الجعفري : كل الأنظمة الاجتماعية مهما تباينت واختلفت، يبقى الاختصاص والعلماء والأكاديميون متميزين في كل دول العالم
الجعفري : الجامعة اليوم هي التي تتولى عملية الارتقاء تراتبياً مع الطالب من حيث يبدأ إلى حيث ينتهي
الجعفري : يجب أن ننظر إلى الأكاديمية على أنها مؤسسة تتولى عملية توليد الكفاءة العلمية
الجعفري : لا يستطيع العراق أن يرتقي من دون أن يكون قد اعتمد على العلم والعلماء
نص كلمة الدكتور إبراهيم الجعفري في جامعة بغداد
4/4/2012
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وجميع عباد الله الصالحين..
السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته..
قال الله - تبارك وتعالى - في محكم كتابه العزيز:
((قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون))
ما أروع أن يضمّني مجلس كمجلسكم هذا، وأنتم تلتقون على موائد الفكر والعلم والتنظير! إنكم تتميزون بخصوصيات فريدة: أول هذه الخصوصيات هو إن أصحاب العلم لا يتحيّزون في قوقعة معيّنة.. أصحاب العلم والعلماء غير قابلين للأدلجة، ولا التمذهب، ولا التعنصر، ولا المناطقية، ولا الذكورية، ولا الأعراف والتقاليد.
ثاني هذه الخصوصيات هو إن أصحاب العلم في عطاء ودأب متواصل يسابقون الزمن، وتنهل الشرائح الأخرى من معينهم.
كل الأنظمة الاجتماعية ما تباينت واختلفت، يبقى الاختصاص والعلماء والأكاديميون متميزين في كل دول العالم، فلا يمكن اختزال العلم، واختزال العالم، والانغلاق عليه؛ ففي كل قاعة نلتقي فيها نجد من ساهموا في البرق أو الكهرباء، ومن يساهمون في العطاءات المختلفة يحضرون معنا سواء كانوا بأقصى التاريخ، أو أقصى الجغرافية: جابر بن حيان وابن سينا وابن خلدون وروبرت من ألمانيا وكثير من العلماء وأصحاب العلم والمعرفة، وهم منتشرون في مختلف مناطق العالم..
حين أتحدث في أكاديمية كأكاديميتكم لابد أن أثبت أن الأكاديمية اليوم وأصحاب المواهب العلمية خرجوا من عصر الارتجال، ودخلوا عصر المنهجة، ولم يعُد مجال أن نتطلع إلى موهبة عصيّة على التراتبية العلمية، وتفرض نفسها كما حصل في غابر التاريخ حين كان وليام شكسبير وهو لم يتمّ المدرسة الابتدائية، وكتب أروع الروايات في الأدب الإنكليزي، أو بتهوفن أو أيّ أحد.. الجامعة اليوم هي التي تتولى عملية الارتقاء تراتبياً مع الطالب من حيث يبدأ إلى حيث ينتهي؛ لذا يجب أن ننظر إلى الأكاديمية على أنها مؤسسة تتولى عملية توليد الكفاءة العلمية.. أنا أفترض أنكم لستم فقط مولّدي علم إنما مولـّدو علماء؛ لأن من يتسنم موقع الجلوس على منصة الجامعة يمثل المنبع العلمي كمعطٍ في الثالوث المعروف - المُعطي العلميّ، والمُتلقي العلميّ، والمنهج الوسيط - هذا العلم الذي جعل اليوم البعيد الجغرافي قريباً منا بفضل علمه حتى إننا نلتقي مع أديسون ونيوتن، ونلتقي مع الكثير في التاريخ، ومن البُعد الجغرافيّ لا لشيء إلا لأنهم فرضوا أنفسهم على الواقع العلميّ، وهذا العلم ليس بالضرورة مرتبطاً ارتباطاً عضوياً وملتحماً بالأخلاق، ليس الأمر كذلك، ربما يُسخـَّر العلم في بعض الأحيان لأمور قد لا تخدم البشرية، بل تفتك بها، وتضرّها.. دونكم ضحايا الحرب العالمية الثانية، وما انتهت إليه القنابل الذرية التي استخدمتها الولايات المتحدة الأميركية في ناكزاكي وهيروشيما، وأفضت بـ160 ألف ضحية كانت باكورة الاستخدام الذري لقهر إرادة اليابان، وقتل الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب؛ لذا نحتاج إلى جهد إضافيّ استثنائيّ لنجعل العالم والعلم في الوقت الذي يمتدّ، ويقدّم ما لديه من نتاجات تملأ الأرض، وتملأ البشرية نوراً ومعرفة تجعله بمنأى عن الاستخدامات الشاذة والاستثنائية التي تـُودي بحياة البشرية..
لابد أن يجري التأكيد كثيراً على ضرورة أن نوشّح المناظر العلمية بالمسيرة الأخلاقية؛ لذا قطفنا ثمار الكثير من النتاجات العلمية، وامتدّت إلى مجالات الطب، والهندسة، والزراعة، والصناعة، وكل شيء، ولنا أن نتصوّر فداحة المشاكل التي تنجم عن الذين يمارسون فساداً علمياً، أو ينتحلون شخصيات علمية ليسوا أهلاً لها.
