كل تجديد بشري يئول إلى تقليد فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم
مقاربة لتصفية المقياس السلفي من غبار الصياغات العباسية والمملوكية والعثمانية
بقلم د. أبو بلال عبد الله الحامد
أ- جدلية الصراع:
في الصراع بين القديم والجديد؛ هناك شيئان متناقضان يتصادمان، وكل من المتصارعين يلبس عدة المحارب، ومن المستبعد أن يكون هادئاً، ولذلك يجنح عن الاعتدال، فليس رسولا معصوماً، لا يفعل إلا حقا، ولا يقول في حالة الغضب، إلا كما يقول في حالة الرضا.
والاضطراب في بداية الصراع طبيعي، إن اصطدام رافدين في حوض نهر واحد، يحدث في اضطرابا في النهر وصخبا، ثم ينساب الماء في النهر رقراقا سلسا، بعد أن كان ساعة الاصطدام متموجا مضطربا.
وقد أشار ابن تميمة إشارة ذكية، في كتاب العقل والنقل، إلى أثر الصراع بين الفعل ورد الفعل، في إنتاج ثنائية الأبيض الناصع المقبول جملة وتفصيلاً،والأسود الكالح المرفوض جملة وتفصيلاً، فالذين أثبتوا الصفات بالغوا حتى جسموا، وأو غل بعضهم حتى أنكر المجاز، وكانت مبالغتهم رد فعل تيار راقت له الفلسفة اليونانية التجريدية، وأرادها أطاراً لفهم القرآن والسنة، فبالغ في التنزيه فجره ذلك إلى النفي والتعطيل، فبالغ أولئك في الإثبات، حتى وقعوا في التشبيه والتمثيل، وبالغ في الاعتداد بالعقل والتجديد، فبالغ أولئك في النقل والترديد،حتى آل بهم ذلك إلى التقليد، وإلى الاعتداد بالأحاديث الضعيفة، بل والموضوعة في إثبات الصفات .
هناك حقيقة معروفة في تاريخ الصراع الثقافي، فكل صراع بين حدين، ينتج موقفا ثالثا متوسطا بين المذهبين، ولذلك فما أن يثور الصراع بين مغالين في المحافظة، ومغالين في التجديد، حتى يتوالد منهما موقف ثالث جديد، فالصراع بين القدرية والجبرية في العصر الأموي، له أيضا سببه من التماس الحضاري، فالقول بالجبر يخدم الخضوع للجور والاستبداد، و يبرر ذلك بألف دليل ودليل، تحت عناوين الصبرعلى ولاة الجور؛ ولو أكلوا أموالنا وضربوا ظهورنا، لأن الحاكم ظل الله في الأرض، فالله هو الذي ولاه علينا، فحسابه على الله، وعلينا الصبر على جوره، وانتظار الفرج، بالدعاء، وانتظار لطف الله الخارج عن الكسب، وقد تمخضت عن الصراع الصيغة الشائعة:الإنسان مسير ومخير معا.
والصراع بين المحافظين والمجددين في الفلسفة والمنطق، تمخض عن تهذيب المنطق وعلم الكلام عند الأشاعرة، الذين كانوا فرسان أصول الفقه.
ب- التجديد علاج وباء أو وإعادة توازن نظام الغذاء:
التجديد نوعان: غذاء لابد أن يستمر به الناس، فعناصر الغذاء –إذا كان الناس يطبقونها-لا يمكن أن يقال في يوم من الأيام،إنه يجب تجديدها، وإذا أهملوها ينبغي تذكيرهم بها. وهو علاج أمراض يتطلب خلطة دواء، تركز بعض عناصرها، وتعيد ترتيب الأولويات، حسب المقياسين المهمين: الأساسي ومعالجة الأخطاء الشائعة.
فإذا شفي المريض صار تكرار الدواء نفسه تقليدا، لأن لا يحقق نفعا، بل ينتكس بالجسد.
إن أي حركة في التجديد الديني جاءت بعد عصر الراشدين قديمة أو حديثة، إنما هي صياغة أفكار فرعية، أو تطبيق برامج، أو إبراز عناصر مغيبة، وهي إجابة عن أسئلة ثقافية واجتماعية، ثارت في تلك البيئات، ولها حظوظ من الصواب وحظوظ أخرى من الخطأ، لأنها عندما تركز على بعض الأمور المغفلة؛ تهمش أمورا أخرى، لأنها اجتهاد بشري، وحظها من النجاح والإخفاق بقدر روحها العملية، والمناخ السائد ومعرفة زارعيها بالمواسم، والمحصول الذي يحتاج إليه الناس، و كل حركة إصلاح، هي تجديد نسبي للدين، لا يتناول الثوابت، ولكنه يتناول المتغيرات، ولا يتناول كليات الشريعة لا مقاصد ها وروحها حتما.سواء أكان حركة فكرية أم حركة اجتماعية سياسية، وهو ضروب لعل أهمها سبعة:
الضرب الأول: جلاء ما انطمس من نظام العقيدة في شقها الروحي أو المدني أو كليهما معا، كالقول بأن الحكم الشوري ركن من أركان الدين العظام، يعادل فريضة الصلاة.
الضرب الثاني: بناء فروع على الأصول، كبيان مبادئ السياسة الشرعية العشرة. ، كالمناداة بـ(المجتمع المدني الإسلامي)، وتجمعاته الأهلية، ولا سيما المدنية،كالنقابات والروابط والجمعيات، بصفتها الوسيلة المثلى اليوم لتعبير الأمة-على المستوى الشعبي- عن سلطتها وسيادتها وقوامتها، على كل من يحكم باسمها، وقيامها بحراسة استقلال القضاء، وحراسة مجلس النواب، عن اختراق السلطة التنفيذية.
