أفضل الصلاة، وأتمّ السلام على أشرف الخلق أجمعين سيد الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وجميع عباد الله الصالحين..
أروع ما في هذا المكان أن يتوشّح بإكليل باقة من بناتنا؛ إنه عصارة مسيرة طويلة مضمَّخة بالدمع والعرق والدموع، هذا المكان يستوعب ما يزيد على الألف من الشخصيات النسوية من مختلف مناطق العالم، كمّ ليس كبقية الكميات، ونوع ليس كباقي الأنواع، وتنوّع أبى إلا أن يكون عصيّاً على كل اختزال؛ ليمتدّ إلى أكثر من 85 دولة من دول العالم.
وأنا أقف في هذا المحفل المبارك أشعر بالفخر، وأيّ فخر، حيث بناتنا وهنّ يجلجلن بأصواتهن، ويتحدّثن في مختلف الميادين.. كلام ينفذ إلى القلب؛ لأنه ينبع من قلوب صادقة.
ما الذي جمع بينكن على الرغم من اختلاف الأجناس، واللغات، واختلاف الأقاليم، واختلاف الشهادات.. ما الذي يجمع هذا الجمع المبارك حتى يدوّي صوتهن في هذه القاعة، ومن خلالها إلى كل العالم؟
القلب العامر بالإيمان، والمُفعَم بالأحاسيس الصادقة والمشاعر التي امتزجت، وعبّرت عن مسيرة طويلة في مختلف المناطق، وعن عقل مُزدان بالفكر والمفاهيم، ومُتوَّج بإكليل التوجّه إلى الله - تبارك وتعالى -، وهكذا يكون الإنسان بأصغريه بقلبه وما يحمله من مشاعر، وبعقله وما يحمل من عقيدة؛ لذا كان خطابكم خطاباً مؤثراً خرج من عمق القلوب ليدخل إلى عمق قلوب المتلقين.
أجد نفسي على هذه العجالة؛ حتى أودّعكم في هذا المؤتمر أن أقف ثلاث وقفات في ثلاث محطات.. وقفة أحاول من خلالها أن أعرّف بالمرأة.
كيف نفهم المرأة الفهم الذي التقت عليه ديانات السماء، الفهم الذي أوصله إلينا القرآن الكريم:
نتعلم من القرآن، ونعبر إلى الضفة الأولى في التاريخ حيث الأقوام الأخرى، حيث الأنبياء الذين صدحوا بصوت الدفاع عن المرأة في كل مكان.
القرآن الكريم ليس كتاباً للمسلمين فقط، إنه يخاطب الإنسان بكل سعته، يخاطب عقله، ويخاطب قلبه.
ما هي المرأة في واقع الإسلام، ولماذا هذه الفجوة بينما هي عليه في واقع الإسلام، وما هي عليه في واقع المسلمين؟
لابدّ أن ننطلق من القرآن؛ لأن القرآن الكريم كتاب حياة، يقدّم لنا النماذج.
((ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى))
هذا هو المنطلق، هذا هو الأساس الذي تتفرّع عليه شعوب..
((وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم))
هذه النظرية القرآنية تعبّر عن حقيقة تكوينية، أن لا تمييز بين الذكر والأنثى، لا كما ذهبت إليه الكثير من الأنظمة الاجتماعية والديانات المُحرَّفة عن رسالات السماء عندما جعلت المرأة مخلوقاً ثانياً.
القرآن الكريم يؤكد في الكثير من الآيات القرآنية أن المرأة والرجل من حيث البدء والخلق، ومن حيث العمل، ومن حيث الأجر والثواب يتساويان أمام الله - تبارك وتعالى - نماذج يقدّمها لنا القرآن الكريم.
نموذج المرأة التي تصدح بصوت المقاومة، وأيّ مقاومة، في قصر كله ترف، كله بذخ في عنفوان الهيمنة الطاغوتية تلك هي زوجة فرعون (آسيا بنت مزاحم) تطلق صرخات المقاومة من داخل القصر، وتتمرّد على ترف فرعون، وعلى كل جبروت فرعون، وتتمرّد عليه؛ لذلك استحقت أن تنال هذا الشرف شرف أن يصفها الله
هذا القلب المُفعَم بالحب لله - تبارك وتعالى - جعلها تتلذذ بالقرب إلى الله، وتقدّم القرب إلى الله على نيل الجنة.. قلب مُفعَم بالإيمان يتوجّه إلى الله - تبارك وتعالى -، ويذكّرنا رجالاً ونساءً بأن القلب حرم الله، ولابد أن نحفظ هذا الحرم؛ لئلا يُدنـَّس بكل شرك، أو رياء أو إرادة غير إرادة الله - تبارك وتعالى -.
