[كُتِب هذا المقال قبل أن يتم إطلاق سراح المعتقلين السياسيين الخمسة فيما سمي بـ"خلية بليرج"، وقد أطلق سراحهم والحمد لله يومه الخميس 14/04/2011، وإنا لنسأل الله تعالى أن يعجل بإطلاق سراح باقي المعتقلين الإسلاميين وغيرهم من مختلف المشارب، وأن يعجل سبحانه وتعالى أيضا بمحاكمة من كان السبب في اعتقال كل مظلوم، إنه سميع مجيب].
__________ من الحقائق اللغوية المعروفة أن اللغة تتطور، حيث تندثر كلمات وتبرز أخرى، وتتغير دلالات ثالثة في اتجاه توسيع تلك الدلالات أو تضييقها. وقد تكون الدلالة الحادثة من التوسيع أو التضييق إيجابية، وقد تكون غير ذلك. فمثلا كانت دلالات كلمات الصلاة والصوم والحج مقتصرة على الدعاء والإمساك والقصد، فتوسعت إلى الشعائر التعبدية التي نعرفها. وكانت كلمة "البأس" تطلق على "الحرب" فقط، فتوسعت دلالتها وأصبحت تشمل كل شدة. وكانت كلمة "العصابة" تطلق على "الجماعة"، أي جماعة، وقد تكون "جماعة من المؤمنين"، وبهذا المعنى جاءت في دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر: "اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لاتُعبَد في الأرض" (1). لكن كلمة "العصابة" أصبح لها الآن مفهوم سلبي مرتبط بالإجرام.
وقد تسهم المنعطفات الكبرى في تاريخ الأمة، كالثورات مثلا، في إبراز دلالات كثير من الكلمات –بعد أن تكون نُسِيتْ- أو تغييرِها. ولعل الجميع يعرف الانتشار الإعلامي الواسع لكلمة "العلوج"، والتي كان يطلقها السيد محمد سعيد الصحاف وزير الإعلام في نظام صدام حسين على جنود الغزاة من الأمريكيين وغيرهم، إبان حرب الخليج الثانية ضد العراق. وقد كانت تلك الكلمة لاتكاد تُعرَف عند غير اللغويين أو المثقفين بصفة عامة (2).
ومن أهم الكلمات والعبارات التي برزت على سطح الأحداث في الوطن العربي، وطن الثورات الشعبية حاليا، الكلمات والعبارات التالية:
I-كلمتا "الثورة و"الثوار":
من معاني هذه الكلمة في اللغة "الهيج" و"الوثب". واستعملت في الانتفاض من الشعب على الحاكم الظالم، سواء كان ذلك الانتفاض سلميا أو مسلحا. ولذلك فالانقلابات العسكرية التي عرفتها بعض الدول العربية في خمسينات القرن الماضي وبعدها، مثل مصر وسوريا والعراق، أطلق عليها اسم الثورة. وقبل هذه الثورات تكلم كثيرون عن ثورات منحرفة مرت في التاريخ الإسلامي، مثل ثورات الزنج والقرامطة وبابك الخرمي...، ومجدوها لأجل "تبيئة" أفكار ومعتقدات -من خارج الإسلام- في التاريخ الإسلامي. كما أن الشيعة تكلموا كثيرا عن ثورة الحسين، رضي الله عنه وأرضاه، وأعطوها أبعادا قد لاتكون دارت في خلد ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، انطلاقا من ذهنية تقديس التاريخ لديهم، خاصة تاريخ بعض آل البيت رضي الله عنهم أجمعين.
