بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصلاة، وأتم السلام على أشرف الخلق أجمعين سيد الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وجميع عباد الله الصالحين..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
قال الله - تبارك وتعالى - في محكم كتابه العزيز:
((نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)) [الكهف:13]
في مثل هذه الأيام المباركات تطلّ علينا ذكرى ليست كبقية الذكريات.. عظمت الذكرى بعظمة صاحبها؛ ولأنه رسول الله أشرف الموجودات على الإطلاق فإن ذكراه العطرة تملأ نفوسنا خصوصاً أن اقتران مولد الرسول (ص)، وما حمل من رسالة شكّل منعطفاً إنسانياً وضع حداً فاصلاً بين مرحلتين.. بين مرحلة أن يختزل الإنسان فيها؛ فيعبد حجراً، وأن يسوّغ لنفسه أن يؤدّب بنتاً لا لشي إلا لأنها أنثى، وبين مرحلة أخرى وفي زمن قياسي يتطلع إلى جبّار السموات والأرض، ويجعل من المرأة التي عاشت مأساة الوأد تعيش انتصار الشهادة؛ فتكون (سمية) في الوقت الذي ماتت أختها موءودة تكون سمية الرقم الأول في سجل الشهداء في تاريخ الإسلام..
هذا اليوم العظيم الذي يقترن بمولد رسول الله (ص) يمدنا منذ فجر الإسلام بروح التضحية والشجاعة والاستبسال، ويشعرنا بأن الدين ليس أمراُ ماضوياً إنما الدين هو حياة الأمم، وهو سرّ الانتصار؛ فحين يدخل شبابنا وشاباتنا في ميادين المواجهة، ويأبون ألا أن يستبسلوا، ويستشهدوا فهو يدل على أنهم أخذوا من الدين المعنى الحقيقي، وأنهم أبوا إلا أن يسطـّروا الملحمة الشجاعة، وملاحم الانتصار، وصدق استاف لوغون حين قال في موسوعته (موسوعة الحضارة الإسلامية): إن المسلمين حسموا أمرهم عندما فسّروا الحياة بعد الموت..
الشهيد يطل وهو في حياته على عالم الآخرة يستصرخ، ويسترخص كل شيء؛ لأجل أن يصنع حياة لأمته وللأجيال القادمة، وما إن ينتقل إلى عالم الشهادة إلا ويطل علينا من العندية الإلهية الشأنية.. من عالم التسامي حيث يرزقه الله - تبارك وتعالى - رزقاً بلا حدود.. حيث يعيش عالم الأنس الرائع:
((فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ))؛ لذا ترى القرآن الكريم يصفه: ((وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ))
إخوتي الأعزاء.. ونحن في أجواء الثورة دعونا نتهجى ما يسمى بـ(خارطة الطريق لما بعد الانتصار):
هل إن الانتصار يقف عند حدود سقوط الطاغية الحاكم أم يستمر حتى تسقط الحكومة، بل ويستمر حتى يسقط الحكم؟
أنا لا أفهم الانتصار في مرحلة، ولا أفهم الثورة على أنها تاريخ، ولا أستطيع أن أؤرخ لنهاية الثورة، فالثورة تبقى عاصفة تهبّ بطريق الفساد السياسي والمالي والإداري والاجتماعي والفكري والعلمي؛ لذا على شبابنا أن يضعوا في حسابهم أنهم بدأوا مسيرة الثورة، ولا ينبغي أن يقفوا حتى تمتزج الشعارات الجديدة بالشعارات التي مضت في المرحلة السابقة.
الشعب يريد إقامة نظام نظام العدل، ونظام المحبة، ونظام المساواة، النظام البديل هو الحكم بالعدل والمساواة والتعدّدية والابتعاد عن التأبّد للحاكم، والتوريث لأبنائه، والعبثية والفساد في كل شيء.. ينبغي أن يضع شبابنا حداً لإنهاء هذه هي المحرّكات والمفاعلات التي أجّجت في صدورهم نار الثورة، وأسقطت الطواغيت..