القرآن الكريم يقدّم المرأة النموذج، المرأة الشابة الصغيرة بالعمر الكبيرة بالعقل والإرادة بنت نبي تتحدّث بثقة مع أبيها، وتوجّه كلاماً لأبيها إنها بنت النبي شعيب (ع):
((يا أبتِ استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين))
معادلة القوة والأمانة ركنان أساسيان في كل تصدٍّ أياً كان حجمه، ولا نجد أبلغ من هذه الكلمة التي قالتها هذه المرأة، هذه الفتاة الشابة الصغيرة بالعمر الكبيرة بالعقل والقلب، تقول لأبيها بكل ثقة وأبوها النبي يأخذ منها، ويرتـّب على ذلك أثراً، ثم تتجه إلى موسى (ع):
((وجاءت إحداهما تمشي على استحياء))
هذه القوة ما أخلـّت بحيائها، ولا حوّلتها إلى ظاهرة استرجال، إنما بقيت حيّة محترمة تتحرّك في إطار العفة، كما أرى اليوم القويات من بناتنا يتحدّثن بقوة العقل، وقوة الأدب والأخلاق، وأنا أسمع بكل اعتزاز، وأنتقل من المرأة النموذج في القرآن الكريم من آسيا بنت مزاحم إلى المرأة النموذج في العقل والحكمة والدقة بالنقل والتدبير بالسياسة وعدم الغرور، فتستشير، لكنها تـُعمِل عقلها، وتخالف مستشاريها إنها بلقيس ملكة سبأ:
لم تأخذها هذه الظواهر من الوعود والجعجعة إنما بقيت حكيمة مستقرة تستشير، وتـُعمِل عقلها، إنها امرأة تربّعت على عرش سبأ، وظلت الحكمة تملأ قلبها وعقلها حتى اهتدت، وحسُنت عاقبتها.
وهناك نموذج آخر، وهو (سليمة الأسبعية) التي أعلنت إسلامها، ولاذت برسول الله (ص)، لكنه كان قد وقـّع صلح الحديبية فكان عليه أن يسلـّمها؛ لأنها جاءت بعد الصلح، حين لاحقها زوجها حتى ظفر بها، وقد وصلت تواً إلى رسول الله، وقالت له: يا رسول الله أنا امرأة، وهذا زوجي رجل قاس ٍ. كان رسول الله (ص) مرتبطاً بعهد فانتظر إلى أن نزل عليه الوحي، وكان أن خاطبه الله - تبارك وتعالى -:
فنقض صلح الحديبية لكرامة امرأة. هذا هو القرآن الكريم، وفيه الكثير من الصور النسوية، ومنها: مريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها عفة ًوكرامة ًوبلاغة.
هذه هي صورة المرأة في واقع الإسلام، بل في واقع الديانات، أما هذا الفرق الشاسع بين ما هي عليه في واقعنا، وبين ما أراد الله - تبارك وتعالى - لها. نحتاج من يحمل هذا الفكر، ويخاطب العالم، وأول ما يبدأ ببناتنا وأخواتنا؛ حتى يعيدوا الثقة.
إن ما مُنيت به المرأة ليس من واقع الإسلام، إنما من واقع المسلمين، فما أراد الله
- تبارك وتعالى - لها ذلك.. هذه هي وقفتي الأولى للتعريف بالمرأة.
ووقفة أخرى أقارن بها بين المرأة في واقعنا، وبين المرأة في الغرب.
متى أصبح هؤلاء يتحدّثون بحقوق المرأة؟
ألم تكن البطرياركية والفحولية والذكورية قد انتشرت في دول الغرب، ألم تكن المرأة قد حُرِمت من التصويت في أميركا حتى عام 1919م، وفي زمن ويلسون مُنِحت حق التصويت لأول مرة، ومارسته عام 1924م، ألم تكن المرأة قد حُرِمت من حق التصويت في بريطانيا وإيطاليا وفرنسا حتى عام 1945م، ألم تكن المرأة في بلد الديمقراطية في سويسرا حُرِمت من التصويت حتى عام 1977م، فيما المرأة في واقع الإسلام منذ 1400 سنة كانت تتمتع بحقوقها كافة، ومنها حق التصويت:
((إذ يبايعونك تحت الشجرة))
تبايع محمداً (ص) الرسول والحاكم والقاضي، تبايعه تحت الشجرة، هذه هي مكانة المرأة في الإسلام.
