مواضيع اليوم

كنيسة ناعور .... الجزء التاسع ..

فارس ماجدي

2010-08-22 11:53:17

0

  

  كنيسة ناعور ....   الجزء التاسع ...

 

هو ذا الليل يزداد وحشة، فما ثمة إلا ولولة الريح، وتراقص ضلال السرو على الطرقات المقفرة ، كل شيء يمتثل سكونه، وها هي ذي الأشعة الوردية التي يرسلها القمر، تروح في أنداءها ، وتسكب في قلبينا  أشواقها ، وعبير اشياءك المستسرّة  ،  وندى عطرك  وسنى جسدك ، ولوعة الرغبة  المشبوبة ، وهناك على الذرىالبعيدة  في قلبي المثكل  تتساقط   دمعة  حزينة، في مواكب النهار    ..

ما ثمة إلا رائحة الليل،  وعبث أمواه الوجد  ينثال هنا وينزهناك على السفح البعيد  في روحي  المقفرة ..

يطلق بين الحين والآخر عواءه الذي يتردد صداه في جنبات الكون....

وأنت كما الزهرة الثملى كأنها من فرط حياءها ثكلى، ومن شفيف عطرها خجلى، تميل ذات اليمن بأردافها  وذات الشمال بأعطافها ، وعلى صفحة من شبق  وضيء ،  يمرح ظلك الضليل، ويشيع سنا وجدك ، ليفيض معناك على قلبي الكسير ..

ليتني اسطيع تسريح الطرف هناك ، الى ذياك الصدر العامر  ذو السكون المشبوب  والهدؤ الرقيق ، والصفاء العتيق ، كيف السبيل إليه وقد غار في أردانه  وبعد مهواه إلا على الناظر بعين قلبه  .

أي أشواق  انهلت ، وأي نسائم انبعثت ، وأي سكينة باحلامها  تنزّت، يافضائي الذاهب بين أنداء الخمائل واهتبال الجدوال وصدح البلابل ، ها أنت تساقطين  من القمم القصية على السفوح.. كأنك سحابة من النور، ما مست شيئا إلا استحال خلقا من نور، هيا اقتربي .. اقتربي  مني من لحظة التوحد القصوى، إني لا أحتمل هذه القشعريرة التي تبعثها أنفاسك الطاهرة  في   جسدي المنهك .

أتعلمين، أنك هو هذا الوجود الذي يملؤني حضورا حي ، كلما راح  يتراقص على أناملي في لحظة تأمل قصوي .

الوجود يا سيدة الحلم ، ليس هو الشيء المادي الذي تستشعره الحواس ، وإنما كل ما يصدر عنا  من فعل أو قول أو فكر ، هو تلك العلاقة المباشرة مع الأشياء الخارجة عنا ، فإشعاعات الذات من فكر أو فعل أو قول هي الوجود الحقيقي في هذا الكون، لأنها توجد في احداثه بغير ما ضرورة الى ادراكه ادراكا مباشرا ، وبالنظر من هذه الزاوية الى الوجود الانساني نرى أنه يخفق في الكون على موجات من التأثر والتأثير غير المحسوس، وهو من ثم وبالنسبة الى الحياة ذاتها يعتبر الحادث الذي تمخض عنه مجهودها بقصد خلق معنى جديد، وتعبير مبتكر ، ولهذا كان كل وجود ضرورة، وكان خلاصة كل ما سلف من معاني، وما سبق من تعبير ، تجدد به الحياة نفسها عندما تركز كل صورتها الخلاقة ومحصلتها من النمو الروحي في حادث جديد يتناغم مع الأحداث قديمها وجديدها ، فيهبها معنا أرقى وتعبيرا أدق ، وبهذا يمكن القول أن الحياة تعيد خلق نفسها مع كل خلق لوجود جديد . هو ما يمكن التعبير عنه بلغة الفلاسفة أن الكل سبب الكل ، إن الانسان يفيض معناه على الحياة ، ويخلط تعبيره بتعبيرها، ومتى استطعت أن تستشعري هذا اللحظة تتغير علاقتك بالكون لتتخذ  مفهوما جديدا ، فليس ثمة الزام من أي منهما للآخر وإنما الأشكال في العلاقات تتشابه و تتنوع و تتداخل وتتفاصل وتتواصل .

