إهداء إلى الأم
والرفيقة ، والخليلة
والحلم الجميلْ
وجاء كلانا في قطرة واحدة
كان المطر يتهاوى بغزارة ، وبلامبالاة حديدية ، خيوط من السيول ، تصب على الأرض ، حوّلتها الأزقة العتيقة إلى برك من الوحل اللزج ، وأخذت معها الكهرباء ، فطوق القرية ديجور عظيم يبعث بالرهبة ، ويخلع عليها أردية البدائية .
كان صوت الشاعر يشتت الظلمة ، واقفا في فناء البيت ، في معطفه المطري الأسود وقبعة من السعف ويرتل قائلا :
" زمن وأريد أن أصرخ
وأتحوّل ديناصورا يتوسد كوكبين
مسجونا في رأس إمرأة افريقية
في دفتـر طفلة
في الرمل ، بين طبقات الأرض
زمن وأريد أن أشكل قاموسا للحب "؟
في غرفة مجاورة تتخللها ظلال خافتة ، كانت المرأة تفترش الأرض وتضع لفافة من قماش على فمها وكان طيفها المنعكس على الجدار طيفا عملاقا على ضوء الشمعة ، فيما كانت القابلة تسخن الماء قبل أن تخرج الحفيد إلى العالم ، كانت المرأتان بطيئتي الحركة والعالم يبكي بغزارة في كل مكان .
وبدا أن الأمطار الهطالة تمطر رذاذا ورديا ، عندما كان الجد يحتضر في ذات الوقت في الغرفة العلوية وحيدا ، ويدندن بأغنية جنوبية عتيقة :"
"لا تظنن
أن الراقصين تحت ظلال الفراشة
مغتبطين جدا
إنهم يحتـرقون
أنهم يشتعلون
لعلهم ضيعوا يوم كانوا
حبهم الأول "؟
صرخة ، أنين ، عرق ، وخرج الحفيد إلى العالم ، تجوّل بعينيه في كافة الغرفة الخافتة ، أراد أن يقوم على قدميه ويعدو إلى جديه ويرقصا معهما ، جد شاعر وجد ثائر ، والزمن سيكون مدينا لهم جميعا ، وسيفعلون ثلاثتهم ما شاؤوا ، بيد أنه عندما خرج وجدها قبالته بلون شعرها الفضي ، وثوبها الأزرق الشفاف الذي كان بمقدوره أن يستشف أشياء عصية على المخيال ، سحبته بيدها وراقصته فأوقعها أرضا وتعفر كلاهما في الطين ، وقالت له :" إياك أن تصرخ "؟
بعد ربع قرن ، صار الحفيد يرى في المطر جديه الراحلين إلى أرض بعيدة خضراء ، سيلتقيان في أرض واحدة ، الشاعر والثائر وسيلعبان الشطرنج ، أو الديمينو ، ويتذكرا على مهل أيامهما الخوالي .
لم يكن الحفيد شاعرا ، ولم يكن ثوريا في مواقفه ، وفي ذات يوم عندما كان مستلقيا على أرض ذات تراب أسود يستقبل أشعة الشمس الدافئة ، أغمض عينيه وأوشك على أن ينام وإذ بقطرة بحجم البوصة الواحدة تقع على شفتيه وتدغدغ أمكنة القبلة الأولى ، فتمرق إلى أعماقه ، فينهض مسرعا ، مرتجفا ، مصعوقا بالبـرد والحريق ، ثم صرخ صرخة الميلاد الاولى :
" رأيتُ البحر يهدر بقوة
ثم رأيتُ الشمس تغرق
في البحر بقوة
ثم كنتُ على السفينة الماخرة
نحو الأبدية
فأنا سيد العالم "؟
مع تلك القطرة تذكرها مرة أخرى ، وبات يعرف أنها رأته قبل أن تولد ، مثلما رآها قبل أن يخرج إلى الغرفة الخافتة ، لكم ارتبك عليه الأمر بعد ذلك مع نساء كثيـرات ، إذ كان قد عرف أنوثة كثيـرة ، وكن يرين في نهايته البداية الأولى ، بينما كان يبحث عن وجهها ، عن رائحتها ، ولكنه دائما ما كان يعود بلا حقيقة ، وكان يرى كل بداية مع النساء جميع النهايات بدون طيفها الأول .
لقد عاش الحفيد بعيدا عن الأم ، بعيدا عن الأب ، وكلاهما كانا معا تحت سقف واحد ، بينما هو كان شريدا ، وطريدا ، لأنه لم يزل يفتش عن تلك الطفلة التي رضعت معه ، وركضت فيه ، وسكنته أزمنة طويلة ، عاش في كنف جدته ، وورث شعرا يحمل بندقية وقلبا عظيما اتسع حبه للكون أجمع وما انفكوا ينادونه :"أيها الاب العظيم متى تبلغ الثلاثين "؟
الاكيد أنه لايزال ينتظرها ليعانقها ، كالرضيع ، وكالصديق ، وكالعاشق المتيم ، وفي كل هؤلاء كان يتيما ...
لقد آلى على نفسه أنه سيكون لهاشخصان- أب وأم - وشخص ثالث عندما يمسك بأحظانها ، ويغرق في رائحتها ، ويشكل قاموسا جديدا ليس للحب فحسب ، بل للحياة قاطبة ، إنه ربع قرن من النوستالجيا الثقيلة اللاهثة ..
البيـروني
التعليقات (0)