ورحمتاه على ذلك العهد النابض بالحياة وبالبراءة الحالمة المفعم بالبساطة الناضرة وبألاحاسيس الأولية التي أبدت سجو ناعور بهذا الصخب الماثل في الذكرى نشيجيا وبكائا لا ينتهي ..
أنني احمل لأرض ناعور قداسة في قلبي لا تعدلها قداسة السماوات، بترابها الزكي وصخرها الندي بعيونها الباكية و سهولها الساجية بالنشيج الذي تبعثه أمواه سيلها العرم وهي تساقط من أعالي شلالاتها كتلا موشاة تراقصها رياح الجنوب حينا والشمال أحيانا ..فتطلق من قلبها زفرات وهمهمات تتردد أصداؤها في الفضاء .
بزهرها االمفوف الفريد الألوان والاجناس أزاهر تبث في الجو سحرا محموما وعطرا مشفوعا بآهات عذاراها الغوادي . و شجرها المسكون بانداء مساءاتها، وموسيقاها الشجية الألحان تبعثها الطبيعة الساحرة الخلابة يرددها بفطرة الحس الكروان والحسون في صباحاتها الوضيئة، أو صدح بلابلها وقبراتها في مسائاتها الأنيسة ، مما يبعث أثرا شجيا في النفس يعبق بالسحر والجلال والجمال .
اني في ذهول بسبب هذه الروائع وهذا الفيض من النوافر من الانطباعات التي تهز القلب هزا حتى ينهار تحت ضرباتها الموجعة .....
ولكم وددت أن اعيش هناك في ذياك المكان الذي مزج بين القداسة والجمال وبين الألوهية، بين الشهوة والتقوى، بين الآنفلات من العقل الى السباحة في بحور الشهوة الغارقة في حمأ مسنون . مما لا يتوافر على تكوين جماع عواطفي أو ارادتي وصخب التحريمات التي تطلق الروح من عقالها ..
هذا الوادي المدنف بدموع عين الفارعة عند اقدام الجبال وانثيال الهضاب . يتهادى كأنه ثمل بمياهه المتدفقة شهوة من زفرات الخلق الأولى .
وأما بدهتك اشعة الشمس الوضيئة التي تنعكس أطيافها الرائعة على صفحة الغدارن التي يتصاعد منها الرذاذ اللطيف في كل اتجاه حتى يلطم المساكن الغافية على حفافيها
اي مورد عذب هذا للروح الهائمة عند مشارف الفجر أو انثناءات المساء ؟
أيه يهذا الأفول على ناعور ... ما أبهاك
عبثا رفعت صلاتي إليك من مدامع الضياء في روحي وألسنة الصمت في قلبي حال انقشعت غيوم العقل هنيهة ..
على فمي لحن غريب يصوغه قلب غريب ووشوشات أدواح عطرة تبعثها في نفسي ذكرى تمر على عجل، لأروي لك رواية حي اللاتين في ناعور ... ولكن ما شأني بحي اللاتين وأناسه..؟ الآن أوجل ذلك قليلا وأحملك على جناح الخيال المفعم بالشوق الي أعز ما في هذا الحي، واعز ما في ناعور، بل ومافي الأردن جميعه وأعلاه وأغلاه واثمنه، الدير.. بل الكنيسة.. في قلب الدير فهلم نرحل رحلة الى السماوات العلى وليبتدء معراجنا من هنا من قلب الكنيسة العظيمة ..