لقد سجّلت المرأة في تاريخ الإسلام الرقم الأول في الشهادة، تلك هي (سُميّة) زوجة ياسر أم عمار، ماتت أختها وأداً، وماتت هي بإرادتها تضحية ً، هناك فرق بين القتلتين، تـُقتـَل أختها وأداً لجناية المجتمع عليها، وتضحّي سُميّة بحياتها؛ لأجل حياة المجتمات كلها، فتأبى المرأة إلا أن تسجّل الرقم الأول في الشهادة بالإسلام.
اليوم، وأنا أستمع إلى حديث الإمام السيد الخامنئي - حفظه الله - أوصى بمسألة المنزل والاهتمام بالمنزل، أودّ أن أقول: إن الذي ينظر إلى خطابه بعمق يشعر أنه أكد على أن التصدّي في المجتمع لا ينبغي أن يكون على حساب البيت أبداً، المرأة الحكيمة هي التي توفـّق بين الداخل المنزلي والخارج المنزلي، المرأة الحكيمة التي توفـّق بين الشأن الخاصّ والشأن العامّ، المرأة التي تتعلم بأن لا تتخذ من العلم تبرّماً على الزوج والأولاد إنما تذلـّل العقبات، وتساهم، وتمتدّ بعقلها إلى عقل زوجها وعقل أولادها، وتستطيع أن تنقذ زوجها من بعض الأخطاء.
إن المرأة المتعلمة أفضل من المرأة غير المتعلمة، وإن الأم المثقفة غير الأم الجاهلة دونكم السيدة زوجة زهير بن القين (دلهم بنت عمر) حين كانت قافلتها توازي حركة الإمام الحسين، وهو مُتجه إلى العراق، كان زهير بن القين يحاول أن يبتعد، بعث إليه الإمام الحسين رسولاً، واستدعاه، تردّد، قالت له زوجته: يا زهير لو ذهبتَ إليه، واستمعتَ له، ثم انصرفت. اذهب إليه. ذهب معادياً للحسين، ورجع مُوالياً للحسين.
كان هذا الموقف من صناعة امرأة؛ لنعرف أن البطولة التي سطـّرها أبطال الطف، طف كربلاء، وطف جنوب لبنان، وطف فلسطين، وطف اليمن، والبحرين، وليبيا، ومصر، وتونس، وكل أقطار العالم.. هذه الطفوف تصنعها امرأة، يوجد فرق كبير بين امرأة تصنع بطلاً، وتحوّل البيت إلى مدرسة، وتخرّج كفوئين في كل المجالات وبين امرأة تصنع الأحقاد، وتزرعها في القلوب.. هذه هي الوقفة الثانية.
أما الوقفة الثالثة.. ماذا بعد المؤتمر؟
المؤتمر مدته انتهت، واجتماعاته انتهت، غير أننا ينبغي أن نسأل هذا السؤال: ماذا بعد المؤتمر؟
هل تنتهي علاقاتنا بانتهاء المؤتمر، أم إنها سجّلت نقطة شروع، ولم تنتهِ بانتهاء المؤتمر؟
يجب أن نذهب إلى بيوتنا ومدارسنا كمدرّسين، ومستشفياتنا كأطباء، ومعاملنا كمهندسات، وإلى كل مرفق من مرافق المجتمع.. يجب أن نذهب مُعبَّئين بفكر جديد اسمه (صحوة) صحوة الذات، وصحوة الآخر؛ حتى نقدّم البرهان لأنفسنا وللآخرين.
سمعتم اليوم الأصوات الهادرة التي نفذت إلى الأعماق من بنات الشهداء، وزوجات الشهداء، وأمهات الشهداء، وأخوات الشهداء، وأنا أدرك جيداً أن المرأة سجّلت، وسطـّرت أزكى ملاحم البطولة في كل أرض من الأراضي التي تحرّكت فيها.. أدرك ذلك جيداً.
ماذا بعد المؤتمر؟
في المؤتمرات السابقة كنا قد وجّهنا من خلال هذا المنبر خطاباً للمُضي في طريق الثورات في ميادين المواجهة في ميدان التحرير، واللؤلؤة في البحرين، وفي تونس، وليبيا، وفلسطين في غزة، وفي كل مكان. اليوم نوجّه خطاباً مُكمِّلاً، نريد للصحوة أن تبقى؛ فنحن نحتاج الصحوة في أول نقطة الشروع، ونحتاج الصحوة في ثاني نقطة الشروع، ونحتاج الصحوة في الثورة، ونحتاج الصحوة في الدولة، لا ينبغي أن تفارقنا الصحوة؛ لأن الثورة والدولة وكل شيء إذا غاب عن الصحوة يُسرَق؛ لأن الصحوة تغالب الغفلة..