  
  ألم تسمع عن ذلك الشخص  الذي أشعل المصباح في منتصف النهار ثم مشى في السوق وهب  صارخا بلا توقف: أنا أبحث عن الرب :  أين الرب؟. سأقول لكم! لقد قتلناه. نحن جميعا قتلناه،  و لكن كيف قمنا بذلك كيف إقترفنا هذه الجريمة ؟

 كيف نستطيع أن نشرب البحر ونبتلع الهواء  كيف يمكن أن نقفز بعد الآن بأرجلنا الحافية فوق المياه ؟

من أعطانا الممحاة من اجل أن نمحي الأفق ونقتل الضياء الذي يمرح بين جنباته ؟

 ماذا فعلنا عندما حررنا الأرض من الشمس وأرقنا الدم الطاهر على اشلاء الشمس ؟

 إلى أين يسوقنا هذا المصير  بعد الآن؟

 إلى أين نتحرك ولماذا علينا أن نتحرك ؟

 ألا نسقط بشكل دائم من هناك ؟

 ألا يلامسنا المكان الفارغ؟

 ألا يأتي الليل دائما؟

 ألا يجب أن تُضاء المصابيح في منتصف النهار؟

 مات الرب، و سيبقى ميتا. و نحن من قتله. كيف نعزي أنفسنا، بأننا أكبر السفاحين؟

 من سيمسح الدم عن أيدينا  ؟

 ما هو الماء الذي سيطهرنا؟

من سيغسل عارنا بعد الآن ؟  

من سيواري جثة الرب ، ولماذا كان علينا أن نقتله دون رحمة ؟

صدقيني تأملت هذه الأسئلة  في تلك القصاصة التي حشوتها البارحة في جيب معطفي كثيرا.. ولم أجرؤ  على التفكير بها .. لكن ثمة جواب كسيح كان يراودني .. كل هذه الأسئلة كانت رقصا على جرح راح يتسع في روحك فلا تبذري هذه الأسئلة التي أرهقت عقل نيتشة في صحراء لا روح فيها ولا حياة .  

 

ويأتي صوتك خافتا بهيا  لاتذهب نفسك يا عزيزي  حسرات.. على ما كان وما سيكون ... واهتف مع دفني... احبب ما لن تراه مرتين ..

لم أفهم مرة أخرى .. كيف ترتفع الصخرة ثم تهوي في مكان سحيق ؟ 

لكن هي ذي نسائم الليل تهب محملة بعطرك السماوي فدعي عنك جلجلة الريح وصفيرها في الخارج وتعال لي كي  أملء نفسي بمعاني لم تألفيها من قبل ولن يستطيع نيتشة أن يحملنا على جناح كلمة خرجت مقتولة من عبارة قالها زارا في لحظة تأمل قصوى  ..

تلك معاني امتلأت بها نفسي من الينبوع الأصيل لهذا الوجود.. وهي معان تطايرت أحساسا في كل اتجاه ساعة اذا تدفقت سيول النور من هذه الشمس التي لم أراها... أدركت مظاهرها، لكني لم أضع يدي على حقيقتها،  وهنا كان عذابي الأكبر فبدى لي العالم خليطا من الأسرار لم أتبين مداها.. هذا عداك عن المغزى الكامن وراءها .. هل هو احساسي بالشر والألم والخير والنعيم معا ؟ وما يثيره ذلك في نفسي من خواطر وهواجس،  فبدت روحي وقد سيطرت عليها هذه النغمة الكونية الحزينة حتى لم أعد اشعر إلا بهذا النوع من الشعور .. وراح ليبوردي... يتمثل أمامي ليبوردي..  هذا اللحن الحزين في ناي القلق العذب ..هذا النسيج المتشابك من القوى والإنفعالات المدمرة بحيث لم يجد معنى لمدلول عواطفه ومضمون انفعالاته المشبوبة التي راحت نفسه تعزفها في ألحان عذبة عذوبة السماء، وتهز الأوتار في داخل روحه المشبوبة الخيال، مع هذه النغمات الحزينة، التي ترددها تلك الاهتزازات المثقلة بالدموع السواجم .. و كم  السعادة، هل هو الخارج  من هذا التفاؤل الأهوج وخيلاء الحب ؟

إن الملال هو بمعنى من المعاني أجلّ العواطف الإنسانية .. لا أؤمن بهذا او ما استخلصه كثير من الفلاسفة في تحليلهم لهذه العاطفة من نتائج .. ولكن لعدم إمكان الرضى عن أي شيء . بل ولا عن الأرض كلها  ..