يقال أن هذه الكنيسة قامت على موضع مقدس طاهر حيث لا تزال بقايا هذا الموضع ماثلة الى يومنا هذا ، كهف احيط باللأواح الرخامية التي تعددت ألوانها بين الأخضر والأحمر والأسود من جميع جوانبة إلا من فتحت صغيرة تسمح بمرور النظر الى بهو واسع من الداخل تضيئه أحجار العقيق واللازورد، وثمة مذهبات طليت بها أحجار القبر الكبير الذي يرقد تحت أربعة من الشمعدانات، و ضوء حفيف يسري متدليا من فتحت واسعة في أعلى الجرن المثبتّ فوق السطح .. وهو جرن صغير من الرخام الاسود عليه ثلاثة رسوم نافرة من خارجه، رسم للملاك الطاهر، ورسم للأم البتول وهي تحمل وليدها، والرسم الثالث لا يكاد يظهر منه إلا بقاياه، خيوط نور لكن أنّا لنا بمنبعها... يال الخسارة .. لوأن مصدر الضؤء اتضح لكنا رحلنا رحلة في التأويل لا تعادلها رحلة .. .. تنفذ الأشعة من فتخة صغيرة في قعر الجرن عندما تتعامد الشمس عليه وقت الظهيرة، وقد حفر على حواف الجرن من داخلة احفورة على شكل قناة تنساب بشكل مائل لتخرج من احدى حوافه، كيما لا تسمح لمياه المطر بالدخول الى البهو الذي يرقد فيه القبر. تتهادى خيوط الشمس بدعة ساكنة فتنعكس على تلك الحجارة في كل اتجاه داخل القبر بالوان تميل من الأحمر الى الأزرق كأنها تحاكي قصة الخلق الأولى.. ثم تردتد هذه الأشعة على فضاء البهو الذي يحيط بالقبر في اشكال متقاطعة تخلب لب الناظر . اية معجزة تلك...؟ ومن هو هذا الراقد في القبر الساكن في القلوب العذارى والنفوس المليئة بالايمان النقي؟ هناك روايتان لكن سنعتمد الرواية الأكثر انتشارا، ولو ان ثمة اشياء كثيرة لا يمكن قبولها أو الإطمئنان لها ، لكنا سنرويها كما هي . ففي رويتها البريئة تلك معاني ألفتها نفوس أهل الحي ورفضها من رفضها بدواعي العلم والتثبت التاريخي . يعود هذا القبر للقديس ثيماوس 179 م وكان احد الخدم في الدير الدمشقي الذي اسسه بولس اذ كانت بدايته رهابا متنسكنا ثم ترقى في التعاليم التي يقال انه تلقاها من تلميذ نجيب لبولس الرسول يدعى يوحنا الثاني .. الى ان تحول الى واحد من الآباء لكن مع حملة الاضطهاد والملاحقة التي تعرضت لها الكنيسة في بداياتها، فر هذا الراهب الى الأردن وتحديدا الى تلك المنطقة المعزولة، وسكن هذا الكهف الذي يقع على كتف هضبة رائعة الجمال بالقرب من عين الفارعة، وما لبث أن آوت اليه بعض القبائل المجاورة التي آمنت بهذا الدين أو بتعاليم الراهب الى آخر القصة التي تجرى مجرى الخرافة لأسباغ القداسة على هذا الموضع . هناك رواية أخرى تقول أن القبر يعود الى قديس يدعى بطرس الثاني واستدلواعلى ذلك من الحروف اللاتينية الموجود على صخرة بجانب القبر، لكنها لم تقل من هوبطرس لا تاريخ ولا معلومة تشير من قريب أو بعيد الى هذا الاسم ... بحيث لا نعود نعرف ما الذي كان يشكله هذا الأب الثالث من آباء الكنيسة في الجيل الثالث والذي صمتت عنه كتب التاريخ المسيحي صمت القبور وهي التي من عادتها ايراد التفاصيل الدقيقة عن هذه الفترة تحديدا لأنهم يعتبرونها فترة التأسيس .. ثم أن اللغة اللاتينة لم تكن لغة معروفة في المنطقة فهي لغة حديثة نسبيا اذا ما قارنها باللغات التي كانت متداولة آنذاك في المنطقة، الأمر الذي يلقي بضلال من الشك والريبة على الأسم، وعلى من دونه وتاريخ تدوينه .. على كل .. الكنيسة مرت بحقب تاريخية عديدة لا نريد الدخول في تفصيلاتها، وعلى من أراد الاستزادة في الاطلاع على تاريخ هذه الكنيسة فعليه الرجوع الى الكتاب الذي ألفه حنا سالم الياس ... عن تاريخ الأردن تحت عنوان .. من هنا كانت البداية ... والذي مع كل اسف لم يلق أي صدى يذكر لا في الأواسط المسيحية ولا المسلمة ولا في غيرها من مدعي الثقافة والبحث، ولا ادري سببا لذلك سوى الجهل والاهمال المقصود و الغير مبرر ..