إذا قُدّر لك ودخلتَ محكمةً فوجدتَ كل من في قاعاتها وردهاتها واستراحتها ومكاتبها ومنصاتها وحمّاماتها وعلى سلالمها وفي مصعدها قضاة فقط، فتبحث بمشقة بالغة عن متهم أو محام أو حاجب أو حارس فلا تعثر عليه أو على أثر له.
هذا المشهد الخيالي هو بعينه حال المسلمين اليوم، فأينما ولّيت وجهك عثرت عليهم دعاة وقضاة.
في فترة قصيرة من الزمان اكتشف المسلمون طريقة مُخدّرة ومغيّبة للهروب من واقعهم المؤلم والمؤسف، ومن تخلف أمة تكالبت عليها الأمم الأخرى من المسجد الأقصى إلى نفط العراق، ومن أموال المسلمين في مصارف الغرب إلى تحديد ما ينبغي أن يصنعوه في بلادهم أو يطوروه من قدرات عسكرية أو يصدروه من صناعات محلية أو أدوية أو تفسيرات لدينهم.
الآن قطع المسلم عليك كل طرق الحديث والمعلوماتية والتفكير الحر والاجتهاد واختيار مصادر معرفتك وعلومك ومنهج حياتك وهواياتك، فلديه مسبقا أحكام على فكرك بالسجن مدى الحياة، وهو منشغل ومهموم بجمع حسنات الآخرة ولو ضرب بالأولى عُرض الحائط ناسيا أو متناسيا بأن الأصل في الحياة هي الخلافة في الأرض، وأن تعميرها وتطورها وسعادته في طيبات ما فيها تشكل الهدف الرئيس والواضح والصريح لذلك الزمن الذي يفصل ما بين المهد واللحد.
يشاهد المسلم لسنوات طويلة ظلما شديدا، ويعرف أن في أقبية سجون وطنه آلاف الأبرياء، ويقرأ بأم عينيه عن مئات من حالات الاغتصاب وانتهاك الحرمات فلا تتحرك نخوته، ولا يهتز ضميره، ولا يبحث عن ثواب الآخرة في الانضمام لمظاهرة ضد طاغية أو في التكاتف مع غيره لرفع الظلم عن المعتقلين، ولا يكترث لآلام وأوجاع ملايين من أهلهم وذويهم، فيمارس حياته العادية كأنه جزء منفصل تماما عن واقع لا يتغير.
لكن هذا المسلم تنفجر شرايين جسده غضبا، ويشتعل لسانه شجبا، وتُلوّح قبضته في الهواء بالتهديد لأناس في الجزء الآخر من عالمه لأن إحدى المدارس رفضت دخول تلميذتين مسلمتين بغطاء الرأس!
يراك تمارس حقك الطبيعي غير القابل للنقاش أو الجدال أو استئذان الآخرين، فتسمع موسيقى، وتشاهد فيلما، وتقرأ ما تراه أنت ضروريا لفكرك وعقلك وحاجاتك الثقافية، فيدخل على عالمك مهرولا، وصائحا، ومنذرا بكل عذابات القبر وجحيم سَعَرْ، فيضع لك في دقائق معدودة خطوطا تفصيلية يراها هو الطريق المستقيم الذي يجنبك به الثعبان الأقرع، ويضمن لك أكثر من سبعين من الحور العين.
والمسلم يمارس دعوته التي لا تكلفه شيئا، فالحديث عن الحجاب والنقاب والفصل بين الجنسين وأهمية الدعاء عند الفجر وصب اللعنات على الكفار وحفظ كتاب الأدعية والاستماع لشرائط عمرو خالد ووجدي غنيم والتخلص مما لديك من شرائط موسيقى أو صور لكائنات فيها روح أمور يشترك فيها الجاهل والمتعلم، والفقير والغني، والأمي والقاريء.
أما الجهاد الآخر المكَلِف فمعاذ الله أن يقترب منه هؤلاء القضاة والدعاة الذين تراهم في البيت والشارع والمدرسة والمصنع والجامعة والمسجد والأسواق والمقاهي.
