إصلاحات تحت سقف الوطن. حوار وتشاور تحت سقف الوطن. تفكير وتعبير وأراء تحت سقف الوطن, قتل ومطاردات, سجن وإخفاء قسري, انتهاك حرمات, تحت سقف الوطن, الكل وكل شيء تحت سقف الوطن.
لغة سقف الوطن, الرسمية والإعلامية, لغة ليست فقط خشبية وإنما مبتذلة واستفزازية. تزداد ابتذالا واستفزازا كلما اشتدت الاحتجاجات والتظاهرات وتزايد تساقط الشهداء. لغة مفرداتها إصلاحات وحوار ومشاورات. لغة تعتبرها القيادة الحكيمة بأنها لم تُفرض فرضا, وإنما اصطفتها طوعا من قاموس مصطلحات اللغة العربية السياسية بعناية ودراية, وبعد تفكير عميق بمصير ومستقبل الوطن, لتُستخدم في الوقت المناسب. (يا للعنجهية !!!). لغة ورؤى أنضجتها عقود من التجربة البعثية والحنكة السياسية. وان كانت تعيق خروجها للواقع والتطبيق المؤامرات الخارجية المستمرة لإسقاط الأنظمة الممانعة والمقاومة, فهاهي خرجت اليوم بعد ما كبست على الجرح ملح. لغة, تتردد ليلا نهارا, وبذبذبات تتواتر مع التذبذبات الدولية. مع فراغ صبر بعض الأطراف, ثم عودتها إلى الصبر. ومع المهل لضبط النفس ثم تمديد المهل حتى يصبح بالإمكان ضبط النفس ... السنة تعطي من طرفها عسلا مصفى, مستنفرة للرد الكاذب طيلة الوقت, فالوقت وقت النفير. لغة تنفثها عبر الإعلام أبواق إعلامية و"أكاديمية" لا يعنيها هوانا وبيعا للضمير والمصداقية. لغة من لا يجيد التحدث بها من أطراف الداخل ويقبلها على إطلاقها, يخرج من تحت سقف الوطن إلى العراء, إلى الخواء. أو تصبح سقوف السجن سقفا له.
الوطن غير مسقوف بسقف يغطي الجميع, وينعم تحت فيئه الجميع, والأمن في ربوعه ليس للجميع. وسقف الوطن بالتعريف الأولي والأخير هو سيد الوطن. نظامه يمتد على مساحة الوطن المسقوفة, ويتعداه أحيانا إلى الجوار ( فيقبل بعض الصغار من اللبنانيين طوعا الرعوية السورية). سكان الوطن على امتداد مساحته, وبعض مساحة الجوار, رعايا سيادته و تحت سقفه.
سيد الوطن وحده بلا سقف. مطلق. لا يحده سقف, ولا يُؤطره ولا يلزمه ما يحد وما يُؤطّر أوطان الآخرين في الدول المنظمة على أسس الدساتير والأعراف والقوانين.
تحت هذا السقف السلطة الغاشمة هي الدولة, والدولة رئيسها (الدولة أنا). وعلى جدران سيادتها ــ بمفهوم الاستبداد للسيادة ــ, تتحطم كل الانتقادات الدولية فيما يتعلق بحقوق الإنسان وحماية المدنيين (هذه الكلمات هي الأكثر مقتا وكراهية في النظم الاستبدادية, وتعتبرها اشد أنواع التدخلات الخارجية). السيادة بمفهوم قانون الغاب, تبيح لحاملها فعل ما يشاء, (الرعية من الأشياء), من تعليق للدستور, وخرق يومي ومنظم للقوانين, وفرض قوانين طوارئ وأحكام عرفية نصف قرنية, والقتل في الساحات والشوارع وأقبية المخابرات. الحق في انتزاع الحياة. الحق في انتهاك الحريات العامة والفردية, وتخوين ورمي الناس بأخلاقهم وقيمهم. الحق في منع مئات الآلاف من المهجرين طوعا أو فرضا للعودة للوطن.
كل هذا يدخل في باب السيادة والملكية. انتقاده تدخّل في الشؤون الداخلية, وخرق للسيادة الوطنية, وتعطيل لممارسة حق الملكية. فالإنسان ملكية شخصية لحاكمه, فهو مجرد فرد من رعية في دولة اختارت الشمولية نظام حكم, وليس للقانون الدولي, حسب مبادئه النظرية, الحق في الاعتراض على اختيار الأنظمة السياسية, ولا على تصرفاتها القمعية.