من الجميع .. مع ان الكاتب بذل فيه بحثا وافيا وأورد مصادر كثيرة راح ينقب بها ويفصل ويدقق ويتأمل حتى أخرج هذه التحفة العلمية ، لكن واعحبي من مدعي الثقافة والفكر والتاريخ في الأردن الذين لا يستحقون سوى أن نمطرهم بالعنات صباح مساء ... لجهلهم وادعائهم .وزيفهم وضلالهم فكتاب مثل هذا كان يمكن أن يكون نقطة لبداية كتابة تاريخ الأردن القديم من جديد برؤية مغايرة رؤية لا تأسر تاريخ الأردن في هذا الدجل السياسيى الجهوي البغيض . خاصة وأن الكاتب أغرق في البحث التاريخي لهذه المنطقة وهو كتاب ضخم يقع في مجلدين نشره على حسابه الشخصي عام 1994 في عمان ..و بعد أن ضاقت به دور النشر الخاصة التي تردد عليها كثيرا .. ... عرضه على موسسات النشر العامة ولأن هذه المؤسسات لا تنشر الا كل ما هو تافه ، ذلك أن القائمين على مؤسسات النشر في الدولة ما هم الا حفنة من الجهلة الذي شكلوا فيما بينهم شلل بغيضة سيطرة بجهويتها البغيضة على المشهد التقافي والفكري فكانت الكارثة .. ولذلك لا نستغرب كثيرا أنه لم يظهر في الأردن كاتب جيد ولا شاعر جيد ولا مفكر جيد ولا روائي جيد.. ولا مؤرخ جيد ولا حتى اعلامي جيد ..
عندما احتل الرومان الأردن في عام 63 ق.م راحوا يبنون المدن في هذه المنطقة التي أطلق عليها مدن الدكيابولس العشرة والتي لا تزال بقاياها ماثلة الى هذا اليوم ولذلك راح فن العمارة الروماني يطغى بشدة بعد أن تحولت روما الى المسيحية في بناء الكنائس والأديرة ودور العبادة . والفن الروماني فن أرضي لايطلق العنان الى الخيال ولا يهتم الا بمسحة الجمال التي تحيل اليها ألبهة والعظمة فلم يعرف هذا الفن العمراني فلسفة التجرد والمزج بين ما هو روحي وبين ما هو مادي فلم يهتم ابدا بالتفصيلات الجزئية ويكفي أن تنظر الى طريقة التدوير في المباني وطريقة التدريج من الأسفل الى الأعلى التي تحدد مستوى النظر في زاوية حادة . لا شك ان دير ناعور او كنيسة ثماوس أو كنيسة بطرس أو كنيسة اللاتين كما يطلق عليها الآن قد حظيت بهتمام بالغ من قبل الرومان لقد وجدت بقايا آثار للأعمدة الرومانية في الطرف الغربي والجنوبي استخدم بعضا منها في واجهة الدير والمدرسة الملحقة به كما أنه ما تزال الطريق التي تربط بين الدير والبساتين الملحقة به والمرصوفة بحجارة كبيرة على شكل طولي ومربع وأحيان مستدير موجودة الى يومنا هذا مما يدل أنه كانت هناك عناية قصوى بهذه الكنيسة على وجه التحديد كمكان مقدس أكثر منه مكانا للعبادة ....
لكن البنا القائم اليوم يعود الى عام 1256 للميلاد كما يدل على ذلك الشاهد الحجري المثبت على أرضية المذبح في الجهة المحيطة بالقبر من ناحيته الشرقية أن أثنين من المهندسين الطليان الذين رافقوا الحملات الصليبية هم على ما يبدو من قاموا ببناء الكنيسة على طراز الفن القوطي العظيم هذا الفن الذي أخذ ينتشر في أوروبا مع بدايات عام 1100م واستمر زهاء 400 عام انشئت على اساسة وبوحية كانئس عظمي ما تزال قائمة الى اليوم كنوتردام وشاتر في فرنسا ودي مارينا في اسبانيا و لباسيلكاديوالبرتغال وغيرها الكثير الكثير ....