ولقد رفض البعض كلمة "الثورة" لما ينضح به مفهومها –في نظره- من عنف وقتل ودمار...كما ظهر ذلك مثلا من خلال الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي ( 1789–1799 )، والثورة البلشفية في القرن العشرين. وذهب البعض إلى استبدال كلمة "الثورة" بكلمات أو عبارات غيرها، مثل: "التغيير الجذري" أو "الإصلاح" أو "القومة"...وربما بسبب هذا العنف الذي لازم الكثير من الثورات التصقت بكلمة " الثورة" كلماتٌ وعباراتٌ مثل :"الثورة المضادة" و"العنف الثوري" المبرر و"الثورة تأكل أبناءها"...بل يرى فريدريك إنجلز –أحد منظري الماركسية- أن "العنف هو مولد التاريخ"!
غير أن الثورات التي تحدث الآن في الوطن العربي هي –باستثناء الثورة في ليبيا- ثورات سلمية يقودها شباب الأمة، على الرغم من محاولات متعددة لجر أولئك الشباب الثائر إلى متاهات العنف.
وقد بدأت الثورة في تونس الحبيبة، ولم تفلح الحدود في إيقاف مدها إلى مصر واليمن وليبيا وسوريا وغيرها، مع أن الثوار الشباب لم يرفعوا شعار "تصدير الثورة" الذي رفعته ثورة الخميني في إيران. ولم تفلح الثورة الخمينية في ذلك التصدير، على الرغم من تحول الثورة إلى دولة. ولذلك الفشل في التصدير أسباب متعددة قد يكون تلبس الثورة بالطائفية الشيعية من أهم تلك الأسباب.
II-كلمة "ارحل" ومقابلها الفرنسي: "Dégage":
لعل هذه الكلمة تبين بوضوح أن الثوار "طيبون" و"متسامحون". فهم لم يرفعوا –في بداية الثورة- مطلب "الاقتصاص من الحاكم" أو "محاكمته". وعلى الرغم من تسليط الحاكم مختلف أنواع الإرهاب والقتل والقمع على الثوار، فإنهم لم يستبدلوا مطلبهم برحيل الحاكم إلى غيره، حتى أن بعض ثوار مصر أقاموا –هم المعروفين بروحهم المرحة- "دقة زار" في ميدان التحرير رددوا فيها لازمة "ارحل...ارحل...". لكن مطلب الرحيل هذا قد يتغير، وتصبح كلمة "ارحل" غير محببة لدى الجماهير الثائرة، فيستبدلونها بكلمة "المحاكمة" أو "القصاص" من الطاغية وأزلامه، خاصة إذا استمر الطاغية –على الرغم من رفض شعبه الثائر له- على الكرسي كما يحدث الآن في ليبيا واليمن مثلا.
III-عبارة: "الشعب يريد..." ومابعدها:
هذه العبارة هي من أكثر العبارات ترددا –شعارا أساسا- على ألسنة الثوار. فهي:
عند الثوار في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا: "الشعب يريد إسقاط النظام".
وعند المتظاهرين في الأردن: "الشعب يريد إصلاح النظام".
وعند المتظاهرين في المغرب (مجموعة 20 فبراير): "الشعب يريد إسقاط الفساد".
فهل السبب في اختلاف مضامين هذا الشعار يرجع إلى اختلاف طبيعة الانظمة فيما بينها، من حيث التذبذب بين الإفراط في استعمال العنف وبين "الاعتدال" فيه، ومن حيث التدرج بين إطلاق الوعود بالإصلاح وبين تخوين الثوار وتهديدهم بتطهير البلد منهم "زنكة زنكة" مثلا؟ أم السبب في اختلاف طبائع الشعوب العربية في كل بلد؟ أم أن هناك سببا آخر؟
لعل الأمر يحتاج إلى دراسة.
IV-كلمة "البلطجية":
أصل كلمة "بلطجي" تركي، وتتكون من شطرين: "بلطة" وهي أداة قطع وذبح، ثم "جي" وتعني "من يحمل البلطة".
