( سلسلة من الدراسات نحاول التركيزفيها فض الاشتباك الحاصل بين قراءتين لتاريخ الحدث الاسلامي . القراءة الايمانية ، الورعية الاسقاطية التي تقول كل شيء لتشكل وعي المؤمن ، أي تصوغ عقله وطريقة تفكيره ، و هي تشمل كافة المذاهب الاسلامية ، والقراءة الاستشراقية التي ظلت للأسف تدور في فلك الدراسات الاسلامية معتمدة على ذات المصادر ثم راحت تتبع منهجية إعادة صياغة التاريخ ، وعلى الأخص صياغة تاريخية النص، الأمر الذي أوقع هذه الدراسات على رغم كم الجهود التي بذلتها ، في ذات الخطأ، أو الأخطاء المنهجية التي عانت منها الدراسات الاسلامية عبر تاريخها الطويل . سنكشف عن مدى التخبط الذي عانت منه كلا المدرستين . ثم سنحاول جهدنا تطبيق منهجية أخرى مغايرة ومتقاطعة مع كلا المدرستين . تنطلق من النص ذاته من تفكيكه وإعادة تركيبه، وربطة بتاريخه الاجتماعي والثقافي وما حفّ به من أساطير تمت ترقيتها عبر التاريخ في جدله مع الواقع الثقافي الذي راح يسير بشكل مغاير تماما . سوف نكشف كذلك عن خطورة تحول الخطاب من صورته الشفاهية الى صورته الكتابية . ثم سنكشف كذلك عن خطورة التحولات الدلالية للمعاني الى صيغ يغلب علها الطابع الموسيقي ، إضافة الى تفكيك وتحليل مشكلات المجاز في القرآن التي لم يتم الانتباه إليها بشكل موضوعي ، الى غير ذلك من القضايا الممتعة ) .
نحن نعلم اليوم الى أي حد كيف تم استخدام المصادر التاريخية واستغلالها من قبل، وهي مصادر نعرف مدى هشاشتها ونقصها، ثم بشكل اخص نعرف مدى العمليات التحويرية التي تعرضت لها ، ونقصد بها عمليات التنكر او التقنيع ، ثم الحذف والانتخاب ، ثم التحوير ، ثم التصعيد والتسامي ثم جعل الأشياء متعالية وجوهرية ومقدسة. ثم أدلجتها اليوم بشكل فض وخشن، إن المنهجية الجديدة تأخذ بعين الاعتبار الجدليات الاجتماعية وتأثيراتها على العلاقة بين اللغة والفكروالتاريخ ، وأما المنهجية القديمة فتجمد هذه الجدليات وتتجاهلها عن طريق تحويل الأفكار المتحركة ، والتصورات العابرة العرضية وآثار الحقيقة وعلاقات القوى المؤقتة، والتحديدات الوظائفية أو الاعتباطية الى ماهيات مقدسة لا تمس وحقائق متعالية ونواميس أخلاقية وتشريعات تتعالى على كل تدخل بشري .
ثم وبتطبيق هذه المنهجية لكي تشمل كل المصادر الاسلامية أي كتب التاريخ وكتب السيرة النبوية أو سير الصحابة وتوسعات المخيال ـ القرآني أو إدخال الشخصيات الرمزية التأسيسية في البناء العربي والطقوس الدائرة حول الكعبة ، كل هذه الأدبيات الثرية يجب أن نطبق عليها منهجية الحفر المعرفي العميق ، وبالتالي فلم نعيد نضيع الوقت والجهد في تلك الخصومات الدائرة حول المصادر القديمة أو حول صحتها أو عدم صحتها أو الحكايات الشعبية والهذيان الحالم للخيال التقوي الورع . أو على هذه القراءات السطحية التي تتناول اللحظة التدشينية للإسلام، وما تلاها من أحداث تحركت في مجري الزمن حتى هذه اللحظة الراهنة.
نلاحظ هنا أن المؤرخ الحديث يقودنا بعدما ينتهي من استغلاله للوثائق التاريخية أو اعتصارها حتى آخر قطرة ، يقودنا الى نقطة التماس والتوتر القصوى بين موقفين متمايزين للروح البشرية : موقف يحصر المعرفة بالمعلومات النظرية والعلمية التي تنتجها الاختصاصات العلمية وموقف يستقبل التعاليم الموثوقة والقابلة للتعميم كونيا لهذه الاختصاصات بالذات .