ها أنا أتأمل سعة المكان وأمتداده اللانهائي .. لكني اشعر أن نفسي هي أكبر من كل ذلك اي من هذا العالم المتخيل .. هذا العالم الذي يحتاج لي كي أمنحه تفسيرا، كي أعطيه أسما .. ان اتهامي للأشياء بالنقص والعدم والشعور بالعوز والخلاء وبالتالي الملال .. كل هذا يبدو لي أنه أعظم دليل على العظمة والنبل في الطبيعة الانسانية ..  لكن الإنسان هذا سقط في الخطيئة .. ومصدر هذه الخطيئة هو الإرادة ... لما انبثقت   من أعماق اللاشعور كي تستيقظ على الحياة، وجدت نفسها كفرد في عالم لا حدود له ولا نهاية .. وسط حشد هائل من الأفراد المتألمين التائهين الضالين .. ولما كانت منساقة من خلال حلم رهيب، فإنها تهرع كي تدخل من جديد في لاشعورها الأصيل .. وحتى تصل الى هذه الغاية كانت رغباتها غير متناهية .. وكل إشباع لشهوة يولد شهوة جديدة .. ولا ثمة ما يوقفها عن جموحها ونوازعها والقضاء على مقتضياتها .. أو ملء هاوية قلبها السحيقة .. فلإنسان يسعى جهده طول محياه محتملا أشد صنوف العذاب والآلام محفوفا بالمتاعب والمخاطر حتى يحافظ على هذه الحياة البائسة التافهة .. بينما الموت ماثل نصب عينيه في كل فعل وفي كل آن .. ألا يؤذن هذا كله بأن السعادة الدنيوية وهم يجب الأعتراف به .. وبأن الحياة بطبعها شر كبير .. وبأن جوهر هذا الوجود هو الشقاء بعينه .. إن السعادة النسبية التي يشعر بها المرء هي الأخرى وهم .. فما هي إلا الإمكانية المعلقة التي تضعها الحياة أمامنا على سبيل الإغراء بالبقاء في هذا الشقاء .. وهي السراب الكاذب الذي يحثنا على الحرص عليها ويحدونا الى التعلق بما فيها .. إنها تعدنا ولا تعدنا إلا بالغرور.. وتغرينا بالبقاء لنشعر بخيبة الأمل وسوء المنقلب.. وتلوّح بالسعادة الجياشة لكي تلقينا في مهاوي الشقاء والحزن  .. فلا نبلغ المأمول حتي يندفع الحنين الى المجهول .. واذا بكل آن حاضر هو الى  زوال .. كأنه السحابة الصغيرة القاتمة تزجيها الرياح فوق السهل المشمس ووراءها وأمامها كل شيء مضيء .. أما هي فوحدها من يلقي الظل باستمرار .. أليس الحياة خليقة بالإنصراف عنها  وعدم الإقبال عليها؟ ..

 أجل ألا ينبغي لنا النزوع نحو الخلاص من هذه الحياة .. بأن نميت فينا كل رغبة ونقضي لدينا على كل طموح ونضع حدا نهائيا لكل سعي ومجهود ..؟

وإن كنت في شك من أمر هذه الحياة فتأملي الزمان .. أليس الزمان هو الذي ينشب إضفار الفناء في كل موجود ؟

 أولا يحيل كل سرور الى عدم .؟. إن الزمان هو الذي يعطي لهذا العدم الماثل في الأشياء مظهر البقاء الزائل.. بينما نحن نتسائل مذهولين .. إلى أين ؟ إن هذا العدم هو العنصر الوحيد والموضوعي في الزمان .. أعني ما يقابله في الجوهر الباطن للأشياء وهو بهذا الجوهر الذي يعبر عنه ... إن الموت لا يفر منه كائن ....

وللنظر في هذه اللذة المزعومة .. والسعادة التي يتحدثون عنها فماذا نرى ؟ نحن نحس بالألم لا بالخلو من الألم وبالهم لا بالصفو من الهم، وبالجزع لا بالأمن، ونشعر بالرغبة كما نشعر بالجوع  والعطش .. لكن ما تلبث الرغبة أن تشبع .. ثم نعاني أشد ما يكون العناء...

أذا الألم والحرمان هما وحدهما للذان يمكنهما أن يحدثا تأثيرا إيجابيا، وبالتالي يكشفا عن ذاتيتهما ... أما التمتع والشعور باللذه فهو سلبي خالص .. ولذلك لا نستطيع تقدير الخيرات طالما كنا مالكين له ، كالشباب مثلا.. ولكي ندرك قيمتها لا بد من فقدها وكذلك الصحة والحرية . . فكل ألم هو في حقيقته ايجابي بينما اللذة سلبية لأنها تخلو من الألم وهذا ما عبر عنه بترركه عندما قال : كل متع الحياة لا تعدل عذابا واحدا .... ألا يدل هذه أن عدم وجودنا هو الأفضل من وجودنا ؟..

