كنيسة ناعور .. الجزء السادس
كانت اللهفة الأولى في ضيافة الليل و الريح والخوري يغط في حلمه ..
هذه الليلة لن نكون على حذر سوف أقترف كل مسميات الشوق وادفع بها الى حيث يكتمل الأمل الذي عقدت عليه العزم ..
تحت متراس متاح للبهجة. والشعور الآسر الخلاب .. هل نحن نتمرن على استعادة فعل الخلق الأول؟ ,لكني و أثناء إنزياح التفكير صوب هذه اللحظة التي كانت فعل حزين... من نوع الحزن الذي لم أجربه من قبل .. آليت على نفسي أن أكسر قواعد الخوف والرهبة وأن أحطم هذا الحجاب الذي عزلني عن صورة المرأة وفعل الحب .. الحب في النهاية خلق لمعنى التوحد الكامل كصيرورة في الزمان.. ولأن الزمان هو تجسد لآهة الخلق الأول وسيال يتدفق عبر الذات فمن هنا فقط لا يمكن التعبير عنه بالمساحة الضئيلة للغة ..
في هذا المساء المخضب بالشجن. يصبح همك كيف تفكك الغياب لهذا الشوق , وتعطل لغة الكلام دون أن تتشظى بوحا أو تتكسر كأمواج المساء على شاطئ الغرام .
ما زالت شيئا من اللهفة ورائحة الشوق تتندى من أشياء لم أألفها من قبل . لا لن أقول مؤثرا الصمت وخيال من باطن ملتهب .. سأقول كلمات متعذرة من اللفظ كما هي متعذرة على المعنى ... كانت عاصفة بوح تترفع عن التعبير وتسمو فوق الإشارة أو فعل الإيحاء . و اثناء سيجارة من ضحكتها الماطرة شهوة .
سألتها , كيف كانت حال ابتسامتك ورنين الكلمات على شفتيك القرمزيتين ؟
وبعيد قبلة بل فعل قبلة انثنت مع قليل من الهواء القادم من قلبها سالتها ثانية هل اختلف لون الكلمات لديك ؟ وهل اختلف مذاق عينيك ؟ هل تعرى صوتك؟ لمن هذا الرحيق الذي ينبعث من هذا الجسد الرخامي المعطر بالشوق ؟
فينو ... تعال اطارحك الرقص قليلا على وقع أقدامي التي تشهد اظطراب الكون .. أنا لا اعرف إلا رقص المطر. عندما يرتل صلوات بوح خفي على الشارع المتواري... هناك اشعر بانتمائي الى كل أنواع الغيوم. فأهيب بكل الدموع المنهطلة بسببك لون الخزن في عينيك ..
قالت . وماذا تفعل بكل هذا الشجن؟ أنت رجل الذي لا يبكي بل تدمع عيناه , لا يرقص بل ينسجم مع الموسيقى , هل تبحث عن كل هذه التفاصيل يا الغباء .....
في الموسيقى الخالدة تتعرى روحي نعم يا فينو ..
كنا في غرفة الجلوس متقابلين, على مرمى خدعة من اللهفة . عاجزين عن صياغة الجملة الأخيرة ، من مناطق منزوعة من الفعل المحرم الذي نحن على وشك اقترافه ...كنا , قريبين من مؤامرة الأشياء التي تحركت , بعيدة عن كمائن العقل . كنا نخاف أن يتسرب الحزن إلى قلبينا آنئذ .
ذلك أن بي شغفا إلى تحسس انثناءات قبلك .
هي ما تعودت أن تجعل ضحكتها قبلة , لحظة تمشي على حزن رجل لم يتعود إلا فعل الحزن .
لكنها مالت ببطء أنثوي, كما تميل نسمة برأسها, وبدون أن تخلع صمتها, خلعت ما علق بشفتيها من دمي, وراحت تواصل ترقيص كلماتها العارية من الحروف .
كانت تعي وقع انحنائها البوحي الجميل على كل خساراتي, وغواية قلبي ..
شيء ما فيها, كان يذكرني بمشهد "لاؤكون " ما الذي فجر صورة هذا الأثر الخالد العظيم في نفسي هذه اللحظة بالذات ....
أنا لم أكن أشغل بتفاصيل النساء إلا لحظة أن يصمتن تماما ..
