لا أمل يلوح في الافق، نحو بناء ثقافة انسانية، بعد ان حوّل بعض مهووسي الدين، الكون الى جغرافية للهوس الديني. ذلك الهوس الذي يلغي الآخر، ما دام كل دين قد حجز الجنة لأتباعه، وأغلق ابوابها في وجه الآخرين، بل وحرّمها عليهم. جغرافية لا ترتوي الا بالدم، ولا طمأنينة لأهلها الا باهانة الأديان الأخرى واذلال اتباعها.
ان موعد احراق نسخة من المصحف الكريم يقترب. وليس منّا من يستطيع التكهن ما ستجرّه من مشاكل ربما تتعمد بالدم والنار! هذا العمل المخطط له، وصفته وزيرة الخارجية الامريكية بالعمل المشين، ربما هو أكثر من ذلك. وقد أعادنا الى الفترة التي دمّرت فيها طالبان تماثيل بوذا، على اعتبار انها نوع من الوثنية وعبادة الأصنام. ولم يجد نفعا تدخل العالم كله، وعلى رأسهم القيادات الاسلامية الرفيعة المستوى، لكن ذلك لم يثن طالبان عن تفجير الرموز الدينية البوذية.
الرسوم الكاريكاتورية للرسام الدنماركي، وما أعقبها من حرق سفارات وأعلام الدول الاسكندنافية، ودوس الصليب عليها بالأحذية، ذيول ومضاعفات تلك الرسوم ما زالت قائمة، من محاولة اغتيال الفنان، واستنكار شديد لمنح الفنان جائزة المانية، دافعت عنها ميراكل، واعتبرتها نوعا من حرية التعبير.
الرئيس الامريكي السابق جورج بوش، تلقى وحيا سماويا، فأعلن حربه الصليبية على الارهاب، بعد ان قسّم العالم الى قسمين.. خير وشر ومن ليس معه فهو ضده، اي انه حليف للشيطان!! تبعه الشيخ ابن لادن، وأعلن جهاده المقدس ضد الصليبيين، بعد ان قسّم العالم الى فسطاطين، الخير والشر. وكان ان دفع مئات الآلاف من الابرياء ضحايا الهوس الديني، وتسابق المهووسين الى الجنة، على جثث وجماجم الابرياء، الذين لو خيّروا لانحازوا لخيار الحياة!!
حرق القرآن سوف يقابله حرق للانجيل "المحرّف" بناء على اقتراح شيخ سعودي. يبدو ان المقبل من الايام سوف يحمل لنا حرب احراق الكتب المقدسة، او ربما تدنيسها، او التشهير بها، ولا ندري بعد ماذا تحمل لنا هذه العقول المبدعة والخلاقة، في مجال التحقير والاذلال والدوس على الكرامة الانسانية.
والى جانب هذا الصراع الديني الفريد، ينبت عندنا الصراع الطائفي، بين طوائف الدين الواحد.. اذ تجري المطالبة بسجن شيخ لتطاوله على الصحابة وعلى السيدة عائشة.. اماكن مقدسة شيعية تفجر، وأخرى سنية تلقى ذات المصير، والكل في سباق محموم الى الفردوس السماوي، بتحويل الحياة الى جحيم، يفوق برعبه ورهبته، ما يتحدثون عنه في الآخرة.
مشكلة المهووسين هؤلاء، تكمن في اعتقادهم، انهم لا يدنسون كتبا مقدسة!! فالقرآن ليس كتابا مقدسا عند ذلك الكاهن وجماعته، وبالتالي فان عمله ليس محرما، وانما هو سلوك او تصرف كيديّ، واستفزازي للمسلمين، سيما بعد ردات الفعل العنيفة على الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول الكريم! وكذلك هو الانجيل عند المسلمين، فهو كتاب محرف وبذلك تسقط القداسة عنه " اوتوماتيكيا".. ما يعني "تحليل" ، من الحلال، حرقه، وهو ايضا سلوك استفزازي وكيديّ.. لكنه غير محرم!
أين تقع حدود المحرمات والمحللات عند هؤلاء؟ وعندما يدّعي اصحاب كل ديانة، بأن دينهم قد جاء بالحق، وهو الدين الحق عند الخالق، وكل الديانات الأخرى الى جهنم، فأين تكمن الحقيقة؟ اذا كان التعصب آفة، فان التعصب الديني لهو اسوأ انواع التعصب، كون الانسان لا يختار دينه!!
مع بعض التغيير نستعير من العبقري جبران قولا حكيما" الويل لأمة كثرت فيها طوائفها وقلّ فيها الدين" ! لي صديقة تقيم في لبنان. هي مؤمنة عادية. ولكن بسبب بعض الظروف، فقد اعتادت ان تستضيف بعض الدعاة في بيتها لالقاء محاضرات في الدين لدعاة من مختلف الطوائف، ولم يكن عندها مشكلة. فقد كانت تقول ببراءة المؤمنة الحقيقية:" هو اسلام واحد وقرآن واحد". التقيتها صدفة في بيروت منذ اسبوعين. سألتها عن هوايتها في جمع الدعاة في بيتها، أجابتني وباستنكار وشيء من الخوف،" لقد زعزعوا ايماني، وبدأت أشك في كل شيء، ولما خفت ان افقد ايماني، توقفت عن الاستماع لأي داعية، واكتفيت بالصلاة وقراءة القرآن، بعد ان أصبح لدينا أكثر من اسلام".
ان الخطر على الاسلام، ليس من "الكفرة" او من حرق القرآن، وانما يكمن في الحركات الأصولية الغير معروفة مصادر تمويلها، والغير مفهوم ما هو الهدف من تكاثرها كالفطر السام!!
المرأة الحديدية تاتشر، قد بشّرت بحرب ضد المسلمين في أوروبا قبل سنوات عديدة، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وفي ألمانيا، يتناول بعض العنصريين النكتة التالية:" ما هو الفرق بين اليهودي والتركي؟ ان الاول نال ما يستحق، واما الثاني فسيحين دوره "!!
المستفيد من هذه " الهمروجة" الدينية، تبقى اسرائيل، التي تمارس التهجير، والحفر تحت الاقصى لزعزعته وانهياره تلقائيا، وتتحقق المعجزة الالهية ! وتهود القدس بطرد المقدسيين منها. تقوم ببناء المستوطنات، وتقدم كل اسباب الرخاء لمستوطنيها، بمعنى انها تخلق جنة حقيقية لمواطنيها هنا على الأرض، فيما نتسابق نحن الى الموت المجاني طمعا في جنة سماوية متخيّلة !
اسرائيل ايضا تبني مجدها على وعد الهي، وهاهم المتدينون لا يقلّون هوسا دينيا، واصدار الفتاوى الغريبة والعجيبة، التي تحقّر الآخر وتمجد الذات !! فأي كون هذا الذي تحوّل الى كرنفال للمساخر والشرور ترتكب باسم الدين !! ألا يستحق هذا الكون خسفا من رب العالمين !
التعليقات (0)