العلم والشهادة العلمية والارتقاء العلميّ لابد أن يبقى بعيداً عن التسييس..
بعيداً عن الفساد..
استهللنا الحديث بالآية القرآنية الكريمة:
((قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون))
الله - تبارك وتعالى - يتساءل: كيف يمكن المساواة بين من يعلم ومن لا يعلم، وفي الوقت الذي يبقى الباب مفتوحاً أمام العلماء، والذي لا يقف العلم فيه عند حدّ، ولا توجد هناك محدودية، ولا حدود للارتقاء العلميّ. يقول الرسول: (ص): (اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد)
لا يوجد زمن معيّن للعلم من حيث تبدأ إلى حيث تنتهي، كما لا توجد أرض تُحدَّد بها عملية أخذ العلوم: (اطلبوا العلم ولو في الصين)
مادام العلم كذلك، فأنا أستطيع أن أتصوّر أن الإنسان طالب، ويبدأ مسيرته العلمية في تاريخ ما، لكني لا أستطيع أن أتصوّر أنه يسجل لنفسه نهاية.. تستطيع أن تؤرّخ للبداية حين تكون طالباً، ولكن لا تستطيع أن تؤرّخ لنهاية مرحلة كونك طالباً.. يبقى الإنسان طالباً مهما بلغ في الارتقاء العلمي: ((وفوق كل ذي علم عليم)).
يبقى الإنسان يتلقى العلم، ويبقى يتعلم، بل إن هناك الكثير من الشباب قفزوا في التراتبية العلمية بشكل مُدهش، ودخلوا التاريخ، وهم على الرغم من أنهم كانوا صغاراً في العمر إلا أنهم كانوا كباراً بالعلم والعطاء العلميّ. قفز إلى ذاكرتي مثل من التاريخ لأحد بلغاء العرب هذا الرجل صاحب نظرية في البلاغة العربية وهو المحقق السكاكي - لـُقـِّب السكاكي؛ لأنه كان يسكّ الحديد. اشتغل ثلاث سنوات حتى يقدّم هدية إلى الملك، فجاء بكُرة حديدية، وقدّمها بين يديه، وأخذها الملك، وصرف النظر عنه، وأعطاه هدية. جلس السكاكي في مجلس الملك، ثم رأى شاباً صغيراً قدِم، فنهض له الملك، واحتضنه، وأجلسه إلى جانبه، فسأل هذا الحدّاد: هل هذا من أهل الملك؟ قالوا له: لا. هل إنه قدّم شيئاً للملك؟ قالوا: لا. إذن لماذا هذه الحفاوة، ولماذا يقوم الملك بنفسه، ويحتضنه بهذه الطريقة؟ قالوا: لأنه عالم. قال: وأنا أعمل سنوات بهذه الكرة الحديدية؛ لأتقرّب إلى الملك، وصرف النظر عني، ويأتي شاب صغير لا يعرفه الملك، فيجلـّه لعلمه. فكر هذا الحدّاد كيف يبدأ مسيرة العلم، وقد تجاوز الخمسين من عمره، فاهتدى إلى نظرية في البلاغة العربية تسمى (نظرية الحقيقة الادّعائية) التي شكّلت فتحاً في البلاغة العربية عندما اعتبر - بغضّ النظر عن أننا نتفق، أو نختلف معه -: يعتبر أن كل شيء في الحياة هو حقيقة، ولا يوجد مجال للمجاز.
العراق الجديد ينتظر العلماء، وينتظر الأكاديميين في مجالات الطب، والهندسة، والزراعة؛ لأننا نعيش في عصر العلم والمؤسسات.. لابد أن نعمل سويّة؛ لأجل احتضان أصحاب العلم والمعرفة، ونفتح لهم الآفاق، وننتظر عطاءاتهم.
لا يستطيع العراق أن يرتقي - وهو في مرحلة التأسيس - إلى سُلـَّم العلم، واللحاق بأمم العالم المتطورة من دون أن يكون قد اعتمد على العلم والعلماء، ولا يكفي أن يكون لنا تاريخ غابر سابقاً من مسلة حمورابي، وسبق تاريخي في مجال العلم إنما لابد أن نتواصل في العطاء العلميّ.. لابد أن ننفتح على دول العالم؛ حتى نستطيع اختزال زمن الصعود خصوصاً أن كل محفزات البناء العلميّ متوافرة في العراق من حيث الثروات المتعدّدة، والتاريخ المُشرق، والعقل العراقيّ المتفتـّق من الناحية العلمية، وكذلك التحديات والمخاطر.
أبارك لكم هذه المبادرة، وأتطلع إلى أن تكون باكورة عطاءاتكم، والخطوة الأولى في طريق الصعود، ولمّ شمل الطاقات العلمية المختلفة؛ حتى تساهموا في بناء العراق الجديد، وتغمروه بعطاءاتكم المتنوّرة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
http://al-jaffaary.net/index.php?aa=news&id22=1010
التعليقات (0)