في حضرتها كان الحزن يتمثل لي جميلا. أريد أن أحتفظ بتفاصيله مشتعلة , أتابع النظر لها وهي ترقص على أنغام الرغبة, , حافية من الرحمة... بينما أتوسد خسارات عمري عند قدميها.
وعلى حفافي اهتزازات السبرانوا المنخفض لرائعة موتزارت الرحيل الأخير
هي ذي , كما الهمس جاءت, سنذهب الى كل حب ولن نخرج من بحر الخطايا .
هي ذي . وأنا تعتريني قشعريرة كلما أطلت النظر إلى الصدر اللامع وهو يهتز بجنون ولهفة ورغبة سيال من الأنوثة يتنزى أمامي شهوة ، دون أن تدري موزارات أدخلها في عمق مويسيقاه فجعلها تهتز كوتر يتقافز اللحن منه بجنون .. خاصة مع الدو عندما يرتفع قليلا الى أعلى قأئلا أنت دائما هي أشهى من المستحيل ..
لون الفستان الذي ارتدته اسود يضيق عند الصدر والخصر والأرداف ثم يتسع كلما انحدر الى الأسفل تتخلله انثناءات على مساحة شهوتها ويبرز ظهرها عاري
لماذا اختارت أن ترتدي هذا الثوب بأي منطق ؟ سؤال لم اجد له مبرر لكن قفز الى فكري هل هو تضاد على مقياس ما في حضورها من معنى ؟
أحببت انسيابه العاطفي. لكأنه كان يطالب بجسدها أن يرتديه يمسه يلمسه يعانقه يثيره يستفزه لا العكس .
يسبر جسدها بشفاه لهفته بمعيار اهتزازه الشبقي . ما عرفت يوما مساحة لشهوتها في هذه الأثناء . ما عرفت في أي ريح عاصف تراكمت رغباتها, وفي أي زمن استدار شوق زلازلها, وعلى أي عمق تكمن أنوثتها . أنا يعنيني كثيرا بداهت هذا النور المنبعث حد التناقض بين الأسود والظهر العاري يعنيني هذا الفراغ والإمتلاء بين اللونين .. ترتدي هذا الثوب ربما .. ربما .. كان هو وحي حديث سابق دار بيننا أمام لوحة صور فيها الرسام الأيطالي سليفني عشيقته وهي عارية إلا من شعرها الفاحم وكيف راح يوزع تساقط الظل بين جسد الفتاة وخصلات شعرها على شكل حركة تتواثب دائما، ووقع نظر كان يتراقص رغما عنه ..
فينو . تتفتح داخله كوردة خلقت من نار . لا هي أشهى وهي تراقص حضوري بدون تفاصيل ممعنة في الغياب.
لو رأى بورخيس تلك المرأة لاختطفه المشهد ولصاح من يطفئ رائحة الشواء الذي يتردد صداه في عمق النهر وتشربه السماء تغسل بها جبينها ......
هي النار التي أشعلت كل خسائري يا بورخيس هتفت أنا مثلك ، فدعني أحملك لها ما دامت تداعبها رغبتها في تحريض الريح, باضرام حرائقي التي لا تنطفئ حتى تحيلني الى رمادا تذروه رياح الليل .
أتعبني الترحال في أزمان ما أفلحت في فضحها ولذا خبأتها في عينيك مذ رأيتك أول مرة .. الوذ بالصمت في حضور طيفك الذي مس قلبي منذ تلك النظرة التي أرسلتها مع خيوط الشمس في كل الآحاد القادمة ..
نفس حطمها أمل الأنتظار وتعب السنين التي أضعتها بين فكرتين لا أعرف من أقترحهما ليكونا بمقياس وجودي في هذا الكون .. آه... أيتها الصورة الطاهرة من صور الإنسان العالي الذي لا ينفذ الى قلبه وهم السعادة أو ألم الجرح الغائر في النفس ..
ايتها الروح الوثيرة الناصعة التي استطاعت أن تتامل العالم من وراء الستار بعمق وهدوء فكشفت عما يتضمنه من سر خفي .. سرعان ما أذاعته بصراحة ما أقساها على نفوس الحالمين الواهمين.