نحتاج الصحوة، وهي ليست مرحلة على طول الطريق، إنما هي في كل مراحل الطريق؛ لذا يجب أن نتحلى بعقلية الصاحين، ونتعامل على هذا الأساس، وحين نوجّه خطابنا إلى الحكومات الجديدة لما يسمى بـ(الربيع العربي) نناشدهم أنهم يجب أن يبرهنوا بأنهم كفوؤون في إدارة الدولة، وأنهم يتحلون بعقلية الدولة لا بعقلية المعارضة.
مثلما المرأة نصف المجتمع ينبغي أن تكون نصف المؤسسة، وينبغي أن تأخذ حجمها الطبيعيّ في البرلمان والحكومة.
وأنا أنظر إليكم أستحضر مقولة سابقة مازلت متمسّكاً بها، وهي: إن الشباب صُنـّاع الحاضر، وأن الطفولة والأطفال صُنـَّاع المستقبل، أما المرأة فهي صانعة الصُنـَّاع، تصنع اليوم، وتصنع الغد.
هذه النصفية بين النساء والرجال ليست نصفية تغالب، ولا تناكد، ولا إضعاف إنما هي نصفية تكامل، يتكامل فيها الرجل مع المرأة، ويبقى أن تنبض كل مؤسساتنا وبيوتنا وكل مكان بأن النصفية تتكامل بين المرأة والرجل تماماً.
لابدّ لكم أن تنفتحوا على كل شهدائنا؛ لأنهم مدارس، فزوجات الشهداء وأمهاتهم وأخواتهم وأبناؤهم مُنتـَج الشهيد، أما من هو مُنتِج الشهيد فينبغي أن نعود إلى الفكر الذي كوّن الشهيد، إلى الفكر الذي صنع البطولة، إلى الفكر الذي نشّأه، إلى الفكر الذي جعله يتسامى عن الدنيا ومُغرَياتها، ويُؤثِر التضحية إلى حدّ الجود بالنفس، (والجود بالنفس أقصى غاية الجود)، أما أنتم نتاج الشهداء الذين ذهبوا، وتركوا هذه الأمانة، فحين ننظر إليكم يجب أن نستحضر من خلالكم نتاج الشهيد، وعظمته، فهو ليس حيّاً عند الله - تبارك وتعالى - فقط إنما ينبغي أن يبقى حياً في وجداننا، ونوشّح، ونعطـّر أسماع الآخرين بذكر الشهيد.
أمم العالم تغوص في أعماقها وتأريخها حتى تستلّ رقماً من الشهداء، وتحاول أن تضخـّم فيه؛ حتى تحافظ على مجدها، دونكم ما حصل في فرنسا في عام 1429م عندما قـُتِلت البنت الشابة عذراء أورليان (جان دارك) في 1429م إلى اليوم هو عيد وطنيّ في فرنسا، فكيف بكم وفي كل عائلة وفي كل قبيلة من قبائلكم أكثر من شهيد وأيّ شهيد، الشهيد النوعيّ بثقافته، وبلاغته وخطابه وسيرته أمام الآخرين، وحين نال شرف الشهادة.
الشهادة هي الشهادة، والقتل هو القتل، غير أن قتلاً يختلف عن قتل آخر عندما يُبضَّع بجسمه، ويُرمى بأحواض التيزاب، كما هو في العراق في زمن صدام، عندما جعل بيوت العراقيين مُتخـَمة بالشهداء نساءً ورجالاً.
هاشمية سدخان في البصرة، وجابرية في الناصرية، وسلوى البحراني في بغداد، والشهيدة آمنة الصدر في النجف العالمة الشاعرة الفاضلة.. بيوت العراقيين كلها مزدانة بالشهداء، وأنا على علم ويقين أن الصورة تتكرّر، وهنا في إيران بدأت مسيرة الشهداء في جبهات القتال، وكانت النساء تساهم مساهمة رائعة في دفع الرجال إلى جبهة القتال، وصدق الإمام الخميني (قدس الله نفسه) حين قال: لولا المرأة لم تنتصر الثورة الإسلامية.
تحياتي، ودعائي لكم بالموفقية، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
التعليقات (0)