إذا كانت الامكانيات الحالية للبحث التاريخي تتيح لنا أن نعيد السيرة النبوية بشكل علمي لا يدحض الى قاعدتها البيؤية والعرقية والاجتماعية واللغوية والسياسية الخاصة بحياة القبائل في مكة والمدينة في بداية القرن السابع الميلادي، وأن عليه بالتالي أن يغير من مستوى النظرة المعرفية الخاصة بالتعامل مع قيم الاحداث المرافقة لهذا الانبثاق التاريخي للتعاليم والأفكار العامة والخاصة التي غيرت الواقع بل وأعادة تشكيله على أسس مغايرة وانبثاقة تواصلية عبر التاريخ حتى هذه اللحظة الراهنة. ولكن السؤال المنصف هنا للمؤرخ الحديث كيف يقيم العدل بين مكانتين معرفيتين متمايزتين للسيرة النبوية، أقصد مكانة السيرة أي الحركة التاريخية المحسوسة الملتصقة بالمكان المدني والمكان المكي ؟ هذه السيرة التي استهلكتها الأمة وعاشت عليها طيلة قرون عديدة وسوف تستهلكها طيلة قرون قادمة لا يعرف مداها أحد بصفتها جزء لا يتجزء من المقدس الذي تم أسطرته وتعاليه الى آفاق لم يعد بمقدور أحد أن يمسها بسوء.والتي تغذي الواقع المعاش بكافة إمكانيات وجوده الممكنة. أقدم بهذا السؤال لأعيد التذكير
بهذا العنوان الذي نود أن لا نجري حسابات عميقة معه، 23 عاما دراسة في السيرة النبوية المحمدية للكاتب الإيراني علي الدشتي.بصفته مؤرخا حديثا، يقدم نصا مغايرا ، وقراءة مختلفة . للوهلة الأولى نصطدم بذلك العرض السردي المبسط جدا الذي يكرره عادة عدد كبير من الكتاب المسلمين والمستشرقين على السواء . وهم عندما يتبعون هذا التسلسل الزمني للأحداث منذ ولادة محمد الى نزول الوحي الى مسألة النبوة الى غير ذلك، حتى نصل الى مشارف هذا القرن أو الى مشارف الأفكار التي يراد لها أن توصل أو يوصلها الكاتب المؤرخ الى القارئ ، هكذا يقومون بوصف هذه التجربة الطويلة عبر الزمن والتاريخ مركزين اهتمامهم فقط على بعض الشخصيات وعلى اللحظات الحاسمة لمجرى القدر الجماعي للأمة الإسلامية. من المؤكد أن هذا الوصف الجامد الساكن للأحداث سوف يخيب آمال رجل البحث العلمي والسياسي . فهما يرغبان في التوصل الى معلومات جديدة وتفسيرات علمية دقيقة لما حدث ولنسق التاريخي كيف تموحر حول شخصية محمد ، في الواقع أنه يصعب انجاز هذين الهدفين معا . ذلك أننا نجد غالبا فيما يخص الأسلام إما دراسات أكاديمية موثقة دون أي ابتكار أو انفتاح نظري ، وإما تنظيرات سريعة وعمومية ناتجة عن تأويلات غير ناضجة للإسلام.
لم نعد الى احتقار القديم أو الماضي أو الدين أو العقائد أو التراث باسم العلم الحديث أو القراءة المتأكد من قواعده ومبادئه ومناهجه ونتائجه. ذلك أن التضاد الحاد والقاطع بين التراث والحداثة لم يشكل في التاريخ إلا لحظة محددة هي لحظة العقلانية العلموية التي فرضت تحديداتها . لقد تجاوزنا هذه المرحلة الآن . إن المجتمعات تتكلم على عدة مستويات وينبغي أن نتلقى كل خطاب على المستوى المعرفي الخاص به ، ومن خلال المقولات التي ساعدت على تشكيله وتمفصله، هكذا نلاحظ أن خطاب أغلب الباحثين المعاصرين الأسلاميين والمستشرقين لم يتوصل حتى الآن ، الى التمييز بين الأسطورة والتاريخ ، لم يتوصل الى تفكيك المعرفة المتضمنة في النسق السردي والتي هي في رأيهم تشكل الحقيقة التاريخية الناجزة والنهائية ، إنهم يخلطوا بين هذين النمطين أو الطرازين من المعرفة ويتم الانتقال من الواحد الى الآخر دون أي انزعاج ودونما أية مساءلة لتاريخية هذه النصوص، واي تساءل ابستميولوجي ، بمعنى دون الشعور بأية مشكلة ، وهنا تكمن الكارثة إننا لا نشهد تحليلا نقديا لحقل التجربة بالمعنى الاحترافي للنقد العلمي وصياغاته المتقدمة.