هو ذا العالم بأسره قد بدا أمام عينيك المرهقة حلما رائعا بهيا .. ولكنه حلم على كل حال .. حلم يا فينو .. ابدعته ذاتك في امتثالها.. ولا وجود له خارج هذا الامتثال.. لكنك لم تسكنين اليه، بل رحت تتلمسين جوهر الوجود الحقيقي الذي وضعت يديك عليه ولم يكن هو الا .. ارادة الحياة... قلت لك توقفي هنا يا فينو... لكنك أبيت ثم ذهبت تجعلين من هذا الكشف مركز الاشعاع في نظرتك الى الوجود فبدا كل شيء تحت ضوؤها ناصعا كالمرآة.. أرادة الحياة .. مفتاح لغز الوجود لكنها أي هذه الإرادة عمياء هوجاء منساقة في اندفاع شديد الى ما غير هدف .. تقتات بالحرمان، ومن الحرمان ميلاد الآلام، فالوجود اذن معناه الألم . ولما سألتك كيف الخلاص من هذا المارد الجبار؟ قلت لا خلاص إلا بالموسيقى ...
اجل بالموسيقى خلاص من الأوهام، وفي الزهد تحرير من نير لإرادة في عالم الصور الرفرافة المجنحة نستروح الحرية من قيود الأوهام ونخلق لأنفسنا عالم يرفل في فيض من الجمال والجلال ينسينا لحظة عالم الإمتثال... ولكنها لحظة عابرة.. واحسرتها سرعان ما توقضنا منها جلجلة نواقيس الواقع الجبار ....
لا خلاص من الحياة إلا بالخلاص من الحياة، بأن ننكر فينا الإرادة، فنسمو الى مقام اللطف والقداسة، هناك حيث تختفي الذات المريدة، وينقضي الشعور بالثنائية، وتتجلى سبحات الفناء، فنحيا حينئذ في عدم البقاء ، فما البقاء إلا في الفناء، الذي يصعد اليه المرء على جناح الرحمة المفضية الى الوحدة والحنان المنتظم أنحاء الكون
صورة تلك مروّعة ولكنها رائعة ، تعلوها الظلمة لأنها صادرة من الأعماق وتسري فيها الرعدة لأنها قشعريرة قلب ينبض وجوهر الوجود، وفيها مرارة قاسية لأنها سقيّت من صاب العبرات المسفوحة من عين الحياة ...
وهي من أجل هذا خصبة حتى التناقض تستطيع العين أن تلمح فيها لون اليأس الصامت المنتهي عادة باليأس ،فتهتف النفس مع جوقة أديب .. طوبى لمن لم يولد ثم طوبى لمن يسرع في الرحيل إن ولد ...
وتستطيع أيضا أن تعود منها بالإقبال على اللذات والعكوف على الشهوات نشدانا للسلوى في فردوس الكروم
فتهتبل مع الخيام :
اسكب الصهباء على نار الهموم
فأنت لا تدري من اين اتيت ولا الى أين تؤوب
ثم قد ترى فيها عنفوان الردة لتوكيد الذات والعلاء بالحياة فتصيح بأعلى صوتها اهذه هي الحياة فهاتها اذن مرة أخرى ....
في هذا الجو المفعم بالخيال راحت تتسرب الى نفسي تلك الصورة الرائعة التي يقدمها لنا الفنان اليوناني ديونيز الذي قام بعمل تمثال لاؤكون ..
فجعل في عينيه النافذتين حزن لم تفصح عنه الدموع، وفي فمه المنطلق ألم لم يذعه الصراخ، وفي أسارير وجهه المتوترة، أسقام لم يكشف عنها الشحوب، وفي ثنيات جسمه البارزة عذاب لم تنشر عنه القشعريرة .. إما الحزن فتعالى وتسامى فصار هدوء ورزانة.. والألم عمقّ وتغور... فاستحال بريقا يشع من عينيه.. والسقم استقر وتركز فاضحى طبعا مغروسا في قلبه .. والعذاب قسا وتجلد فكان تجليا وعلوا وروعة وقد التف حول جسمه الغض تنينان هائلان عانقاه من أخمص قدمه حتى أعلى الرأس .واشاعا السم حارا يسري في جميع أجزاء جسمه وضغطا عليه بكل قوة وقسوة، لكن لم يكن من شأن هذا أن يسلب الروح هدوءها ونصاعتها، أو أن يثير في الوجدان غموضا واضطرابا، أو أن يدع العقل خارجا عن صفاء تفكيره .. بل ظلت الروح في عوالم سكينتها وهدوءها وظل الوجدان يكشف الأسرار في حدة ونفوذ والعقل يميز تصوراته في ثبات ..