الوطني الوحيد الصالح هو القانع الوديع وداعة الحمل, هو من يقبل بالرعوية تحت سقف الوطن, هو من تعود أن يقول نعم, ويحمد ويمجد ويهتف ويصفق. هو من يرى في الزعيم سقف الوطن. هو من لا يرى من العالم وفي العالم إلا زعيمه. الم يرشح مواطن صالح, نائب عن شعبه له مقعد تحت سقف مجلس الشعب, مهووس بحب زعيمه, و "مدووخ" بقدراته السياسية والإدارية والعسكرية والطبية, ألم يرشحه لرئاسة العالم !!!؟ (لله في خلقه شؤون). هذه واحدة من معايير الوطنية في الدولة الشمولية. ومن يتنكر لها ولباقي المعايير "الخنوعية" يفقد نعمة الاستظلال بسقف الوطن.
عبث صبيان حوران فكتبوا على الجدران ما يمكن أن يسيء للسقف أو يعجل بسقوطه, فكان ما مكان . قتلت الطفولة في أجساد وأرواح الصبيان, وأهينت كرامات ذويهم إهانات لا يقبلها أي إنسان. وحشد النظام تحت سقف الوطن مئات الآلاف من الهتّافة بالروح بالدم, وحملة الصور لتأييد سيد الوطن وتوزع تهم الخيانة والعمالة والاندساس والسلفية لتطال جميع من يريد الخروج من تحت السقف المنصوب إلى فضاء الحرية, ويطالب بالديمقراطية وبسقف آخر, سقف يبنيه أبناؤه, يتساوى تحته الجميع. لا يعلو فوقه احد مهما كان موقعه, رئيس, أو رجال امن بسلطات تحت أو فوق رئاسية, فالكل تحت السقف.
لم يرض الصبيان والشباب بما رضي به آباؤهم, عقودا ثقيلة, من عيش ذليل تحت السقف نفسه, واخطأ النظام بظنه أن القتل والقمع والتخويف والتهديد, له عليهم فاعلية, مثلما كان له على آبائهم, معتقدا, على ضوء التجربة والسوابق الدموية, بأنهم سيكبرون وينسون ويهرمون (حسب تعبير المناضل التونسي) تحت السقف نفسه أو وريثه, وتتلو أجيالهم أجيال, ويبقى على حاله الحال.
حين يأخذ الإثم كليا بالمستبد ويذهب بعقله جنون العظمة, يكون قد سلم مقتله لخصمه وكتب بيده نهايته. وفي القذافي عبرة لمن يعتبر. سقط سقوطا مدويا الصنم الليبي, واضع السقوف ومحدد أبعادها. لم يعد لليبيا سقف قذافي.هبط السقف. لم يعد لقاتل شعبه مكانا مسقوفا يأويه إلا سقف محكمة الجنايات الدولية.
ـ هل يعرف احد في قرننا الحالي نظاما في وطن, باستثناء ما كان وطن للقذافي, يطارد بالدبابات والمدرعات, طلاب الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية من أبنائه, يقصفهم ويرهبهم بالمدفعية والرصاص الحي ويطلق عليهم الآلاف من رجال أمنه المعدون إعدادا حضاريا, وبخبرة نصف قرنية لمثل هذه المهام, ولمثل هذه الأيام. ويجيش من جيشه, جيش الوطن, فرقا, وشبيحته, ليوم الحشر, و يلجأ لكل فنون القتال والعلوم العسكرية, والحروب النفسية ليبقيهم تحت سقفه؟.
ـ هل عرف قرننا الحالي نظاما في وطن من الأوطان, باستثناء ما كان وطن للقذافي, يُخوّن غالبية مواطنيه ويصفهم بأقذع الأوصاف, ويحاول إشعال الفتن الطائفية والمناطقية بينهم ليبقى لعقود أخرى زعيما لوطنه وسقفا له؟.
ـ هل عرف قرننا الحالي نظاما في وطن من الأوطان, باستثناء ما كان وطن للقذافي, لا يُفرّق تحت سقفه بين طفل وشاب ومسن وامرأة, بتهمة المناداة بالحرية والكرامة الإنسانية. ويعتدي على قامات فكرية ودينية جريمتها أنها تجرأت وقالت كلمة حق بين يدي سلطان جائر؟.
ـ هل عرف قرننا الحالي نظاما في وطن من الأوطان, باستثناء ما كان وطن للقذافي, يلاحق تحت سقفه ويسجن ويمنع من السفر مثقفين وفنانين, ويدق بقضبان حديدية أصابع رسام بشهرة عالمية, يعبر عن واقع ظالم بريشة عبقرية حضارية سلمية؟.
