كهرباء دارفور ومياه الثغـر جناحي وحدة السودان
يثلج الصدر أحياناً ويطيب الخاطر أن يستشعر المواطن العادي إستماع القيادة السياسية العليا للرأي الآخر وإهتمامها وعملها به ؛ حتى لو جاء ذلك في الإتجاه المعاكس لتقارير أمانات حزب المؤتمر الوطني الحاكم، وتوجهات البرلمان ؛ ومستشاري الغبراء وأفندية الديوان.
لايختلف إثنان في أن هناك شللية وطبقة شبيهة ببلاك الأسنان المُهْمَلة تعمل جهدها على مر عصور الأنظمة السياسية الحاكمة ؛ هدفها عزل القيادة العليا عن شعبها . وتحويلها إلى مجرد حواكير خاصة بهم لأجل الحصول على منافع مالية وعينية .... وأمثال هؤلاء من طبقة البلاك لهم مواهبهم النادرة في إرتداء الفراوي ، والتسلق والمراءاة والمداهنة ، وبذل معسول الكلام ، والتمدّد والإنطواء بعضلات ونعومة جلد الأفاعي الرقطاء في سبيل حصولهم على مبتغاهم . ودائما ما ينجحون ؛ وبهم وبالسوس الذي يتركونه خلفهم تنهار العروش وأنظمة الحكم القائمة..... والتاريخ العالمي والوطني الموثق يشهد على ذلك.
جميل ويستدعي التفاؤل إذن أن يستشعر أصحاب الأقلام الحرّة أن القيادة السياسة العليا لاتصم آذانها ، ولا تستغشي ثيابها في ردود أفعالها تجاه أصحاب الرأي الآخر . وأن لايقتصر إصغاء هذه القيادة السياسية العليا لعموم المطبلين وحدهم ، وأصحاب " كله تمام يا سيادتو" ؛ سواء عبر الصحف وأجهزة الإعلام ومن خلال التقارير الروتينية ؛ وهمسات وتمتمات مستشاري وأفندية الديوان الذين لاهمّ لهم سوى بذل كل ماهو غالي ورخيص لإرضاء جنابو وسعادتو ، وفق ما يظنون أنه حظهم من الواجب الوظيفي.
وقد كان اللافت خلال الأسابيع الأخيرة الماضية أن القيادة العليا للدولة قد إختارت الإستماع إلى قناعات الشارع العام والأقلام الحرة فيما يتعلق بثلاث قضايا محورية إستراتيجية ، فرضت نفسها على الساحة في توقيت واحد . وهو ما يؤكد مدى أهميتها الأمنية الإستراتيجية القصوى وهي:
1- تعديل قانون قوات الشعب المسلحة بما يلبي متطلبات المرحلة الأمنية الراهنة ، والمهددات الجدية التي تكاد تمزق وحدة البلاد على يد بعض العملاء لإسرائيل ودولة جنوب السودان يقودون شرذمة من فلول مرتزقة القذافي الأفارقة. وممتهني النهب المسلح في دارفور.
2- كارثة مياه البحر الأحمر عامة والثغـر خاصة.
3- كهرباء دارفور.
وفي هذا الإطار لامناص من أن يعرض الفرد للتعليق على ما كان قد تم تداوله داخل البرلمان فيما يتعلق بمشروع مد ولاية البحر الأحمر عامة وبورتسودان خاصة بمياه النيل .. وتداول ما أطلق عليه وقتها "أن توصيل ماء النيل عبر أنابيب إلى بورتسودان غير ذي جدوى إقتصادية "....
سبحان الله ... مشروع إستراتيجي أمني متعلق بتلبية مطلب خدمي لمواطني ولاية بغضّها وغضيضها. وأهميتها في مجال الصادر والوارد ولما تتمتع به من ثروات معدنية ؛ يقال عنه أنه غير ذي جدوى إقتصادية؟
تحوَّل الشعب إذن إلى مجرد زبائن ، ومزارع دواجن وإنتاج بيض على ما يبدو في صدور بعض "النبلاء" في عصر القياصرة.