الضرب الثالث: إيجاد وسائل(أي إجراءات)، تضمن تنفيذ المبادئ المعطلة، بفقر الوسائل، مثل(نظام الدستور الإسلامي)الذي تضمن إجراءاته شروط إسلام الدولة والمجتمع العشرة، كضوابط استقلال القضاء العشرين،وتوافر محكمة عدل العليا في الدولة، وتوافر ديوان للمراقبة والمحاسبة القضائية، مرتبط بالقضاء العام، وتوافر هيئة ادعاء عام، يشرف عليها القضاء، وإن ارتبطت بالسلطة التنفيذية،وإنشاء مجلس نواب بصفته آلة لتطبيق مبدأ شورى أهل الحل والعقد الملزمة.
الضرب الرابع حلول مشكلات جدت، كفقر الدول الإسلامية التقني.
الضرب الخامس: التذكير بأصول الإيمان والعمل الصالح، بنبذ بدع خيمت، سواء أكانت في شعائر التوحيد الروحية،كبدع الطواف حول قبور الأموات، أم شعائر التوحيد المدنية، كبدع الطواف حول قصورالطغاة.
الضرب السادس: التذكير بمنهج فقه القران والسنة، وتجديد ثوب الثقافة، صياغة الفكر الصالح، آليات و فروعا، بأشكال ولغة قريبة من أفهام الناس.
الضرب السابع: التجديد الفعال سياسي اجتماعي، بإنتاج العمل الصالح، الذي يساعد الناس على فهم تلك الأصول والعمل بها، وللناس أحوال متغيرة، ولهم في كل حال حاجة أو إشكال أو سؤال، ولأن الجديد بالأمس قد يصبح فكرا تقليديا اليوم، عندما لا تحتاجه الأمة. أو عندما تحتاج إلى التركيز على إجابة أسئلة لم يثرها التجديد بالأمس.وإنما يذكر الثقافي، لأنه يمهد له.
ب-لمفهوم تجديد الدين أربعة مجالات:
العناصر الأربعة في كل تجديد
وكل مصلح مجدد يخطو في التجديد خطوة أو خطوات، ويظل في أعماله الأخرى عاديا, منغمسا في مايرين على مجتمعه من عادات.
وكل مصلح عندما يجدد تختلط في تجديده عنصران:معياري مطلق هو أساس الإصلاح في كل زمان ومكان، وهو صريح الإسلام وصحيح الحكمة، ونسبي آني عالج به مشكلة قائمة، ومن العنصرين تتكون خلطة التجديد.
وتتداخل أربعة خيوط في نسيج الصياغة والتطبيق: الأساس المعياري وهو فكر صحيح، والفكر الاجتهادي وهو ثلاثة أقسام:
الأول:ما هو صحيح معياري، يصلح لكل زمان ومكان، لأنه توصيف صحيح للكليات التي نطق بها الكتاب والسنة، كما في أغلب مفاهيم أصول الفقه التي أبانها السلفيون العباسيون-في الجملة لا بالجملة-، وكما في مفهوم المصالح المرسلة عند ابن تيمية، و كما نظريتي المقاصد والنظام في الشريعة، عند الشاطبي، و هذه الأفكار الثلاثة، ينبغي أن تكون الشغل الشاغل اليوم، لدعاة السلفية المدنية المنادين بأركان إسلام الدولة الخمسة.
الثالث:وما هو صحيح نسبيا، ولكنه غير دقيق أو غير شامل، أو يركز على عناصر ثانوية، ولكنه يناسب التطور المعرفي، ويناسب البيئة التي صيغ لها، لأنه يجيب عن ما فيها من إشكال أو سؤال أو احتياج، كالتركيز على بحوث علم الكلام، وحصر الفقهاء مقاصد الشريعة في خمسة أشياء، وتركيز العلماء على جانب العقيدة الغيبي و الروحي، وتركيز الغيبي في الظنيات.
والرابع فكر أو عمل اجتهادي خاطئ، ناتج عن قصور علم أو تجربة، أو عيوب شخصية أو ضغوط مناخية، كشعار الكف عن ما شجر بين الصحابة، وتهميش شق العقيدة المدني على متن الروحي. والميز بين العناصر الثلاثة الأخيرة صعب، والمصلحون و دعاة القسط مهما كبروا لا يخلون من الخطأ في الرأي، ماعدا الأنبياء المسددين بالوحي.
ينبغي أن نسأل أولاً عن مدى تناسق التطبيق مع الصياغة، أي مع الأفكار، ثم نسأل ثانيا عن صحة الأفكار أي نسأل عن اتساق الفروع بالأصول.
لكي يتبين لنا أن الاجتهادات يؤخذ منها ويترك، فإذا حاول منتسب إلى السلفية، كعبد الله بن أحمد: أن يلغي أبا حنيفة رفضنا قوله ، وعددنا ذلك زلة كتاب أو لسان ، أو كبوة جواد ، وما قاله عبد الله ابن أحمد: نزنه ونغربله بمنهج السلف العباسي أنفسهم، فمن منهج السلف نفسه ننبذ ذم أبي حنيفة، وهكذا في الأمور الكبرى، التي تفرضها علينا اليوم الحداثة والعلمنة، والعولمة والهيمنة.
التعليقات (0)