فكلمة "البلطجية" كلمة عامية لدى أهل مصر، ويشار بها إلى معاملة صادرة عن طرف عنيف يفرض بالعنف والقوة رأيه على غيره، أو يرهبه قصد فرض إتاوات عليه (3). وقد يدخل في أعمال "البلطجة" قطع الطريق على الناس وتكوين عصابة لسلب أموالهم وحقوقهم. وهذه الأعمال تلتقي مع جريمة "الحرابة" في شرع الله سبحانه، والتي يقول عنها سبحانه: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْارْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْارْضِ، ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (سورة المائدة: 35-36).
وفي جريمة "الحرابة" آراء عند علماء المذاهب. يرى الإمام مالك رحمه الله مثلا أن المحارِب "من حمل على الناس في مصر أو في برية، وكابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون نائرة ولادخل ولا عداوة" (4). ويدخل ابن حبيب، من علماء المالكية، عمل الحاكم الظالم في جريمة "الحرابة". فقد قال رحمه الله "في والي بلد بعث على بعض أهله، فيغير عليهم وينهب أموالهم ظلما، عن حكمه مثل حكم ماتقدم في المغيرين" (5).
وعادة مايكون "البلطجية" مجرمين سابقين أو بائعي مخدرات أو مرتزقة على العموم، يقومون بما سبق ذكره، أي فرض الرأي بالعنف أو إرهاب الناس لأخذ أموالهم. ويتم استغلال جوانب الضعف لدى هؤلاء "البلطجية"، خاصة وهم من ذوي السوابق الإجرامية كما سبق، إذ يتم الضغط عليهم للقيام بأعمال "البلطجة"، أو اعتقالهم وتعذيبهم. وقد يمنون بأموال وشقق أو غير ذلك، كما حدث في مصر أخيرا.
وقد اشتهر توظيف "البلطجية" في مواجهة متظاهري الثورة الشبابية الحالية، حيث تم توظيفهم في جميع الدول العربية التي عرفت مظاهرات إلى الآن. لكن الكلمة انطلقت بداية من مصر في "ثورة 25 يناير" ضد نظام حسني مبارك.
غير أن ظهور "البلطجية" مؤذن بانتصار الثوار، إذ لما ظهرت "البلطجية" في مصر، سقط النظام بعد ذلك الظهور بقليل.
وقد لاتسلم السجون من تسخير لهذا النوع من المجرمين ضد المعتقلين السياسيين، حيث اشتكى مرارا بعض المعتقلين السياسيين، في بعض الدول العربية، من تسخير المسؤولين عن السجن لسجناء الحق العام من المجرمين وغيرهم للاعتداء عليهم. بل قد يلجأ بعض المرشحين الفاسدين إلى تسخير عصابات تفرض التصويت عليهم وتمنعه على منافسيهم بالتهديد والعنف. وقد يكون المرشح الذي سانده "البلطجية" ممن لايخدم مصالح أولئك "البلطجية" أنفسهم ، بله مصالح البلد. ولذلك اعتبرهم البعض "أدوات عنف بلا عقل".
هذا على مستوى الأفراد والجماعات.
أما على مستوى الدول، فقد تكلم البعض عن وجود ماسماه "الدولة البلطجية"، إلى جانب ماهو معروف من "دولة مارقة" و"دولة فاشلة"، وتلك "الدولة البلطجية" هي نمط خاص من الدول "صنعته السياسات والنظم العربية" (6)، وهي الدولة "التي تنظم في مستوى السلطة ومؤسساتها حثالة المجتمع السفلي من قطاع طرق ومجرمين وتجار مخدرات وقوادين ومبيضي أموال ناشطين ومحتملين، وكذلك من نجحت في تحويلهم إلى مجرمين من هذه الطرز، وأدخلتهم إلى أجهزتها ومنظماتها الإيديولوجية والسياسية، المتخصصة في قهر المجتمع والسيطرة عليه، أو وضعتهم في حالة كمون لاستخدامهم عند الحاجة، ضد الشعب طبعا، الذي تقوم مهامها كأجهزة على وضع نفسها في مواجهته، رغم أنها تحمل ألقابا وتسميات رسمية، فهي أجهزة شرطة وأمن في تونس ومصر، وكتائب أمنية في ليبيا، وقوات مكافحة إرهاب وشغب في اليمن، وقوات حفظ نظام في الأردن والبحرين...إلخ"(7). ولعل المفكر السوري صاحب هذا الكلام يلتقي هنا مع ابن حبيب رحمه الله في اعتباره الحاكم الظالم "محاربا" بتعبير العالم المالكي، أو "بلطجيا" بتعبير ميشيل كيلو.