لقد أفصحت هذه المقالة عن التوجه الإستعلائي البغيض ، وإعوجاج في التفكير ، وخلل عميق في النظرة الإستراتيجية الشمولية ؛ وربما تفسر وبإختصار العقدة والعلة والمرض المزمن لدينا فيما يتعلق بإنشاء مشاريع البنية التحتية الأساسية من جهة . وما بتنا نعانيه من قدرة حركات التمرد على إستغلال ما يسمى بالتهميش ذريعة لفرض واقع عدم الإستقرار وإجهاض للتنمية الإقتصادية ، خدمة في نهاية المطاف لجهات خارجية يهمها في المقام الأول أن يعاني السودان من الضعف والوهن والإنشغال عن غيره في نفسه . والتخلي طواعية عن المطالبة بأراضيه في أبيي وحلايب والفشقة.. وحيث نلاحظ أن هذه الحركات الجهوية المتمردة المسلحة يستنزف قتالها القدر الأكبر من ثروات وموارد البلاد ودماء وأرواح الأبرياء بلا طائل.
بناء السودان لايتم فقط عبر إنشاء مصانع وبنوك مرابحة بقدر ما يكون االبناء قائم على فلسفة التنمية الشاملة أولا . وربط الأطراف بالمركز تنموياً وخدماتياً . ومنها على سبيل المثال أن يشرب المواطن في بورتسودان من ماء النيل ... وأن تصل الكهرباء بوفرة إلى دارفور كي تدور عجلة التنمية وتشرب وتسقي وتزرع دارفور وكردفان من المياه الجوفية الوافرة هناك . وبهذا يتصالح وتمتلي عيون أهل الضرع والزرع والمرعى هناك بعد أن تصبح دارفور وكردفان جنتان مدهامتان .
وهكذا إذن تكون التربية الوطنية ومنها نستقي المنهج المواتي الذي لم نتمكن حتى تاريخه من تحديد مفهومه وتسطير معانيه وأبجدياته لغرسها في أفئدة النشء من طلاب المدارس ؛ ومن خلال أجهزة الإغلام الرسمية لبناء غدٍ مشرق أفضل.
وبنحو عام تظل الإستراتيجية التنموية الأمنية لضمان وحدة السودان هو بناء ونسج شبكة معقدة من المصالح بين كافة الولايات والمناطق والمحافظات ؛ بحيث لا يتمكن إنسان ولاية مّـا في وقت مّــا مـن فـــك إرتباطه الحياتي اليومي الحيوي بالمناطق الأخرى ....
في كلمته الإرتجالية تحت بوابة القيادة العامة للقوات المسلحة يوم تحرير أب كرشولا . (والإرتجال هو أفضل مؤشرات سياسة الحكم في دول العالم الثالث) .... ربط الرئيس عمر البشير بين إستمرار تدفق النفط الجنوبي وبين إلتزام هذا الجنوبي بالإتفاقات المبرمة معه ، والتي يلاحظ خرقه الدائم لها.
إذن وعلى ضوء ما ذكر أعلاه فإن المسألة تصبح أكثر وضوحاً لجهة وضع الإستراتيجيات المستقبلية ؛ وأكثر إلحاحا لجهة ترتيب الأولويات في الداخل السوداني . وهو أن تصبح الإستراتيجية التنموية الأمنية لضمان وحدة السودان هو بناء ونسج شبكة معقدة من المصالح بين كافة الولايات والمناطق والمحافظات ؛ بحيث لا يتمكن إنسان ولاية مّـا في وقتٍ مـّـا من فك إرتباطه الحياتي اليومي الحيوي بالمناطق الأخرى.