هل يستطيع المسلم أن يقوم بحملة ضد الغش والفساد والرشوة، وأن يذهب مع مجموعة دعويّة شجاعة إلى قسم الشرطة وينصحون المأمور الباشا أن يحترم آدمية وكرامة المواطنين؟
هل تستطيع قوة من أشد مسلمي النهي عن المنكر الدخول إلى غرزة مخدرات وتوجيه النصائح الدينية اللطيفة للغائبين داخلها وأباطرة التهريب؟
قطعا لا، فالثمن يعرفونه سلفا، وثواب الآخرة غير مضمون، وشيوخ الفتاوى لم يتطرقوا إلى تلك الصغائر والتفاهات، فهي لن تزيد حسناتهم سبعين ضعفا، وستنتهي بمطوة قرن غزال في بطن أحدهم.
هل يفتي أحدهم بأن الدروس الخصوصية حرام، وأن على المسلم مقاطعة المدرسين والمعلمين الذين يتكاسلون في مدارسهم ويهملون تعليم تلاميذهم؟
هل سمعت عن مسلم يقابلك فيحدثك عن أهمية الكتاب والمنطق والفكر وعلوم البحار والتسامح مع غير المسلمين وحقوق المرأة في أجر متساوٍ مع الرجل، وفي تقاسم أعمال البيت المرهقة إنْ كانت الزوجة تعمل؟
هل قابلك مسلم وسألك عن عدد الساعات التي تقضيها مع أولادك، وعن أهمية تربيتهم على المعرفة والقراءة واحترام الكتاب وتنوع مصادر العلوم؟
كل هذه الأشياء لا يكترث لها المسلمون ( إلا قليلا منهم ) فهي تحتاج لمناقشة وجدال وفكر وقوة اقناع واهتمامات بشؤون الدنيا وهموم الوطن وعالم الآلام والمواجع والاصطدام مع السلطة!
شباب صغار يمارسون هواية الدعوة واصدار الأحكام وتفخيخ كلماتهم كأنها سيارة تحصد أرواح الآخرين بدون حساب، فيتجولون في المنتديات والمواقع على الانترنيت، ويقرأون عناوين مقالات، ويمارسون سادية متخلفة في الرد على من لم ترق لهم عناوين كتاباته.
إنهم يبغضون إعمال العقل، وليس لديهم وقت لقراءة فحوى مقال أو دراسة، واللغة لا تسعفهم، والمعلومات المتوافرة لديهم من بعض المحاضرات الدينية أو الفتاوى الجاهزة لا تنهض بنقاش أو حوار جدّي ومثمر. يمارسون الطائفية وتكفير الآخرين وتحليل الدماء، ويصدرون أحكاما خارجة من أعمق نقطة في الفكر الصفري الكاره للحياة والكرامة والحرية والظلم.
دعاة وقضاة أينما رأيتهم تجدهم يمارسون معك تغييب العقل، ويهبطون بخاتمة الرسالات السماوية إلى أكثر مساحات العقل سطحية، ويتهمونك في إيمانك وقلبك وعلومك وخبراتك وقدرتك على التحليل والاجتهاد.
عنصريون وطائفيون ومنفرون من رسالة سماوية مكتملة أركانها، نزل بها الروح الأمين على قلب نبي الرحمة، صلوات الله وسلامه عليه.
يكرهون الطائفة الأخرى وأصحاب الدين الآخر، والفكر الآخر.
يمارسون السباب والتكفير والتهديد والوعيد، ويفسرون حديثك بغير ظاهره وباطنه، وقد تمكنوا من توحيد خصوم الإسلام بغبائهم وتخلفهم. عندما يصمت المسلمون، ويصبح السلوك هو الدعوة، تعود إليهم حضارتهم الرائعة التي أثْرَتْ العالم ردحا طويلا من الزمن.
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو النرويج
Taeralshmal@gmail.com
التعليقات (0)