ولعل من حسنات الثورة الشبابية العربية القائمة –وما أكثرها!- أنها فضحت الطبيعة "البلطجية" للدول العربية: "باشتداد مقاومة المجتمعات العربية، وبداية تمردها على الأمر القائم، افتضح الأمر وبان أن دول العرب القائمة ليست في معظمها غير أغلفة خارجية رسمية لسلطة بلطجية مافياوية، بدأ الشعب يسقطها في كل مكان: بدءا بتونس، مرورا بمصر، وصولا إلى اليمن وليبيا وبقية البلدان، بينما هو يشق طريقه نحو زمن جديد تبين أن هذا النمط من الدولة كان أعظم عقبة في طريقه" (8).
V-الجمعة:
أصبح يوم الجمعة يوما يحسب له طغاة العرب ألف حساب. ومما يتندر به البعض دلالة على هذه الحقيقة أن الحكام العرب اجتمعوا في مؤتمر لتدارس سبل حذف يوم الجمعة من أيام الأسبوع!
وقد اقترن هذا اليوم لدى المسلمين بالإقبال على الله سبحانه، إنصاتا للخطبة وأداء للصلاة. وعلى الخطيب القصد في الخطبة وعدم الإطالة. والقصد "سنة الخطبة لئلا يطول على الناس، ولما في تطويلها من التصنع بالكلام والتشدق في الخطاب" (9). قال أبو وائل: خطبنا عمار، فأوجز وأبلغ، فلما نزل قلنا: ياأبا اليقظان، لقد أبلغت وأوجزت، فلو كنت تنفست، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مَئِنّةٌ (10) من فقهه، فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة، وإن من البيان سحرا" (11).
وفي خطبة الجمعة يتناول الخطيب بعض قضايا الأمة، ومن النماذج النبوية لذلك التناول ماجاء فيما أخرجه البخاري رحمه الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر، وكان آخر مجلس جلسه متعطفا ملحفة على منكبيه، قد عصب رأسه بعصابة دسمة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إلي. فثابوا إليه. ثم قال: "أما بعد، فإن هذا الحي من الأنصار يقلون ويكثر الناس، فمن ولي شيئا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فاستطاع أن يضر فيه أحدا أو ينفع فيه أحدا فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم" (12).
ومن النماذج أيضا ما أخرجه عن أنس بن مالك قال: أصابت الناس سنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم جمعة قام أعرابي فقال: يارسول الله، هلك المال وجاع العيال، فادع الله لنا. فرفع يديه –وما نرى في السماء قزعة- فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال...(الحديث)(13).
وبركات يوم الجمعة على المسلمين كثيرة. ومما جاء فيه مارواه مسلم عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هُدينا إلى الجمعة وأضل الله عنها من كان قبلنا" (14). والمقصود بـِ "من كان قبلنا": اليهود والنصارى، كما في رواية أخرى، عن ربعي بن خراش وحذيفة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا، فهدانا ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد... "(15).
فأي مزية لهذا اليوم حتى يهدينا الله سبحانه وتعالى إليه؟
قبل الإجابة أشير إلى حقيقة منهجية، وهي أن التاريخ والواقع قد يسهمان في زيادة توضيح معاني بعض النصوص الشرعية. فقديما قال بعض العلماء أن الحكمة من جعله يوما للمسلمين "وقوع خلق آدم فيه، والإنسان إنما خلق للعبادة، فناسب أن يشتغل بالعبادة فيه، ولأن الله تعالى أكمل فيه الموجودات وأوجد فيه الإنسان الذي ينتفع بها فناسب أن يشكر على ذلك بالعبادة فيه" (16).