نظرة عامة أولية مبسطة لأسباب رسوخ ومتانة الإتحاد الأوروبي؛ تلحظ أن أهم أسباب هذا الرسوخ هو تجاوز دول هذا الإتحاد للتباين في اللغة والعرق والعادات والتقاليد والتاريخ والحدود السياسية فيما بينها . والربط بدلا من ذلك بين المصالح الإقتصادية في أدق مقوماتها وحاجاتها وجوانبها حتى شملت الربط بين مناطق الإنتاج للمواد الخام ومناطق التصنيع ومناطق الإستهلاك ... وحيث بات على صانع الحليب والسمن الهولندي على سبيل المثال أن ينتظر بشغف وصول المواد الخام المتمثلة في ألبان النعاج من رومانيا ..... وأن تنتظر الماكينة الألمانية وصول خاماتها من شمال فرنسا .. وأن يصبح السائح الأوروبي الغربي هو أهم مقومات السياحة وسوق العقارات في إسبانيا ..... وهكذا . مما يجعل المواطن في تلك الدول الأكثر حرصاً على دعم وصيانة هذا الإتحاد ، والأكثر تأثيراً على ديمومته عبر صناديق الإنتخابات العامة في بلاده.... هذا ما نرغب بتطبيقه في الداخل السوداني وفق الواقع السوداني.
إذن وبتبسيط أكثر ينبغي أن يعي الجهاز الإعلامي الرسمي خاصة ضرورة التوجه نحو عرض وتعميق رؤى عملية لوحدة وطنية جاذبة ماثلة على الأرض ، بدلاً من جلسات الكلام الإنشائي والأماني العذبة بلا مقومات حياتية مؤثرة على المواطن ومدار سعيه اليومي في سبيل تلبيته لمطالبه الحياتية . وأن يتشبع بقناعات إمكانية تطبيق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" هذا الحديث الشريف عن أبي موسى الأشعري ، قال "وشبك بين أصابعه" .متفق عليه.
علينا إذن أن ننزل هذا الحديث من فوق منابر المساجد لينداح معناه ويمتزج بعلاقة المواطن السوداني البينية داخل بلاده .. فيصبح السوداني للسوداني كالبنيان يشد بعضه بعضاً ، فلا يعطش مواطن الثغر خاصة والبحر الأحمر عامة والسودان يجري في وسطه أنهار من المياه العذبة .... وكذا يتمكن إنسان دارفور وكردفان من توطين مقامه وتنظيم حله وترحاله ؛ والكف عن القتال لأجل المرعى والماء. ويلتفت بدلاً من نزاعاته القبلية إلى تنمية إقتصادياته وسبل كسب عيشه في محيط بيئة متصالحه .. ونلتفت كذلك إلى إنسان نهر النيل المهمش في أقصى الشمال بما يصار إلى تلبية مطالبه المشروعة فيما يتعلق بحاجاته ومتطلباته لتحقيق طموحاته في التنمية الإقتصادية المحلية ... وعلى هذا دواليك في كافة مناطق السودان يكون التخطيط الذكي والتشابك الدقيق.
ثم وبعد أن تهتم الدولة إستراتيجيا بأطراف البلاد وإنسان هذه الأطراف .. عندها فقط يصبح من المستحيل على مرتزقة وشراذم عصابات مسلحة وأصحاب أجندة مشبوهة أن تجد التربة الصالحة لنموها والإكسير السحري لإنتشارها وتأثيرها التلقائي في أكثر من تربة صالحة الآن في ربوع الوطن العزيز.
إن على المخطط الإستراتيجي أن يعي واقع ومبدأ أن الإنسان المواطن هو المفتاح السحري لغلق باب الثغرات والخروقات التي تفد من خارج البلاد أو تنمو داخلها.
حبذا إذن أن تجعل الدولة من مد كردفان ودارفور بالكهرباء أهم أولوياتها . وكذلك إرواء وقطع عطش الثغر العزيز علينا جميعا .. وعلى نحو نطبق فيه عملياً قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مثل المؤمنين في توادهم وتراحـمـهــــــم وتعاطفهم، مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحـمى."
أعتقد وربما يعتقد كثيرون أن التطبيق العملي لهذا التوجيه النبوي الكريم أفضل مليار مرة من الحرص "التلفزيوني" على التهليل ورفع أصبع السبابة دون إحساس داخلي بالرغبة والقدرة على الوفاء بهذا القسم ... وأنجع في رأب الصدع . وأقدر على رتق النسيج الإجتماعي وأكثر حكمة من مقولات "غير ذي جدوى إقتصادية" الذي يرددها بعضنا كالببغاء.
التعليقات (0)