لماذا لا يصرخ لاؤ كون؟ هذه المشكلة أثارت الجدل العنيف بين فلاسفة الغرب في بديات القرن الثامن عشر وأول من اثار هذه المشكلة هو لسنج.. في بحث طويل له حيث انتهى الى أن الصراخ والجمال لا يجتمعان .. ثم في أن الفنان ما كان له أن يصور في أثر فني دائم غير متحرك حالة عارضة وهي الصراخ... ثم رد جيته هذه الحجة بأن قال المسألة على العكس، حيث ان الفنان دائما ما يلتقط مثل هذه اللحظات العابرة ليخلدها في الأثر الفني.. ثم جاء ألويس هرت، فقال السبب في عدم صراخ لاؤكون هو أنه كان في حالة اختناق أو صمت مدوي رغم صرير الألم ..
ثم جاء شوبنهور فقال إن فن النحت لا يعبر عن الأصوات بل عن الشكول أو حركات ..والصراخ صوت فلا يستطاع التعبير عنه مهما بذل من محاولات رمزيه ...
نعم كنت أعرف مدعاة هذا الشعور الذي تسرب الى نفسي في هذه اللحظة المليئة بالتهاويل التي راحت اختلاجات روح فينوس تبعثها بصمت يدوي في أعماق ذاتي .. اذن لماذا لا تصرخ فينوس .. ؟ شهادة حية تلك التي تقدمها من ذلك النزيف الذي ينزّ من قلبها دما قاني مختلطا بنار الوجد والعشق والشهوة بحيث يسري تيارا عنيقا في روحي التي اشعلتها حرائق اللحظة ..
لماذا لا يصرخ لاؤكون ؟ هو الموت .. فما الموت إذا ؟ ولماذا التعلق بالحياة ؟
لا نحتاج إلا الى قليل من التأمل لنكتشف بان الحياة ليست خليقة بشيء من الحب أو الاستمرار وليس من المؤكد أن الوجود خير من اللاوجود ، بل العكس هو ما يبدو وجيها لو أمعنا النظر قليلا .
فلواستطعت أن تسعى الى قبور الموتى وتقرع أبوابها سائلا إياهم هل تريدون العودة الى الحياة ؟ اذا لأجابوك وهم ينفضون رؤسهم رافضين أشد ما يكون الرفض ، وإلا فعلام التعلق بهذه البرهة القصيرة التي يقضيها احدنا في هذا الوجود وسط تيار الزمان اللانهائي ؟
إنما التعلق بالحياة يصدر من حركة عمياء غير عاقله إلا أن كياننا الذي هو إرادة للحياة خالصة هو الإشكال الذي يطغى حتى يحجب الحقيقة .... وأن الحياة تبعا لهذا يجب أن تعد الخير الأسمى، مهما يكن من مرارتها وقسوتها واضطرابها، وأن هذه الإرادة أي ارادة أن نحيا .. هي ذاتها وبطبيعتها خالية من كل عقل ومعرفة ، أما المعرفة فعلى العكس من ذلك أبعد ما تكون عن هذا التعلق بالحياة ولهذا تفعل العكس ، تكشف لنا عما في هذه الحياة من ضآلة.. وبهذا فهي تحارب الخوف من الموت ، وأصدق شاهد على ذلك أننا نمجد من يقبلون على الموت في شجاعة ، بعد أن أقنعهم العقل بأن الحياة عبث لا يليق بالعاقل الاستمرار فيه ، وتنكر على من لا يتغلب لديه العقل على إرادة الحياة ، فيتعلق بها بأي ثمن ويمتلئ جزعا وخوفا وخورا حينما يعرض له أي خطر .
