1982 إلى أخر ما قرأت له بالعربية؛ أي كتابه "من شرفة ابن رشد" الصادر سنة 2009. سحَر كيليطو بأسلوبه الفريد وأفكاره الطريفة قراء العربية من المحيط إلى الخليج. وباستثناء بعض الأصوات المعارضة يلزم الإقرار بحصول ما يشبه الإجماعَ حول تميز الكتابة الجذابة والأنيقة لهذا الأديب. هكذا انشغلتُ أنا الآخر بتأمل الأسرار الكامنة وراء ذلك السحر؛ على المستوى الشخصي وعلى مستوى التدريس في نفس الآن. في هذا السياق تم الاتفاق مع أحد طلبتي النبهاء في كلية الآداب بتطوان على أن يكتب موضوعاً بإشرافي حول الفكر النقدي عند الرجل. وكان الأمر يتعلق ببحث للإجازة بعنوان "المقاربة النقدية للنص الأدبي بين أورباخ وعبد الفتاح كيليطو" أنجزه الطالب الباحث شرف الدين ماجدولين خلال الموسم الجامعي 91-1992.
مع طول التمرس بقراءة كيليطو اكتشفت أن جانباً من أسرار سحره لا يكمن في اختياره جمله القصيرة فحسب؛ بل حتى في قصر مقالاته وكتبه. إن القصر مكون من مكونات إبداعه. وفي المدة الأخيرة اعترف كيليطو بتواضع كبير في حوار معه أنه لا يعتبر نفسه كاتباً مادام لا يكتب مؤلفات ومقالات مطولة مثلما الشأن مع غيره(1).
وضح لي مع مرور الزمن أنني لا أتفق نقدياً مع عديد من تخريجات كيليطو، كما أختلف معه حتى في اختياراته المنهجية الكبرى. لكن ذلك لم يمنعني بتاتاً من أن أظل واقعاً في سحر الرجل معجباً بأسلوبه. إلى أن عنَّت لي في الأشهر الأخيرة فكرة شيطانية "طريفة" يمكن تلخيصها في السؤال الآتي:
ما السبيل إلى الاستفادة العملية من سحر هذا الأديب؟
من أجل الإجابة لابد من توضيح بعض الحقائق:
لقد تصورت طوال عقود من الزمن أن الكتابة إما أن تكون مستفيضة أو لا تكون. ولقد اقتنعت بذلك بحكم انتمائي إلى تلك المدرسة الأسلوبية التي وسمتُها فيما سبق بـ"البيانيّة". تعلمنا ذلك من أساتذتنا في شعب اللغة العربية بكليات فاس والرباط وتطوان. بل تعملنا ذلك خلال تتلمذنا غير المباشر على أعمدة النقد الأدبي العربي. إن النقد حسبما استفدناه كان يعني تحرير المقالات الطويلة، وتأليف المجلدات، والتبحر في القضايا. والإبداع كان يعني كذلك كتابة الروايات والقصائد الطويلة. حتى القصة القصيرة جداً لم يكد يكون لها حضور في زمننا. ولم يكن من الممكن أن نخفي إعجابنا ببعض الأعمال المحسوبة على القصة القصيرة بينما هي في الواقع من المطولات أو تنزع إلى أن تكون طويلة، مثلما الشأن مع قصة "نظرية في الجلدة الفاسدة" ليوسف الشاروني، وقصة "كهف الأحبار" لمحمد شكري عياد. وفي ضوء فكرة "الإطالة" كتبتُ أطروحتين جامعيتين ضخمتين استقصيت خلالهما ركاماً هائلاً من النصوص والكتب والمقالات. وحتى عندما كتبتُ الرواية جنحت إلى الإطالة خاصة في روايتي "باريو مالقه". ثم جاء درس كيليطو المتسلل وديعاً من شعبة اللغة الفرنسية. والطريف في الأمر اكتشافي أن تاريخ تخرجنا في مرحلة الإجازة كان في موسم جامعي واحد. أي في سنة 1967؛ هو في كلية الآداب بالرباط وأنا في كلية الآداب بفاس. تخرجنا كل واحد منا بنهجه الأسلوبي الخاص وتصوراته المختلفة عن الآخر أشد الاختلاف.
أثار انتباهي كيليطو إلى القصر بوصفه أسلوباًً لافتاً في الكتابة. وخلال مرحلة هيمنة المنهج البنيوي أغرتني عديد من تراكيب الكتب والمقالات المترجمة في سياق ذلك المنهج فتراءى لي احتمال تقليد جملها التيلغرافية القصيرة الموحية بالحياد العلمي. وكان من الصعوبة بمكان التخلص من تلك الهيمنة خاصة بالنسبة إلى أبناء جيلي الذين اضطروا في مرحلة من مراحل التحول الثقافي والنقدي بالمغرب إلى قراءة المقالات المترجمة لعلها تساعدهم على تحقيق المزيد من الفهم لتفاصيل ذلك المنهج المستعصية والقدرة على مواكبتها.