لكن ثورة الأمة الآن، في عصرنا هذا، زادت الأمر توضيحا، حينما عُرِفت الجمعة فيها بأنها "جمعة التحرير"، و"جمعة الغضب"، و"جمعة الرحيل" –أي رحيل الطاغية- و"جمعة الحسم"، و"جمعة المحاكمة والتطهير"...وحينما عادت خطبة الجمعة إلى أصلها، يتناول فيها الخطيب قضايا الأمة كما كان الأمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصبح يحضر الخطبة حتى غير المسلم –وفي ميدان مرتبط بالحرية والتحرير- كما هو الحال في أرض الكنانة العزيزة.
أما أعداد الحاضرين فهي غفيرة، وتصبح مليونية في حالات "الغضب" و"التحرير"...كما سبق.فالجمعة إذن توفر فرصة كبيرة لتجمع الناس والانطلاق في المظاهرات. هذا التجمع يحث عليه الدين ويرجو المؤمنون فضله: عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم، أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول –على أعواد منبره- : "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين" (17).
صدقت ياسيدي يارسول الله، يامن تريد لنا، بتحذيرك لنا من ترك الجمعة، بركات كثيرة نلمس بعضها في هذه الثورة المباركة!
هل تعرفون الآن، ياسادة، لماذا يلجأ الطغاة إلى منع المصلين من الصلاة خارج المساجد –إذا امتلأت- يوم الجمعة، كما هو الحال مرة في الجزائر، والآن في تونس الحبيبة؟
إنه الرعب من الثورة، كما هو شأن طغاة الحكم! (18).
إن ما يحدث اليوم في يوم الجمعة في الثورة الشبابية المباركة يعني:
1-أنه لايمكن إبعاد السياسة عن الدين، بمعنى أن السياسة جزء من الدين، ومحاولة الفصل بينهما مساهمة في إفشال الثورة الشبابية. فالتحرك بالدين لإصلاح السياسة أمر مركوز في نفسية الإنسان المسلم، ومايقوم به أدعياء اللائكية الرثة من إبعاد للمتدينين عن المجال السياسي يواجَه إما بمقاومة داخلية من أبناء الشعب، يوم تُفرض تلك اللائكية بالحديد والنار كما يفعل عادة أصحابها، وإما بالثورة الشبابية انطلاقا من الجُمَع يوم تُقلَع أنياب تلك اللائكية.
2-أن المسلمين، في الملمات والمصائب، لايجدون لبناء المقاومة وتثبيتها سوى الدين. وعبثا يحاول السارقون لشباب الأمة من تدينهم إبعاد الدين عن المعركة، فإنهم لن يحققوا لهذه الأمة سوى المزيد من الارتهان لدوائر الاستكبار العالمي ومركزِه أمريكا! وشهادة التاريخ ناطقة.
إن لجوء الأمة إلى دينها في الملمات رجوع إلى الفطرة، والفطرة الإسلام. ولذلك جاء في الحديث: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى" (19).
VI-عبارة "زنكة زنكة":
أي "زنقة، زنقة".
انتشرت هذه العبارة انطلاقا من خطاب للقذافي، ذلك الخطاب الدموي الشهير الذي توعد فيه أبناء شعبه بأن يتبعهم بكتائبه ومرتزقته لقتلهم "شبر شبر، بيت بيت، دار دار، زنكة زنكة، فرد فرد..." حسبما قال.
