تسلمت من المطبعة كتابي التاسع عشر( كلمات موجوعة .. نصرخ عندما يصمتون! )، ومقدّمة الكتاب والإهداء اعتذارٌ عن الإهداء المُقدَّم إلىَ الرئيس عبد الفتاح السيسي في كتابي السادس عشر. مقدمة و إهداء مُعاكس للرئيس السيسي!
أظن أنها المرةُ الأولىَ التي يهدي فيه كاتبٌ كتابــَـه لشخصيةٍ رفيعةِ المقام والسلطة، ثم يُصدر كتابــًـا جديدًا ينزع فيه الإهداءَ الأولَ ويحذفه و.. يكاد يعتذر عنه!
إنَّ فرضَ القناعات علىَ النفسِ نفَسُها قصيرٌ، ورغم أنني كتبتُ الإهداءَ السابقَ مشروطــًـا بشروطٍ أغلىَ من القصرحتى يصبح توقيعي الممهور بأمال وأحلام وتمنيات عهدًا لا ينقطع مهما اختلفت معك لاحقـًـا، إلا أنَّ كل يوم كان يتأكد لي أنَّ التأييدَ المشروطَ انتهى أجلــُـه، وأنَّ التعاطفَ معك سيجعلني أحمل أوزارًا إلىَ يوم القيامة.
كل يوم أتعرض فيه للمسائلة الضميرية، والتهكُّم الذاتي كان ينتهي بتأجيل فضّ العقد الشفوي والتحريري، ولو لم يكن بديلــُـك جماعاتٍ دينيةً مهووسةً بالدمِ، وأحزابــًـا كرتونيةً تسقط قبل أنْ تقوم، وتطير مع الرياح قبل أيّ عاصفة، لكنت الآن في الجانب المناهض لك منذ الشهر الأوّل لتسلمِك مقاليد السلطة. لم يكن من العقل والرجاحة والمنطق أنْ أعارضك قبل مرور عامين على الأقل حتى تأخذ معارضتي مصداقية، فمن يقرأني كان سيردد بأنني اختلفت مع السادات وحسني مبارك والمشير طنطاوي ومحمد مرسي، فكيف سيصدّقني أحدٌ وهذا أثرُ فأسي ... أعني قلمي؟
كان من السهل أن أراك وأنت تتكلم، وأسمعك وأحسك وأشمك وألمسك، وأتسلل إلى أحلامك، ساطعها وباهتها، وأدلف لخلجات نفسك، وأقرأ ماضيك وأتأمل في حاضرك وأرى مصرَنا في مستقبلك. قلت لنفسي بأن الرئيس السيسي ليس مطالـــَـبا بالحديث اللغوي والثقافي والعلمي والأكاديمي والسياسي بتعبيرات يهلل لها فرحــًـا المُعجم.
وقلتُ بأنَّ الرئيسَ سيطهــِّـر القضاءَ، ويأمر بمشروع لســَـنِّ قوانين في كل المجالات تتفوق علىَ نظيراتها في الدنيا كلها، وأنَّ الفساد لن يعثر علىَ ثغرةٍ في رأس قاضٍ أوقعه حظه في عهدك.
وأن العشوائياتِ وأطفالَ الشوارع والأمية والتسوّل ومكبرات الصوت والتطرف الديني وعالم الفتاوى الفجــَّـة ستنتهي إلىَ غير رجعة. وأن كرامة المواطن من كرامة الرئيس، والضابط الذي يصفع مواطنا على وجهه كأنه اقتحم قصرَ الاتحادية ووجــَّـه الصفعة للرئيس نفسه. وأنَّ قانون ازدراء الأديان مأخوذ من جماجم داعش الجوفاء، وأنَّ تأجيلَ المحاكمات مرات عدة هو تحالف مع الشيطان.
وأن تبرئة حسني مبارك وعائلته ورجاله أكبر هزيمة تلحق بمصر في كل العصور. وأن الرئيس سيحاسب قنــَّـاصة العيون وقتلة الشهداء الشباب وخصوم ثورة يناير. وأن الحُكــْـمَ بإعدام المئات في دقائق دون مثول وشهود ومحاكمة عادلة لا يختلف عن مقصلة جنكيز خان. وأن الرئيس سيحتضن ثورة أبنائه الينايريين، فإذا بهم يُحشــَـرون في زنزانات مُهينة كأنهم مجرمون أنجاس.
والرئيس سيحترم الدستور، وسيــُـلقى في هامش التاريخ بالأحزاب السلفية والدينية التي تمنح ولاءَها لموروثات عبثية متصاغرة بدلا من وطن واحد لا يعرف عدة ولاءات. والرئيس سيُصهـِـر المصريين في بوتقة واحدة لا يعرف مسلموها مسيحييها. والرئيس سيقوم بثورة إعلامية تجعل مصر في ركب أمم الأرض المتقدمة، فإعلامنا حالة قرداتية من القفز والرقص والطبل والبدائية.
والرئيس سيترك قوى الاستنارة تقود الحركة الفكرية والتعليمية والإعلامية، والرئيس سيختار مساعديه ومعاونيه وناصحيه ومستشاريه من ورثة الأنبياء حتى تكون قراراته سماويةً قبل أن تلتصق بالأرض.
والرئيس سيُعطي مُهلة مُحددة، كقناة السويس، لجعل كل شوارع مصر تبرق من نظافتها، وكل مستشفياتها قصورًا، ومدارسها كأنها في عصر النهضة. والرئيس لن يعطي أذنيه لإعلامي متسلق أو متخلف أو جاهل، وكل ساعة، وكل دقيقة من وقته هي للشعب.
وعهد الرئيس هو جنة الطفولة السعيدة وليس الطفولة التي يتم فيها الحُكــْـمُ علىَ طفل انتهى لتوه من الفطام.
لكل هذا وآلاف الأسباب الأخرى قررتُ أنْ أهديك عكسَ ما أهديتك في كتابي الأسبق، فأنا لا أريد أنْ أخفض رأسي خجلا أمام زوجتي وأولادي وأحفادي، بل أتمنى أنْ يظل هذا الإهداءُ المعاكس في مكتبتي هنا لتقرأه أجيالٌ من صُلبي ستعرف أنَّ رائحة حبر قلمي أزكى من كل العــُـطور.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 5 يوليو 2016
التعليقات (0)