النحاة العرب هم من اخترع مصطلح الضمير المستتر، وأظن أن السياسة كانت حاضرة بقوة في النحو، إذ جعل النحاة - بذكاء يحسدون عليه - الفاعل مرفوعا دائما، أيا كان الفاعل، أليس هو صاحب القوة؟!
وإمعانا في رفعه قرروا أن تكون علامته الأصلية الضم، وهكذا يكافؤ الفاعل بالقبلات والضم في الأحضان، وجعلوا المفعول به – أيا كان - منصوبا دائما لأنه ضعيف لا قوة له، والعلامة الأصلية للنصب هي الفتح، ولا يحتاج الأمر هنا إلى تعليق، خصوصا إذا ارتبط الفتح في ذاكرتنا بفتح الأيدي في المدارس لتلقي العلقة ممن نحسبهم معلمين وما هم بمعلمين، كما أعطى النحاة لبعض الحروف قوة الجر، والجر هو الخفض، فحرف واحد تتفوه به يستطيع أن يخفضك ويجرك رغم شواربك المفتولة. ومما يؤكد حضور السياسة في النحو هو ارتباط السلامة بالسكون في القول المشهور (سكن تسلم)، فمن أراد السلامة فليختر السكون.
ولعل العدوى انتقلت من الممارسة النحوية إلى الممارسة الاجتماعية، فالضمير العام الذي كان بارزا وظاهرا وعصيا على الاستتار لم يعد كذلك، وسادت حالة اللامبالاة تجاه الشأن العام أو تجاه من يشتغلون به، بل أصبح المشتغلون به في موقع الاتهام في أحايين كثيرة.
الضمير الاجتماعي هو الذي يتعاطى مع الظواهر العامة، فإذا كان الضمير بارزا فإنه يشكل مناعة ضد كافة الانحرافات، أما إذا تحول إلى ضمير مستتر تقديره هو فإن ذلك يعني تبلد الشعور وسيادة حالة التطبيع مع ظواهر الفساد والانحراف. والمسألة لا تكون مفاجئة ولكنها تتدرج شيئا فشيئا، ففي فترة من الفترات كانت المجاهرة باستماع الأغاني أمرا مستهجنا في مجتمعنا مثلا، ثم بدأ الأمر يأخذ دورة أخرى حتى وصلنا إلى مرحلة التطبيع مع الأغاني الصاخبة والماجنة، شرقيها وغربيها، التي تلوث شوارعنا وأسماعنا، ولا تجد من ينكرها، أو يتصدى لها بشكل علمي مدروس.
ومن الأمثلة كذلك الرشوة التي لم تعد عيبا، بل أصبحت قاعدة وما سواها استثناء، فإذا أردت لمعاملة أن تسير على ما يرام فما عليك إلا أن ( تدهن السير ) لتنزلق المعاملة بسرعة تعتمد على نوع الدهن المستخدم. ومن الأمثلة أيضا الواسطة أو المحسوبية التي لم تستثنِ قطاعا من القطاعات أو مؤسسة من المؤسسات، فللحصول على الوظيفة واسطة، وللنقل واسطة، وللترقية واسطة، ولدخول الجامعة واسطة، وحتى لدخول بعض المستشفيات العامة تحتاج لواسطة. وهكذا غدا الناس لا يخشون الحديث عن الواسطة، بل يتفاخرون بواسطاتهم، فالواسطات أنواع ومستويات، وما للفقير أو الضعيف إلا الانتظار في نهاية الطابور حتى يأتيه الدور أو الموت، والثاني أقرب.
والضمير الاجتماعي كما يتعرض للاستتار، فإنه قد يتعرض للتشويه، وذلك حين يكيل بمكيالين، فهو متيقظ في القضايا المتصلة بفئته أو جماعته أو طائفته، ويغط في سبات عميق حين تتعرض فئة أو جماعة أو طائفة أخرى لنفس القضايا. هو يدين الإرهاب حين يقع عليه، لكن يغض النظر حين يقع على الآخرين، هو يتحدث عن حرية التعبير كحق له، أما الآخرون فلا غضاضة في تكميم أفواههم. هذا النوع من الضمير لم يذكره النحاة في كتبهم، ولعله لم يكن معروفا أيام الخلاف بين البصريين والكوفيين، أما اليوم فخلافاتنا في الغالب خالية من الضمير.
التعليقات (0)