أحببته وأحسست به قريب من روحي ونفسي ، فهو يحمل من الصفات ما يجعلك تشعر بأنه إنسان بكل ما تحمل المفردة من معانٍ تواضع وأدب أجم ، مهذب الحركات وقور السكنات ، تصحبه السكينة كظله يشعرك بالطمأنينة وأنت بجواره تنسى معه صخب الحياة ، وإيقاعها السريع ، رجل حلو المعشر ، مهذب الحديث ينتقي مفرداته والفاظه انتقاءً، يحمل بدواخله كل معاني الإنسانية الرفيعة ، الكرم ، التواضع ، لين الجانب ، وتمنيت لو كنت أنيقاً مثله ، رجل عصامي بدأ حياته المهنية معلم بمدارس الاساس ، وهو يحمل الآن أرفع الدرجات العلمية ، رجل صنع نفسه بنفسه .أو كما قال الشاعر :
تعرض لكثير من المحن والإحن والفتن التي كان من الممكن أن تؤثر سلباً على مستقبله هو وأسرته ، إلا أنه وبإيمانه العميق وبصيرته وصبره على الأذى أمتص كل ضربات الحياة الموجعة حينها ، وحول إنكسارته وهزائمه إلى انتصارات رائعة ، فهو يعيش الآن أسعد لحظات العمر مع أفراد اسرته، أرى البشر والسعادة تفيضان من وجهه عندما أقوم بزيارته ، فالسعاده في نظره تكمن فيما يقوم به الفرد من واجب تجاه أسرته ومجتمعه ، ومعايير السعادة عنده هي القدرة على العطاء ومحاولة أسعاد من هم حولك ما استطعت إلى ذلك سبيلا . ولسان حاله يقول لا تتردد في قول كلمة طيبة تذكرها في وجهك أخيك وترى فيها سعادته .
أضحى شريكا لرجل في بعض الاعمال والاشغال ، سلمه كل مدخرات العمر آملاً في كرم الله ورحمته وحسن الظن بشريكه ، بأن تنفرج الأمور وتتحسن الاوضاع على يديه بعد توفيق الله لهما ، ولكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن أضاع شريكه وخسر جميع أمواله ومدخراته ، ولم يجني شيئاً من شريكه سوى الوعود بإعادة أمواله له في أقرب وقت .
تمر الأيام وشريكه الذي جلب له المزيد من الهم ، يخرج من السجن بعد أن أمضى فيه مدة من الزمن عقوبةً لعدم وفائه بسداد ما عليه من ديون ، أخيراً وبعد مفاوضات شاقة وعسيرة يتنازل له شريكه عن داره مقابل ما له عليه من ديون ، يوافق ولا يبدِ أي اعتراض رغم علمه بأن سعر الدار المتنازل له عنها أقل بكثير من مستحقاته . ذهبا إلى المحامي وأمضيا عقداً يخلي له شريكه بموجبه الدار . ذهب في الموعد المضروب ومعه رجال من الشرطة لتنفيذ الأمر قسراً في حال تنكر الرجل لعهوده ووعوده ، طرق باب المنزل وهو يصيح يا عبد الله .. يا عبد الله أنا أخيك عمر ، كانت المفاجاة أن امرأة في نهايات العقد الرابع من عمرها تفتح باب الدار وتحمل في كتفها طفل لم يتجاوز عمره الشهرين ويحيط بها ستة أطفال أخرين من بينهما فتاتين .
سألها عن زوجها أين هو ؟
ردت بأن زوجها قد غادر إلى مكان مجهول لا تعلمه منذ أكثر من شهرين . كانت المرأة تتحدث إليه وهي تدير عيونها حول رجال الشرطة في خوف واضح .
قال لها وهو يشهر ورقة في وجهها: أنا الآن صاحب هذه الدار بموجب عقد تم الاتفاق عليه بيني وبين زوجك . واليوم هو تاريخ إخلاء الدار لتكون ملكاً لي .
فما كان من المرأة إلا أن صرخت بأعلى صوتها "سجمي وا رماد خشمي"، وبهستيرية تدفع إليه بطفلها متسائلة "والاولاد الديل منو اللي بربيهم ؟! ووين أربيهم؟!" .
وجد نفسه ممسكاً بالطفل الذي تبول في ذات الاثناء عليه مبللاً له وجهه وصدره . انتابه شعور ملؤه الحنان و الأُبوة .
كان الجيران قدر غادروا منازلهم إلى الشارع بعد سماعهم صرخات "حواء" الهستيرية المتواصلة "سجمي وا رماد خشمي" واستفسارتها المتكررة التي تطير مع الهواء "والأولاد الديل منو اللي بربيهم ؟! ووين أربيهم؟!" ولا تنفك تردد "وا سجمي وا رماد خشمي" .
حدق في وجوه الناس من حوله ملياً ، كانت نظراتهم تحتقره وتعاتبه في صمت وتقول ما تقول من غير كلمات ، وترسل له من المعاني ، ما ترسل الامر الذي جعله يدفع بالطفل لأمه ، ويتراجع بخطواته إلى الوراء مخاطباً رجال الشرطة ، قائلاً لهم :"اذهبوا من هنا عودوا من حيث أتيتم، لا حاجة لي بهذه الدار ، لا أريد هذه الدار ". كان يتمتم بهذه الكلمات حتى اختفى عن الانظار ولم تعرف صاحبة الدار له مكاناً منذ ذلك الحين وحتى الآن .
التعليقات (0)