وكان تخطيط أرض كنيسة ناعور في جوهره هو تخطيط روماني اشتمل على صحن مستطيل وثلاثة درجات ترتفع الى المستطيل البيضاوي الصغير الذي يضم المحراب والمذبح .. لقد تم الأبقاء على هذه الأرضية ثم اقيم البناء على الطراز القوطي ثلاثة جدران و اقيم السقف على عشرين عامودا من الرخام الأبيض المصقول اعمدة رفيعة رشيقة بعكس الأعمدة الرومانية التي تمتاز بالضخامة . ثم ترتبط الأعمدة بأقواس تتقاطع باستمرار فيما بينها مما يعكس هذه الابهة الفريدة التي يقوم عليها. مع البقاء على المساحة الرائعة للصقف الذي وشي بلوحات فنية لا مثيل لها .والوحات هي لرسام واحد اسمه القديس لفياني وهو صقلي عمل على هذه اللوحات بتكليف من احد بابوات روما أو من احد البطاركة ذوي النفوذ الذين زاروا المنطقة وعمل على وضع الساسات لبناء كنيسة النبي موسى في جبل نبو في مادبا التي اقيمت على قبر موسى وهي معلمة اثارية غاية في الروعة سنعود للحديث عنها بشكل مفصل في مقالة أخرى .. اللوحات المتناثرة على السف هي ثلاثة لوحات أهمها على الإطلاق هي لوحة الألهة الأم التي ادهشتني ووقفت أول مرة رأيتها أكثر من ساعتين امامها متأملا مأخوذا مذهولا لا ألوي على شيء .. الأم مريم تخرج من قبرها بوجهها الوضيئ وعيناها التي تبعث ابتسامة الرضى وغطاء الراس الذي وشي بالأسود والأخضر المعشق بالحمرة اما خديها فكان انعكاس النور الذي يبعثه الفضاء المحيط عليهما جعلهما متوردان يميلان بلمسة خفيفة الى الحمرة .. وضع على رأسها تاج من نور هو ذاته النور الذي ينبعث من القبر الفارغ في أسفل اللوحة التي قامت منه العذراء ثم راح يوشي الحجر غطاء القبر بلون داكن مما يوحي أن هذا المكان الفارغ الخاوي حزين على مغادرة الجسد الألهي له .. كما أن الملائكة الأطفال الذين أحاطوا بمريم كانوا في غاية الجمال والبهاء، وأشد ما يبدهك في هذا اللوحة منظر التلاميذ والنسوة التي ادهشتهم الفرحة بقيام مريم من قبرها وصعودها في الفضاء طائرة الى أعلى، تتلمس هنا كيف راح الصمت المدوي يطبق على نفوسهم وتلك القشعريرة التي علت أجسادهم تهزها عنيفا حتى تبكيهم ... أما اللوحة الثانية فهي المسيح على الصليب .. لوحةتبعث في النفس الألم والحزن والأسى والرهبة والخوف تختلط المشاعر حتى تغيب تماما في الفكرة التي تسيطير عليك وكأنك أمام المشهد التاريخي حاضر هناك، واغرب ما في هذه اللوحة كيف تلاحقك عينا المسيح .. حتى تخترق مجاهل وعيك ولا وعيك، وكأنه يقول أنا هنا لأجلك كان عليّ أن ادفع هذا الثمن كي أخلصك من خطيئة أبيك ، ياله من منظر ويالها من لوحة راح الرسام العبقري يحرك فيها الحدث داخل الزمن ليخترق الذات ويشرخ الروح ويحطم النفس .. كأنما قطرات الدم التي تفر من جبين المسيح وجسده لا تزال حارة أكاد ألمسها بيدي وأكاد ألمس ذؤابة الرمح التي غرست في الجسد .. آه كم تألمت وكم حزنت .. .. اللوحة الثالثة كانت للمسيح وهو ينزل عن الصليب لوحة تسكب في النفوس مزيدا من الحسرة والألم والبكاء المر هكذا أراد الرسام لكنهم ويا حسرتاه لا يفهمون ...
لنترك اللوحات تلك ولنعود الى المعمار لقد طرأ على هذه الهندسة البسيطة اذا تطور معقد ولكنه فاتن خلاب، فأضحت كنيسة رومنسية أولاً وقوطية فيما بعد، فقطع الصحن والطرقتين صحنٌ عَرضي يجعل التصميم في شكل صليب لاتيني. وشي جزءه الغربي والشرقي بالفسيفساء التي اضيفت فيما بعد بشكل عرضي ، وحبذا لو تركت على حالها السابق .. لكن ماذا تنفع الأماني ممن لا يعلمون قدر وعظمة الفن القوطي وسحره وروعته..