لما كانت قراءة التاريخ تفترض كما رأينا علاقة محددة للفكر باللغة فإنه يفترض أيضا رؤيا معينة للتاريخ تتناسب مع اطاره والكتابة الخاصة بطريقة تعبيره وشكله أو اسلوبه ، فنقل العبارات النصية للقرآن أي الآيات، ونقل الحديث والشهادات الخاصة بسلوك النبي وطريقة حياته وممارساته اليومية بكافة أشكالها وتمظهراتها الآنية والمستقبلية وحتى علاقاته مع زوجاته ودائرة الصراع مع أعدائه ، و كذلك الصحابة وأعمالهم وحروبهم الدامية وانتقاء الوقائع والأحداث الدالة والمهمة بالنسبة للذاكرة الدينية للأمة، كل ذلك يشكل ممارسات عديدة تفترض مسبقا استخداما خاصا للتاريخ، ورؤيا خاصة للتاريخ، فنحن نعلم أن المؤرخون المسلمون يهتمون بالأحداث الزمنية المتسلسلة وبالسيرة الذاتية من أجل البرهنة على صحة المادة المنقولة وموثوقيتها. وما أن يتشكل التاريخ على هذا النحو حتى تشرع كل المناقشات الجارية بين الفقهاء والمدارس العديدة بإثارة المحاجات التاريخية أساسا لكي تدعم مواقعها واطروحاتها ـ ومن المسلم به أن هذه المحاجات ليست تاريخية وإنما هي مركبة ومبرهن عليها بشكل لا تاريخي ـ أي بالشكل التقليدي والمفهوم القديم للتاريخ . فكيف نعتبرها إذا حقائق ، ثم نعود لمساءلة هذه الحقائق وفق طرح جديد ومختلف كليا ؟
إن هذا الحرص المستمر والدائم على التمحيص التاريخي للأحاديث المنقولة يشكل حتى يومنا هذا أحد مواضيع الافتخار والثقة بالنفس التي يعتز بها المسلمون ويثيرونها ضد المستشرقين والنقد الاستشراقي . فهم يرون أنه لاداعي للعودة الى التساؤل حول مجموعة صحة الأحاديث المتشكلة والمبلورة من قبل شهود جديرين بالثقة المطلقة. كما أنهم يرون أن المستشرقين الذين يلقون بالشكوك على هذه المجموعات والمؤلفات التاريخية والتراثية هم إما سيؤ النية وإما يجهلون مدى العلم التاريخي الممارس في الاسلام.
نلاحظ أن الكتاب الحديثين بما فيهم الدشتي ومن قبله طه حسين وغيرهما الذين اهتموا بالاستعادة النقدية للتراث الديني والثقافي أو كليهما، لم يعرفوا كيف يزحزحون المناقشة من أرضيتها السابقة نحو دراسة تمهيدية للأطر الاجتماعية الثقافية السائدة والخاصة بالمعرفة خلال مرحلة الأنبثاق وما تلاها طيلة القرنين التاليين . لا يكفي التذكير بالقول بأن النقل الشفهي كان يغلب آنذاك على النقل الكتابي . وإنما الشيء الأساسي والأكثر أهمية يكمن فيما يلي : ينبغي تبيان كيف أن بعد الغريب والمدهش والبعد الأسطوري والرمزي والمجازي كان يتغلب آنذاك على المقولات العقلانية والمنهجيات المنطقية في تشكيل المخيال الاجتماعي وطريقة وظائفيته وممارسته، ينبغي أن تستعاد دراسة كل التاريخ الثقافي للمجال العربي والاسلامي ضمن المنظور المزدوج بين العاملين الشفهي والكتابي ، الأسطوري والعقلاني، المقدس والدنيوي،نجد هنا أن التاريخ والتراث بصفته نسيجا نصيا ومعنى يحمل مضمونا ( أي كشكل ومضمون) يحمل علامات هذه المنافسة وآثارها . وهذا ما يجعل لازما بل ومحتوما اليوم إعادة تقييم الشكل والمعنى لأن كل هذه المفاهييم الأساسية المضطلع بها في المعاش الضمني للمؤمنين من تقديس وغرائبي واسطوري وشفهي وكتابي ومخيال وعقلاني وغير عقلاني .... هي الآن في طور الأنتقال الى حالة المعروف الصريح بفضل الاكتشافات الجديدة للعلوم الانسانية والاجتماعية .
إن هذه العلوم المنبثقة حديثا والضاغطة على الوعي الجمعي للأمة الاسلامية هي التي ستجعل محمد يظل فقط داخل جسد الكتابة ويظل المسجد يمثل ذكراه، ذكراه فقط.
أما تلك القراءات أو القراءة التي تلقي ظلالا آسنة، بعيدة أو قريبة على هذه التجربة الكونية الغنية والمتميزة في الوجود البشري، فستظل تلك ظلالا لا تنتج معنا ولا تؤسس وعيا مغايرا . وهنا أذكر بما قاله جويس في كتابه ـ جماليات التلقي ـ وتتلخص نظريته أو أطروحته في أن العمل الأدبي لا ينوجد ولا يدوم إلا بالمساهمة الفعالة والتدخل المستمر لجمهوره على شتى الأصعدة ، وهو ينطبق على الأعمال الادبية والفنية ذات المستوى الأعلى والتي هي : النصوص الدينية ، بهذا المعنى نجد أن التاريخ الديني مكتنز بالشهادات التي لم يخلفها لنا أولئك الذين مستهم روح الوحي عبر التاريخ ، وإنما هو عبارة عن خلق جماعي صنعه وشارك في صنعه كل أولئك الذين سيتمدون هويتهم ووجودهم من هذا التاريخ ، وبالتالي فإن عملية نقل الأحداث من مستوى فاعليتها المعاشة كتجربة تاريخية الى تجربة مفارقة للتاريخ ، الى تجربة فوق تاريخية هي عملية مشروعة تماما في الوعي المؤسس لهذه التجربة .
التعليقات (0)