الوحدة من مسلتزمات الثورة، وقد سمعت كثيراً من الذين سبقوني بالحديث التركيز على الوحدة غير أن الوحدة ليست شعاراً.. الوحدة تجعلنا في الوقت الذي ننتمي أن نصهر انتماءاتنا وخلفياتنا بانتماء واحد، والمبدأ رسول الله (ص)، ونحن نعيش مولده.. مولد الحب والإنسانية والعدل كان لديه انتماءات متعددة كان عربياً وهم أشرف الأقوام، وكان قرشياً وهم أشرف القبائل، وكان مكياً وهي أشرف المدن، وكان مهاجراً وهي ميزة في القرآن الكريم غير أن رسول الله (ص) أبعد القريب العربي وهو أبو جهل وأبو لهب الذي لعنه القرآن الكريم:
((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ))، وقرّب البعيد القومي، وهو سلمان الفارسي عندما قال: (سلمان منا أهل البيت).. هذا هو الانتماء.
أن يكون لك انتماء إلى حزب أو جهة أو تيار أو قائمة أو قومية أو أي شيء فهذا شرف لك بشرط أن يبقى الانتماء المبدئي أعلى من انتماءاتك الأخرى.
وصلتني قصاصة ورق قبل قليل من أحد الإخوة في القاعة، وأرجو أن يُوفـَّق المترجم في إيصال جوابي إليه، قال: ذكر أحد المتحدثين اسم جمال الدين الأفغاني، وحين ترجمت قيل: جمال الدين الأسد آبادي.. قصة جمال الدين الأفغاني معروفة لديكم فقد عاش غريباً، حين كان كبيراً في ظرفه، وكان مواجهاً لكل أنواع الأنظمة، وتبرّأ منه الجميع.. في ذلك الوقت ضاقت به الدنيا بما رحبت، وتجوّل بين أفغانستان وإيران وتركيا والعراق، وذهب إلى عدة مناطق في العالم، وبعد أن انتصر الجميع ها هم يتشرفون بأن جمال الدين منهم سواء كان جمال الدين أفغانياً أم كان إيرانياً.
لقد كان إسلامياً إلى مخ العظم، واستطاع أن يوصل الجسر بين هذه الدول أفغانستان وإيران إلى العمق المصري مع محمد عبده.. هذا هو الإصلاح، وهذا هو فكر الإصلاح؛ لذا ينبغي أن نقف عند عظمائنا بانتمائهم الأول وهو الإسلام..
إخوتي الأعزاء.. حين نذكر الشهداء أرجو أن لا نختزل الشهيد بذاتنا فعبد القادر الحسيني الجزائري كان جزائري المولد لكنه إسلامي الانتماء، ملك لكم جميعاً ولكل الأجيال، وعز الدين القسام كان فلسطيني المولد، ولكنه لكم جميعاً، وعمر المختار ليبي المولد لكنه لكم جميعاً، وعبد الكريم الخطابي مغربي لكنه لكم جميعاً، وسيد قطب مصري المولد لكنه لكم جميعاً، ومحمد باقر الصدر عراقي المولد لكنه لكم جميعاً.
هؤلاء الشهداء مُلك الجميع؛ لأنهم سَمَوا إلى أفق الشهادة، وأفق المبادئ، وأبوا إلا أن يطلوا من هناك حيث الرحمة الإلهية والرزق اللامحدود يطل على عالمنا.. الشهيد ليس أمراً مضى في التاريخ، وحين تشتد بنا العواصف، وتتحدّانا التواءات الطريق سيطل علينا بقامته من جديد، بثقافته ومبادئه وقيمه يمدنا بمستلزمات القوة لحفظ الإنجازات التي بدأت اليوم تتوالى في الساحة الحاضرة، فإذا أردنا أن نقف عند نقطة الارتكاز المعاصرة في تاريخنا المعاصر نقف عند فلسطين التي أمدّتنا بالفكر والقيم وروح الاستبسال.