لكن مع تقدم العمر تأكدت من أني ابن المدرسة البيانية التي تشربت رحيقها منذ الشباب. والثابت أن الاختيار الأسلوبي يكمن وراءه مزاج الأديب، وروحه وسماته التكوينية قبل أن يكون نتيجة لمجرد رغية التقليد العابرة. ذلك يعني أني حتى بعدما انتبهت إلى جاذبية قصر جمل كيليطو لم أنسق وراء صيغها التيلغرافية، وإنما احتفظت لنفسي بأسلوبي الخاص الذي راحت أماراته تتطور بالتدرج البطيء منذ أن كنت تلميذاً في الثانوي. كانت نماذجي المثالية ولا تزال كتابات الجاحظ، والتوحيدي، وطه حسين، وشكري عياد، وحسن كامل الصيرفي، وزكي نجيب محمود، ومحمود تيمور، وليس سارتر، أو غرييـه، أو ساروت، أو بارث. صحيح أنني أعجبت في زمن الشباب بأسلوب إرنست همنغواي المتقشف وتطلعت في ضوئه إلى كتابة القصة القصيرة التي تنـزع نحو الحياد الظاهري، إلا أني عدلت عنه بالتدريج إلى الصياغة الرحبة.
هكذا مضى كل منا في طريق مغاير. لكني أُلهمت في المدة الأخيرة بأن أسلوب الرجل يمكنه أن يكون مفيداً لي، أو على الأصح لطلبتي. تلك هي الفكرة التي وصفتها فيما سبق بالشيطانية والطريفة. هداني إلى ذلك معاناتي في تصحيح أوراق الطلبة. فقد لاحظت جنوحهم العارم نحو تشتيت بناء الجملة، وتمطيطها، وتفريعها مما يوقعهم في مظاهر عدة من التناقض. هم غالبا ما ينساقون وراء كتابة الجمل الطويلة التي قد تتخذ شكل فقرة ذات شُعب وتفريعات. حينذاك يقعون في أخطاء فادحة. ومن المعروف في مجال تعليم اللغات أن اختيار مثل تلك الجمل الطويلة من لدن المتعلمين المبتدئين لا يفيد. لذا يتم نصحهم بالنـزوع نحو الكتابة المختزلة، أو إن ذلك يتم تلقائياً من لدنهم.
وبالنسبة إليَّ انتبهتُ إلى صعوبة أن يقلد طلبتي أسلوب طه حسين على سبيل المثال أو غيره من أصحاب الأساليب البيانية. لذلك طالما نصحتهم باعتماد الجمل القصيرة التي من شأنها أن تقلل من درجة تلك الأخطاء. لكن النصائح كانت تطير مع الهواء. وخلال السنوات الثلاث الأخيرة تدارست مع بعض طلبة الماستر نصوص مقامات مختارة للهمذاني، والحريري، والسيوطي، والزمخشري. وأفضت بنا المدارسة إلى ضرورة الاطلاع على بعض الكتب النقدية التي أحاطت بذلك الموضوع بما فيها كتب كيليطو. ومن المعروف أن الرجل من عشاق جنس المقامات، وأنه أنجز حوله أطروحته للدكتوراه باللغة الفرنسية قبل أن تترجم إلى العربية. وربما كان هذا الكتاب الوحيد الذي يمكن أنه نصفه بأنه "سميك" مقارنة بالكتب الأخرى لكيليطو. وكان من البدهي أن نتداول في قاعات الدرس كتابات هذا الناقد في الموضوع. وعندما كنت أقترح على طلبتي كتابة عروض في تلك المادة اكتشفت نزوعهم القوي إلى اقتباس أفكار كيليطو وميلهم الصريح نحو تقليد أسلوبه. أجل. لقد استهوتهم تلك الصياغات أكثر من الصياغات البيانية لكُتاب آخرين. أنا لا أتحدث هنا عن احتفائي الكبير باقتباسهم الأفكار أو حتى "سرقتها". إنما ما كان يهمني أساساً اختيارهم الجمل القصيرة التي تكاد تخلو من الروابط، واعتمادهم أفكاراً نقدية جريئة تتسم هي الأخرى بالقصر. من هنا انبثقت الفكرة الشيطانية وقالت لي:
- لماذا لا تنصح الطلبة بكل صراحة أن يقلدوا أسلوب كيليطو في كتابة عروضهم وينتبهوا إلى طرائق بناء جمله؟
وبدأتُ التجربة مع طالبة فنجحتْ. في بداية الموسم كانت تكتب بحثها بجمل طويلة، مشتتة، عانت في صياغتها مثلما عانيت في تصحيحها. وبعد أن عملتْ بالنصيحة جاءت النتيجة مشجعة جداً. فقد تقلص حجم الأخطاء، وغدت الأفكار أكثر تماسكاً. بمعنى آخر أن الطالبة أصبحت متحكمة إلى حد كبير في طريقة كتابتها عوض أن تكون هذه هي المتحكمة فيها. ثم عممتُ التجربة على طلبة آخرين فتأكدتْ نفس النتيجة الإيجابية. وشكرت الساحر كيليطو الذي أسهم كثيراً في التخفيف من معاناتي أثناء التصحيح.
الهامش
(1) انظر الحوار في العدد الأول من المجلة الفرنسية:
Le Magazine Littéraire, Automme 2009
التعليقات (0)