ومن أجل هذا كان المدخل الرئيسي في الواجهة الغربية التي تستقبل زخرفتها الخاصة ضوء الشمس الغاربة. وكان مدخلها قد تجسدت فيه أبهة وعظمة يتألف من باكية ذات تجويفات متداخلة : أي أن أبعد العقود من الداخل يعلوه عقد أكبر منه يمتد إلى الخارج، من فوقه هو أيضاً عقد يعلوه عقد ثالث أكبر من الثاني، ويتكرر هذا الوضع حتى تبلغ العقود ثلاث طبقات تزيد جمال عقود الصحن وأكتاف الشبابيك. ويتسع كل رباط حجري من العقد المعماري للتماثيل أو غيرها من الزخارف المنحوتة، وبذلك يصبح مدخل الكنيسة وبخاصة في الواجهة الغربية، وكأنه فصل شامل واف في كتاب القصص المسيحي الحجري.
ومما زاد في روعة الواجهة الغربية ومهابتها أن أقيم حولها من الجانبين برجان، ، ولم تكن تستخدم الأبراج في الطرازين الرومنسي والقوطي مكاناً للأجراس فحسب، بل كانت تستخدم فوق ذلك لتحمل ضغط الواجهة الجنوبي، وضغط حجارة الأجنحة. كان جزؤها الأكبر مفتوحاً عند قاعدته، وكان البرج بمثابة فانوس عملاق ينفذ منه الضوء الطبيعي إلى وسط الكنيسة. وقد أراد المهندسون القوط المولعون بالأوضاع الرأسية أن يضيفوا برجاً رفيعاً مستدق الطرف لكل واحد من هذين البرجين، غير أنهم لم يسعفهم ربما الوقت ، أو الحماسة، وسقطت هذه الأبراج المستدقة كما حدث في كنيسة مادبا التي كانت تماثلها روعة وجلالا ... البرجين يشرفان على الوادي وعلى القرية وكأنهما شاهدان مؤذنان بدنو الأجل وخلاص الروح التي تسبح في فضاء هذا الوادي الغارق في سكونه وهدوئه .. علق في أعلى البرجين ناقوسين عظيمين ويقال أنه دخل في مزيج البرونز الذي صنعا منه كمية كبيرة من ذهب كنز روماني وجد في احد الكهوف الأثرية في ناعور وربما هذا ما أعطى نقاء الصوت الذي يبعثه هذين الناقوسين عند قرعهما .. وكان الضرب على الناقوسين يتم بفارق محسوب بدقة بحيث يقرع الأول وبعده بثواني يقرع الآخر فكان الصوت يتلاحق بطريقة مذهله وكأنه سنفونية الاهية مفعمة بنشيد الخلود الذي يتردد في جنبات الوادي صداها فلا تحس الاذن بانقطاعها طيلة ساعة كاملة في مساء السبت وصباح الأحد اما في الأعياد المسيحية فكانت تلك الترانيم ودقات الأجراس تستمر وقتا أطول بكثير ......
معمار الكنيسة ذا غلب عليه الفن القوطي أو البناء القوطي الفريد وميزة هذا المعمار هي التجرد من الترشيمات وتمكين الهندسة من ملء الفراغ في الكنيسة والعمل على تزويد المشاهد بانطلاقة نحو العلا كيما يتمكن من التقاط كلمات الروح القدس ويصبها في قلبة كما يأخذ بيدك الى أن يجعل زاوية النظر تمتد في الأفق بحيث لا يقطع سبيلها مؤثر ما أو عائق بصري أوفكري .. وكأن الكنيسة كلها تثب الى أعلى وتسبح في ملكوت الفضاء وبخاصة اذا ما حانت منك التفاتة الى عقودها المزدانة بالتماثيل
ففي كل عقد من عقودها تنتشر عدد من التماثيل التي لا يعلم من نحتها أو من أين جلبت تمثال للقديسة مريم وثمثال للقديسة حنة وآخر للمسيح ثم اثني عشر تمثلا مصفوفة بطريقة عجيبة تخلب لب الناضر إليها وهو يتأمل دقة الصنعة فيها ومساحة الخيال الرهيف للناحت الذي أبدعها على هذه الشاكلة الفريدة العجيبة ..
انتهى الجزء الأول
التعليقات (0)