فلسطين أصبحت محكاً للآخرين، واكتشاف الشعارات الإنسانية وتجسيدها هناك في فلسطين في محكها الإنساني.. المحك الفلسطيني تجلى بأنصع صورة في الجمهورية الإسلامية منذ أن وُلِدت في عام 1979، وأغلقت السفارة الإسرائيلية، وفتحت بدلاً عنها سفارة فلسطين، ورفرف العلم الفلسطيني في أفق طهران، واليوم في بعض دول العالم هناك من أعمت الحقيقة أبصارهم، ممن يتهافتون في فصل الانتخابات لإسقاط فلسطين، وقد خرج علينا المرشح الجمهوري أنيون، وهو يقول: إن فلسطين شعب مختلق، ومصطنع، ولا أساس له.
كيف يكون شعب فلسطين مختلقاً ومفتعلاً وقد تدوّر من أرض كنعان منذ آلاف السنين؟!
مع كامل احترامي للأمة الأميركية، وأنا لست عنصرياً لكن حين أؤرخ اجتماعياً لنشوء المجتمعات فأميركا ليست شعباً أميركياً إنما الشعب الأميركي هم الهنود الحمر، وهذه مشكلة تدل على عقدة في أميركا..
كولومبوس اكتشف أميركا في الأمس القريب، أما العرب والمسلمون فهم رواد الحضارة خصوصاً العراق من بداية الألف الرابع قبل الميلاد غرّد بلبل الحضارة في أهوار العمارة والناصرية والبصرة، ثم بعد ذلك ثنى بلبل الأهرام من أرض الكنانة من مصر في نهاية الألف الرابع قبل الميلاد.
إخوتي الأعزاء.. جئتكم من العراق بلد العتبات المقدسة بلد المذاهب والديانات والقوميات والاتجاهات السياسية، بلد يسكنه شعب حقق انتصاراً حين أصرّ على رفض النظام المقبور طيلة فترة حكمه حين جثم على صدر العراق منذ عام 1968 إلى أن سقط، ثم واصل نضاله، وقدّم أزكى الدماء، وها هو الآن يعيش العرس الثاني المتمّم وهو خروج القوات الأجنبية من الأرض العراقية، واليوم يخرج المارد العراقي من قمقمه الزجاجي، ويدوّي بصوته للعالم.
إن الذي أسقط صدام هو الشهداء، وما علينا إلا أن نعد لبناء الدولة، ونخاطب الجيل الحاضر - أنا لست من الذين يقولون: إن الشباب رجال المستقبل، إنما الشباب صناع الحاضر، والأطفال صناع المستقبل، وأما المرأة فهي صانعة الصناع.. تصنع الشباب، وتصنع الأطفال..
بماذا نخاطب هؤلاء، وماذا نقول لهم؟
يجب أن يمتزج شعار الدولة بشعار الثورة، ويجب أن نتمسك من الآن وصاعداً بأن نعمل لإيجاد الدستور والبرلمان، ونبث روح التعايش والتآخي والتحابب بين الجميع، ونتداول السلطة بشكل سلمي، ويجب أن تعبق هذه المواقع بالجميع، ونفوّت الفرصة على من يحاولون أن يبثوا روح الفرقة في داخل مجتمعاتنا، لينقضوا على الإنجازات الرائعة..
الشهداء قدّموا كل ما لديهم؛ لحفظ الأمانة، وعلينا أن نواصل المسيرة..
أبنائي وإخواني وأخواتي، وأنا أختم هذه الجلسة أود أن أتلو عليكم أسماء المعنيين بهيئة الرئاسة؛ حتى يتفضلوا إلى المنصة، وبذلك يكون قد استملك أبناؤنا أمانة الفكر والتنظير والقاعدة الفكرية التي تخلق المواقف، وتتوّج الدم؛ فهذه القاعة ليست بمعزل عن الساحة التي تعطي نتاجاً في الفكر والتضحية، وغداً تعطي نتاجها في الدستور والحكومة والبرلمان.
هذا العقل يجب أن نحافظ عليه، فالعقل الثوري الشاب هو الذي سيتكفل بناء الدول الجديدة.
www.al-jaffaary.net/index.php
التعليقات (0)