هذه الكلمة، وإن كانت تشتم منها رائحة الدم والقتل والإرهاب في خطاب القذافي المسعور، فهي بالنسبة لعامة الشعب العربي كلمة للضحك والسخرية. ولذلك وظف كثيرون كلمته تلك، بل كل العبارة الدموية في خطابه، في أغاني هزلية. ولعل من أحسن ما أُنتِج على الطريقة المغربية، إقحام العبارة، بصوت القذافي، في رقصة لـِ"عْبيداتْ الرّما"، يظهر فيها القذافي "مايسترو" للمجموعة، كما يظهر ابنه المغرور راقصا مرة بعد أخرى.
إن توظيف هذه الكلمة في مجال السخرية ليس إلا احتقارا من الشعب العربي للمجرم المسعور الذي يقذف شعبه بأسلحة الدمار، لايستثني رضيعا ولا امرأة ولا شيخا ولاشجرة ولا بناءً...لسان حاله: "إما أنا أو الدمار"! أو قول فرعون: "ماعلمت لكم من اله غيري" (القصص:38)! لكن الله سبحانه لمثل هذا الطاغية بالمرصاد، "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون" (الشعراء:227).
وفي الختام نتساءل: ما الذي تحقق من وراء الثورة الشبابية؟
لقد تحقق الكثير، وأذكر أهمه بإيجاز:
1-افتضح أمر من يسعى إلى تمزيق وحدة الأمة بالطائفية البغيضة، فلم يتواجه العرب والأكراد ولا السنيون والنصيريون في سوريا، ولا اقتتل السنيون والحوثيون في اليمن، ولا كاد المسيحيون للمسلمين ولا المسلمون للمسيحيين في مصر، ولا تطاحن العرب والأمازيغ في ليبيا...بل أصبح الكل يدا واحدة ضد الطغاة في بلدهم وديارهم.
2-سقطت "الإسلاموفوبيا"، وتأكد للجميع ألا خوف من الإسلام والإسلاميين على الشعب، وأن فزاعة "التطرف الإسلامي" التي كان يلوّح بها الطغاة ليست إلا سرابا، فلا الإسلاميون متطرفون ولا التطرف من شيمهم. وكم كان مؤثرا، في المغرب مثلا، أن يهرع مجموعة من شباب 20 فبراير بمختلف توجهاتهم إلى سجن سلا لاستقبال السياسيين الخمسة المتهمين بالانتماء لما سمي بخلية بليرج، لما شاعت –ولم تتأكد- أنباء عن قرب إطلاق سراحهم. أكان هذا الاستعداد لاستقبال هؤلاء السياسيين ممكنا لو تأكد لدى الشباب أن الإسلاميين "مخيفون" كما يروج عنهم "مهندسو الإعاقة الديمقراطية"، حسب تعبير أستاذنا المعتقل ظلما محمد المرواني؟
3-سقط لدى أبناء الأمة الخوف من غول "السلطة البلطجية"، وسقط معه الخوف من الاشتغال بالسياسة لدى الشباب العربي، وأصبح الأصل في المسؤولين، في دول عربية كثيرة، أنهم مجرمون حتى يظهر العكس.
4-سقط حزب الحاكم في كل بلد قامت فيه الثورة، كالحزب الوطني في مصر، والحزب الدستوري الديمقراطي في تونس...وأصبح الكثيرون من مسؤولي الحزب يقادون كالخراف إلى المحاكم والسجون. كما آذنَت أحزاب حاكمة أخرى بالسقوط، مثل حزب المؤتمر الحاكم في اليمن، وحزب البعث في سوريا. وبدأت أصابع الاتهام تتوجه نحو أحزاب ثالثة بالإدانة، كالحزبين الكرديين في كردستان العراق، والحزب الذي حاول أن يكون وحيدا بالمغرب (20). بل وجدنا من يتهم مؤسس ذلك الحزب صراحة بدوره في اعتقال الإسلاميين، خاصة معتقلي ما سمي بخلية بليرج وما ينعت بالسلفية الجهادية، بالظلم والجور! وإنا لنسأل الله سبحانه وتعالى أن يعجل باليوم الذي يحاكم فيه كل ظالم على مااقترفت يداه. وهيهات أن تذهب أنات المظلومين وآهات نسائهم وأبنائهم سدى، فإن دعوة المظلوم مستجابة "ليس بينها وبين الله حجاب" (21)، كما قال الصادق المصدوق عليه وعلى آله وصحابته أزكى الصلاة والسلام، وإن غدا لناظره قريب.