ولو كان الخوف من الموت صادرا عن الشعور بالجزع بازاء فكرة اللاوجود ، اذا لشعرنا بمثله ونحن نفكر في الزمان الذي لم نكن فيه .. فليس ثمة فارق بين العدم الذي سأسير إليه بعد الموت وبين العدم الذي كنت فيه قبل أن أولد ، ومع هذا فنحن لانجد في هذا العدم الأخير ما يثير فينا عاطفة الجزع .وهذا ما عبر عنه ابو العلاء المعري بقوله:
لقد أسفت وماذا رد لي أسفي لما تفكرت في الأيام والقدم
في العدم كنا وحكم الله أوجدنا ثم أنفقنا على ثان من العدم
سيان عام ويوم في ذهابهما كأن ما دام ثم انبت لم يدم
أليس من الحمق أن تحسب عدم الوجود شرا ؟ لأن كل شر وكل خير يقتضي بالضرورة الوجود ولا يمكن أن يتصف المعدوم بشيء بل ويقتضي أكثر من ذلك المعرفة والشعور . ولكن هذه المعرفة والشعور ينتهيان بالموت فلا مجال للتحدث عن الشر بالنسبة اليه وفقدان الشعور ليس شيئا خطيرا في ذاته لأن المسألة مسألة لحظة فحسب.. وهذا ما دعى أبي قور.... الى القول: ( الموت لا يعنينا بشيء ) لأنه طالما أنا موجود فالموت غائب واذا حضر الموت فسأكون أنا الغائب ... ولهذا لم يعنينا عدم وجودنا من قبل كما يجب أن لا يعنينا عدم وجودنا من بعد .. فكل شيء يتوقف هنا على الشعور .. وبالتالي على الوجود .. وما دام هذا منعدما في كلتا الحالتين فما يعنينا من اللاوجود شيء ، ولهذا فليس العقل في الانسان هو الذي يجزع منه ، وإنما الإرادة العمياء .. إرادة الحياة التي لا تعرف لها غاية غير هذا الوجود والوجود باستمرار ، فإذا ما هددت في جوهرها ثارت في عنف ، المشكلة الأخرى أننا نضيف الى الموت قيمة جوهرية لأننا نطبق مقولة الزمان على الشيء في ذاته كما حدده.. كانت .. فنجعل الزمان وهو رمز الفناء يلحق الإرادة مع أن الزمان لا حقيقة له إلا في الذهن ولا ينطبق إلا على الظواهر التي هي إمتثالاته .. أما الشيء في ذاته فلا يخضع لسلطانه فإذا نظرنا الى الموت من هذه الناحية فإننا نجده لا يلحق الارادة وإنما يمس ظواهرها كالليل الذي يبدد العالم وكأنه قد فني فيه على الرغم من أنه لا يقف لحظة واحدة في سيره .. وأن الوجود في الزمان ليبدو على هيئة سلسلة متصلة من الظواهر وورارء هذه الظواهر تحيا الارادة .. ما الداعي للخشية من الموت .. إن مصدر الجزع والخشية شعورنا بأننا سنفنى الى غير رجعة بينما العالم باق .. لكن العكس هو الصحيح فالعالم هو الذي يفنى عالم الإمتثال أما جوهره الباطن أعني الإرادة فباقية ، الأنسان هو حامل الوجود وليس الوجود هو حامله ... وهو الذي يهب الوجود وجوده العاقل .. الزمان هو الحاضر ليس الماضي ولا المستقبل .. فهذان لا وجود لهما إلا في الذهن والتجريد .. والإنسان لا يحيا في الماضي ولن يحيا في المستقبل وإنما يحيا الحاضر لأنه لا يوجد طالما لم يكن حاضرا وهذا الحضور جوهري لديه .. الحاضر صورة الحياة والحياة جوهر الإرادة .. فالإرادة في حضور مستمر . والحاضر هو الوجود ...