ـ هل عرف قرننا الحالي نظاما في وطن من الأوطان, وهنا لا يصح الاستثناء, يغلق وطنا كاملا في وجه كل وسائل الإعلام الشريفة والمحايدة لحجب ما يجري وطمس الحقيقة (القذافي كان أكثر ذكاء في أساليب تضليل الإعلام). يُزوّر ويكذب ليل نهار على مواطنيه من تابعين ومعارضين , ولا تخجله "البجاحة" والأساليب البدائية والسخرية العالمية؟.
ـ هل تحت مثل هذا السقف, المؤدلج بعثيا من نصف قرن. البعث فيه قائد للدولة والمجتمع, وفيه الأمن قائد للبعث وقائد حضاري للجميع, وفيه أدبيات تقوم على إقصاء وازدراء الآخر, يمكن إجراء حوارات ومشاورات وإصلاحات بحرية وديمقراطية, و الاتفاق على سقف أسمى وأعلى للوطن؟.
ـ هل يمكن أن تنقلب الأمور وتتغير العقول وينقلب المستبد ديمقراطيا, و تقام المواطنة والمواطنية والمساواة والعدالة الاجتماعية, فتحل المواطنة محل الرعوية, وتلغى العبارات السوقية في تحقير الإنسان المحاور والمؤمن بالحوار, بمجرد الجلوس وجها لوجه والتقاء العين بالعين, ورد الابتسامات الصفراء بمثلها, حول طاولات المفاوضات, فيعترف الجميع بالجميع, وتحل الثقة المفقودة, ويغلب التطبع الطبع؟.
ـ هل مثل هذا الجلوس ( ولو كان اعوجا, حسب المثل السوري الساخر) يزيل رواسب ترسخت خلال نصف قرن من الزمن تحت سقف الوطن, و يصلح فسادا نصف قرني استشرى وعم؟.
ـ هل مثل هذا الجلوس, المتأخر نصف قرن, يوصل لمشاريع إصلاحية جذرية قابلة لبناء سقف جديد للوطن ؟.
ـ هل لمثل هذا الجلوس أن يتمخض عن الاعتراف بان سيد الوطن إنسان بشر يصيب ويخطئ, قابل للشكر في الحالة الأولى وللمساءلة والعزل في الحالة الثانية؟.
ـ هل مثل هذا الجلوس يُقنع شبابا يتظاهرون يوميا, سقط من بينهم الآلاف الشهداء رافضين كل وصاية, مؤمنين بان العصر عصر التغيير, عصر الشباب, وبان عصر الدكتاتوريات قد ولى إلى غير رجعة, وان المستقبل للحرية والديمقراطية, حيث لا زعيم أوحد ولا وراثة أو توريث, بان يبقوا تحت هذا السقف ولو معدلا؟.
ـ هل مثل هذا الجلوس يمكنه أن يغير مسار التاريخ, و يصد رياح التغيير؟.
ـ هل مثل هذا الجلوس يُقنع المحاور الآخر, من الطرف الآخر, بأن يقبل بالاستبداد المخفف, إن جاز أن يكون في الاستبداد تخفيف, وان ينتزع من رؤوس الثوار, بعد أن انتزع حياة الآلاف من رفاقهم, قبولا بالجلوس تحت السقف الحالي للوطن, أو معدلا؟.
ـ هل يمكن, في حالة الجلوس, لدعاة الإصلاحات والحوارات والمشاورات, تحت سقف الوطن, التكرم على الرعية ببعض الاضاءات عما يعنيه سقف الوطن وكيفية العيش تحته ؟. وعما إذا كانت الإصلاحات المزعومة تصل إلى حد إعادة بناء هذا الوطن كليا بما فيه أركانه وسقفه؟. وعن قدرة المصلحين أو الإصلاحيين على غسل دماء الشهداء, ومعالجة الآم الجرحى, وتجبير الأصابع المكسرة, وكنس ماسي عقود من الظلم والظلام, ونسيان الإهانات والسجون, وإعادة الطمأنينة لمن تركوا الوطن, ولمن في الوطن, للعيش الآمن بسلام تحت سقفه؟.
إذا كان هذا من رابع المستحيلات, ولا يدخل في برامج الإصلاحات والمحادثات, جلوسا أو وقوفا, أليس من الأجدى, لمن بقي فيهم بعض من ضمير أو وطنية حقيقية, أو بقايا إنسانية, أن يكفوا على الاقل عن عزف مثل رداءة هذه السيمفونية؟.
التعليقات (0)