____________
1-أخرجه مسلم في الجهاد، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم، حديث 1763.
2-قال ابن منظور في "اللسان"(مادة "علج"): "العلج: الكافر، ويقال للرجل القوي الضخم من الكفار: علْج...والعلج: حمار الوحش لاستعلاج خلقه وغلظه؛ ويقال للعير الوحشي إذا سمن وقَوِيَ: علج..." .
3-مع إطلالة الثورة الشبابية المجيدة في سوريا الحبيبة، بدأت كلمة أخرى لها نفس المعنى تبرز، وهي كلمة "الشبيحة". وكما كان ظهور "البلطجية" في مصر إيذانا بسقوط نظام مبارك، فكذلك سيكون ظهور "كلاب" بشار –"الشبيحة"- في سوريا إيذانا بسقوطه بإذن الله تعالى، و(يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله).
4-الجامع لأحكام القرآن للقرطبي رحمه الله، ص 6/115.
5-الشرح الكبير على هامش حاشية الدسوقي للشيخ أحمد الدردير، ص 4/309-310.
6-مقال ميشيل كيلو: (دولة "بلطجية" تضم حثالة المجتمع!)، جريدة "المساء" المغربية، عدد 1413، بتاريخ 08/04/2011.
7-نفسه.
8-نفسه.
9-إكمال المعلم للقاضي عياض رحمه الله، ص 3/272. ومن مصائبنا اليوم أن بعض خطباء الجمعة يغفلون عن هذه السنة، ويأخذون في خطبة طويلة مملة يتكلمون فيها عن كل شئ إلا عن قضايا الأمة، ويرتكبون أخطاء لغوية ينأى عنها الطالب المبتدئ!
10-أي علامة، فالمعنى أن هذا مما يعرف به فقه الرجل.
11-أخرجه مسلم في الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، حديث 870.
12-أخرجه في الجمعة، باب من قال في الخطبة بعد الثناء: أما بعد، حديث 927.
13-أخرجه البخاري أيضا في الجمعة، باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة، حديث 933.
14-كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، حديث 23.
15-نفسه بنفس الكتاب ونفس الباب، حديث 22.
16-فتح الباري لابن حجر رحمه الله، ص 2/453.
17-أخرجه مسلم في الجمعة، باب التغليظ في ترك الجمعة، حديث 865.
18-نشير، والشيء بالشيء يذكر، إلى أن وزير التعليم التونسي الطيب البكوش قد امتنع من تخصيص قاعة للصلاة في المؤسسات التربوية بدعوى الحاجة إلى قاعات للدراسة! ولست أدري ما الذي سيقوله لو طلب منه تخصيص قاعة للرقص، وإن كنت أكاد أجزم بأنه سيستجيب انسجاما مع "الحداثة"!
19-أخرجه أبوداود في الصلاة، باب وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل، حديث 1319.
20-من بين الشعارات التي ترددها مجموعة "20 فبراير" في المغرب، شعار:"زنكة زنكة دار دار، والهمة هو الخَطَر". والمقصود مؤسس حزب الأصالة والمعاصرة بالمغرب، فؤاد عالي الهمة، الذي يلقبونه بـِ"صديق الملك"، وهو يحارب الإسلاميين بشراسة ليست فيها أي منافسة شريفة.
21-جزء من حديث أخرجه البخاري في المظالم، باب الاتقاء والحذر من دعوة المظلوم، حديث 2448، عن معاذ.
التعليقات (0)