الدنيا كلها شرور وأقدامنا تطأ في كل حين ارضا مبتلة بالدموع ... ومصدر الشر في هذه الدنيا هو الإنسان .....

يقولون لي يا فينو :

لا تنظر الى الآلام والأحزان . وإذا ما نظرت إليها فلا تبصرها ، وإذا ابصرتها فلا تفهمها ، وإذا فهمتها فلا تفسرها .. وإذا نقدتها فلا تطالبها بأن تكون كما تريد .. فإذا لم تفعل ذلك ورضيت بخلافه أي اذا رضيت بأن تؤول الحياة وتنقدها فلا تبك حينئذ ولا تحزن ..

بقولون لي يا فبنو :

انظر الى الحياة بعيني حجر لا بعيني إنسان .فعيون الحجر هي أقدر على أن تبصر الآلام بغير بكاء .

يقولون لي أنك متشائم . لأنك ترى ما في الحياة والناس من هموم وعذاب وتحس بهذه الهموم وتلك العذابات وتحتج عليها بل وتثور عليها .. ولا يغفر لها في حسابك وأنت ابن الطبيعة وإنسان الطبيعة البكر الصافية.. فانظر الى جمال الشموس والأقمار وهفيف السحر في وردة يعطرها ندى الفجر العليل ..

يقولون لي:  إن رؤية الألم في مكان حيث توجد اللذة في أي مكان آخر تحقير لكل لذة

إن النظر الى وجه قبيح حيث يوجد وجه جميل تحقير لمعنى الحياة والجمال .

إن المتفاءل هو الذي لا يستطيع أن يرى الأشقياء المحرومين مادام يوجد مترفون

أو يرى المرضى مادام يوجد أصحاء أو يرى الليل مادام يوجد نهار أو يحتج على هول الجحيم ما دام يحج الى النعيم ويوعد بالنعيم ..

إن الإستماع الى الأنين فوق الأرض حيث تعلو الضحكات فوق الكواكب .. هو كفر بالآلهة وعدوان على الضاحكين .. خيانة لأمجاد الكون ومباهج الحياة .

وما دام الليل والنهار يتعايشان يسلام، وما دام الظلم والمرض والهزيمة والفواجع والهوان، وما دام الحقد والحسد والخيانة والأنانية والبغض ، ما دامت الشمس تطلع ..

وما دام الناس مستمرين يجيئون ويذهبون، يصنعون الأطفال ليستقبلهم جميعا الجلاد الرهيب ليقتلهم دون رحمة .. وكأنه يعاقبهم على مجيئهم .. وما دامت الآلهة راضية عن نفسها سعيدة في سماواتها تحي وتميت ترضى وتغضب تضحك وتعبس تبعث بالزلازل والبراكين وتجفف الغيوم وتحبس الأمطار وترسل المجاعات وتحيل الإنسان الى صخرة أو صحراء  دون أن يكون له ان يسأل ..

يقولون : إنك تحتج بالموت على الحياة وبالحزن على المسرة ، وبالفقر على الغنى وبالشيخوخة على الجمال والصبا.. وبالذين لم يجدوا الله على الذين وجدوه ....

يقولون : إنك تشترط على الآلهة والطبيعة وتريد منها أو لها أن تكون كمالا لا عيوب فيه عادلة بلا ظلم ،رحيمة بلا بقسوة، ذكية بلا غباء .. فإذا جاءت على غير ما تهوى ثرت ثورة الجحيم ... ولكنها جاءت في حدودها المفروضة .. لكن ما هي حدودها تلك ومن فرضها ؟  إنك ترى الله حين يزأر ولا تراه حين يبسم ..لكن هل لابتسم الله يوما ؟

 

إنك ترى الكون حين يرتدى ثوب العزاء ولا تراه حين يرتدي ثوب العرس .. إن السعادة والصواب لديك هما دئما في منطقك القاعدة والواجب.. أما الألم والخطأ فهما خروج عن القاعدة ...

إن السائر على قدمين لا يمكن أن يكون غفرانا لمن فقد القدمين إن من خلق بيدين لا يستحق عطفك ولا يستدعي نظرك.. أما من خلق بلا يدين هو ما يؤجج ثورتك ويعلن عظيما صراخك .. لا الترى اللذة في الوجود .. ذلك أن اللذة في الوجود هي معنى الوجود بل مسوغه ..

يقولون: لماذا لا تكون مثل هذه القبرة التي تصدح بغنها في مساءات الصيف وأرديت الغروب .. لماذا تشترط على الحياة شروطا أنت لا تفهم معناها ..

قلت لهم نعم .. ايها الواعظون نعم ..