ولا بأس لو وقفنا عند متمرد الحضارة العربية ابي العلاء لأنه شكل صورة الثائر على الحياة والممجد للموت وهو ذاته لاؤكون الذي صرخ من أعماقه صرخة لما راح صداها يتردد في جنبات الكون حكم على نفسه بالعزلة التامة .. لقد أصيب ابو العلاء بحالة ميزته عن كافة الشعراء من الطبقة الممتازة ، فقد انعدمت لديه المرئيات وبالتالي خلا شعره من الصورة المحسوسة بالبصر وقويت عنده المسموعات حتى حاول أن يستمد منها الصور التي يستعين بها على التعبير فأقبل على ألفاظ اللغة يحلل مضمونها بطريقة صوتية كيما يستخرج من قوانينها اسرار الوجود التي يتقراها الآخرون بعيونهم في المرئيات.. وهذا هو السر الوحيد في عنايته المرعبة بالألفاظ واحتفاله باللغة أشد الأحتفال ، ففيها وجد ما فقده في المبصرات وأن في الصوت ما يغني عن الضؤ .. ومن هنا امتازت صوره بالتجريد المفضي الى الجفاف.. مما جعل شعره شعر معبر يحرك النفس ويهزها هزا عنيفا صاخبا مدويا .. ويخيل لى لو قدر له أن يكون مبصرا لزلزل كيان النفوس بصورة مرعبة ولنثر شعرا لا يتأتى لمن أتى بعده في الخافقين .. لم يخرج بيرن الذي اعتبر أعظم شعراء العالم عن محيط ابي العلاء إلا في هذا الجانب التصويري البالغ الأهمية يقول بيرن على سبيل المثال : ( عد ساعات سرورك وعد أيامك الخوالي .. فأيا ما كنت .. أعترف بأن ثمة ما هو أحسن .. هو أن لا توجد ) ( ما كنت أعترف بوجود ما ثمة هو أحسن .. فما الحياة ..الا نجمة معلقة على الحدود بين عالمين .. بين الليل والفجر .. على حافة الأفق .. كلها مليئة بالالام والمصائب .. )
ويقول ابي العلاء :
تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد
وصدق الأثنان لأن الحياة تتذبذب بين الشقاء والنعيم ولأن الألم والشقاء ايجابيان أما الرضا والسعادة فسلبيان لأنهما ينتهايان بالملال والملال شقاء اذن فالحياة شقاء دائم ..
يقول ليؤكد هذا المعنى
اذا فزعنا فإن الأمن غايتنا وإن أمنا فما نخلو من الفزع
وشيمة الأنس ممزوج بها ملل فما ندوم على صبر ولا جزع
ثم أن الشر اصل الوجود ولا سبيل مطلقا الى الخلاص منه
ونحن في عالم صيغت أوائله على الفساد فغي قولنا فسدو
والناس بطباعهم أشرار يسودهم النفاق والغدر والكراهية والبغضاء والحسد والظلم والأذى ، فالوجود شر والإنسان شر ما فيه ،
يغدو على خله الإنسان يظلمه كالذئب يأكل عند الغدوة الذيبا
ولهذا على الحكيم أن ينشد العزلة
ثم فقدان الحرية وكل شيئ مسير فهو يقول بمبدا الجبر
ثم سؤ تقسيم الحظوظ بين الناس وفقدان العدالة والصراع الذي لا ينتهي
وهل تظفر الدنيا عليّ بمنة وما ساء فيها النفس أضعاف ما سرا
ويقول :
أيا سارحا في الجو دنياك معدن يفور بشر فأبغ غيرها وكرا
فإن أنت لا تملك وشيك فراقها فعفّ ولا تنكح عوانا ولا بكرا
وألقاك فيها والداك فلا تضع بها ولدا يلقى الشدائد والنكرا
ثورة ابي العلاء ثورة صاخبة حادة حارة جافة قاسية لقد كان ابو العلاء متمردا عنيد العقل . ولقد أختلفت تمام الأختلاف عن ثورة بيرن الذي مجد في الغرب كما لم يمجد شاعر غيره في الوجود كان هو الآخر ثائر متمرد لكن الفارق بينه وبين أبي العلاء هو في طريقة التعبير .. كان برين مشبوب العاطفه في صوره حرارة أضفى عليها طابعا فنيا من طراز رفيع ..
وفي صوره سخرية لاذعة لكنها أقل جموحا وحماسة من ثورة أبي العلاء .. وثورة أبي العلاء جاءت محايثة وأن اختلف التصوير الفني .
لكن ما على نفسي من لاؤكون صرخ أن لم يصرخ وحديث الموت وأبي العلاء وبيرن في هذه اللحظات التي تتقاطر فيها الرغبة المحرمة الى نفسي ؟
يتبع الجزء السابع
التعليقات (0)