ان كل ما في الكون من جمال من نجوم وأنهار وأقمار وأطيار وحدائق غناء وجبال وأودية وأنهار وجداول وزهور وعطور .. لا يمكن أن يكون غفرانا أو إعتذار عن قبح في القبيح أو عن ألم في المتألم أو عن هوان وبكاء. أو عن مرض أو شيخوخة. أو عن مساحة هذا العبث في هذه الكوارث التي تعصف بالحياة والأحياء ليل نهار .. لأن كل ما في العالم  من أشياء طيبة لن يستطيع أن يجعل من متألم واحد فرح .. لا يمكن لهذا العالم الفرح أن يقدم له العزاء ..

إن جميع الشموس المضيئة لن تكون تكفيرا عن ظلمة في عين فقدت ضياءها .إن جميع القصور الباذخة لن تكون إعتذارا عن حقارة في كوخ.. إن كل شيء مناقض هو عدوان على نقيضه .

إن الجمال عدوان على القبح  إن الصحة عدوان على المرض والشباب عدوان على الشيخوخة....

أيها الواعظون .. خذوا نصائحكم وأعطوني مشاعركم .. ليتكم تجربون معاناة الأحاسيس التي يعانيها من تنصحونه ..  ولأنكم لا تملكون المشاعر فكيف تعطونها ؟

 ليتكم تجربون معاناة المتألمين .. معاناة الفقير وألمه ..وجنون الجوع والحرمان والمرض والحزن .. ليتكم تجربون القسوة في عيونكم .. وقد حرمت من نعمة أن ترى .. ليتكم تجربون حالة الكسيح ومعاناة الأصم الأبكم .. ليتكم تجربون عذاب المتعذبين تجربون عري أرواحهم وعري أجسادهم ... لكنكم لن تفعلوا ولن تفعلوا ...

ليس المتفاءل هو الذي يحول الأطفال المشوهين الى أصحاء .

أو يحول البحار الى أمواه عذبة لذة للشاربين.

أو يحول الناس من ذوي أخلاق الى أناس بلا أخلاق بلا تعاليم .

أو يحول الطبيعة الملحدة الى طبيعة مؤمنة .

أو يحول القمر الى نبي صالح يحرس النجوم من الغواية والسقوط ..

أما المتشائم فهو الذي يصرخ ناقدا وناقما ومحتجا من هول البشاعات .. هو الذي لا يستطيع أن يموت صامتا .. أو شاكرا للطبيعة أو للآلهة أو للزعامات الفاسدة أو للمذاهب الطاغية . أمام طفل يموت جوعا .. أو انسان يبكي من الهوان والظلم ..

إنك قاتل اذا مدحت جمال الشمس أمام إنسان يتألم .. فكيف إذا مدحت رحمة الشمس ؟

إني احب السماء والنجوم والقمر وأحب لها أن تكون كما أتصورها وأكره الموت والغباء والهوان .

أني اكره أن تموت الأشياء . فما بالكم اذا مات انسان طفلا كان أو شيخ أو شاب .. فما بالكم فيمن ولد والمرض ينهش نفسه و يدمر روحه في كل لحظة ويظل كذلك  الى أن يموت ؟ فيكون في هذا الموت اللعين خلاصه .. اذا لماذا عليه أن يأتي من الأصل ؟

الشمس هذه ستموت يوما، وكذلك القمر، وكل النجوم والأنهار والغابات والطيور والأسماك وكل البسمات والنظرات والآهات والشفاه .. ستموت كل العصافير ستموت كل قطرات الندى التي تبلل برفق شرفات منازلنا وشرفات أرواحنا..  سيموت الجمال لهذا أكره الموت  ..وأتشائم من الموت لهذا لا احبه لا أطيقة . بل ان هذا الموت نفسه سيموت اذا لم يجد شيئا يميته .. أننا ندفع بهذا الموت ثمنا للحياة وثمنا للجمال وثمنا للأحاسيس الطهارة.. ثمنا لنسمة عليلة داعبت أرواحنا في لحظة تأمل .. لذلك أحببت كل المتشائمين وكل الفلاسفة العظماء كانوا من هذا الطراز وكل الشعراء العظام كانوا من هذا القبيل ....

أيها الكون السائر في دربه الى الموت .. أيها القصيدة المنسوجة من كم الخيبات والأحزان .. هيا اذا لمحو هذا العار الذي يشكله هؤلاء المارقين الذين يمجدون التفاؤل ويكرهون التشاؤم .. اعزف على قيثارة وجدك لحنا الفناء ولنسمع هذا الرتم الأخير من سنفونية النهاية ..

 

الى الجزء العاشر

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !