مواضيع اليوم

كلانا ولدنا من قطرة واحدة

غادة والبيروني

2009-02-05 11:32:34

0

إهداء إلى الأم 

والرفيقة ، والخليلة

والحلم  الجميلْ

 

وجاء كلانا في قطرة واحدة

كان المطر يتهاوى بغزارة ، وبلامبالاة حديدية ، خيوط من السيول ، تصب على الأرض ، حوّلتها الأزقة العتيقة إلى برك  من الوحل اللزج ، وأخذت معها الكهرباء ، فطوق القرية ديجور عظيم يبعث بالرهبة ، ويخلع عليها أردية البدائية  .

كان صوت الشاعر يشتت الظلمة ، واقفا في فناء البيت ، في معطفه المطري الأسود وقبعة من السعف ويرتل قائلا :

" زمن وأريد أن أصرخ

وأتحوّل ديناصورا يتوسد كوكبين

مسجونا في رأس إمرأة افريقية

في دفتـر طفلة

في الرمل ، بين طبقات الأرض

زمن وأريد أن أشكل قاموسا للحب "؟

في غرفة مجاورة تتخللها ظلال خافتة ،  كانت المرأة  تفترش الأرض وتضع لفافة من قماش على فمها وكان طيفها المنعكس على الجدار طيفا عملاقا  على ضوء الشمعة ، فيما كانت القابلة  تسخن الماء قبل أن تخرج الحفيد إلى العالم ، كانت المرأتان بطيئتي الحركة  والعالم يبكي بغزارة في كل مكان .

وبدا أن الأمطار الهطالة تمطر رذاذا ورديا ، عندما كان الجد يحتضر في ذات الوقت في الغرفة العلوية وحيدا ، ويدندن بأغنية جنوبية عتيقة :"

"لا تظنن

أن الراقصين تحت ظلال الفراشة

مغتبطين جدا

إنهم يحتـرقون

أنهم يشتعلون

لعلهم ضيعوا يوم كانوا

حبهم الأول "؟

صرخة ، أنين ، عرق ، وخرج الحفيد إلى العالم ، تجوّل بعينيه في كافة الغرفة الخافتة ،  أراد أن يقوم على قدميه ويعدو إلى جديه ويرقصا معهما ، جد شاعر وجد ثائر ، والزمن سيكون مدينا لهم جميعا ، وسيفعلون ثلاثتهم ما شاؤوا  ، بيد أنه عندما خرج وجدها قبالته بلون شعرها الفضي ، وثوبها الأزرق الشفاف الذي كان بمقدوره أن يستشف أشياء عصية على المخيال ، سحبته بيدها وراقصته فأوقعها أرضا وتعفر كلاهما في الطين ، وقالت له :" إياك أن  تصرخ "؟

بعد ربع قرن  ، صار الحفيد  يرى في المطر جديه الراحلين إلى أرض بعيدة خضراء ، سيلتقيان في أرض واحدة ، الشاعر والثائر وسيلعبان الشطرنج ، أو الديمينو ، ويتذكرا على مهل أيامهما الخوالي .

لم يكن الحفيد شاعرا ، ولم يكن ثوريا في مواقفه ، وفي ذات يوم عندما كان مستلقيا على أرض ذات تراب أسود يستقبل أشعة الشمس الدافئة ، أغمض عينيه وأوشك على أن ينام وإذ بقطرة بحجم البوصة الواحدة تقع على شفتيه وتدغدغ أمكنة القبلة الأولى ، فتمرق إلى أعماقه ، فينهض مسرعا ،  مرتجفا ، مصعوقا بالبـرد والحريق ، ثم صرخ صرخة الميلاد الاولى  :

" رأيتُ البحر يهدر بقوة

ثم رأيتُ الشمس تغرق

في البحر بقوة

ثم كنتُ على السفينة الماخرة

نحو الأبدية

فأنا سيد العالم "؟

مع تلك القطرة تذكرها مرة أخرى ، وبات  يعرف أنها رأته قبل أن  تولد ، مثلما رآها قبل أن يخرج إلى الغرفة الخافتة ، لكم ارتبك عليه الأمر بعد ذلك  مع نساء كثيـرات ، إذ كان قد عرف أنوثة كثيـرة ، وكن يرين في نهايته البداية الأولى ، بينما كان يبحث عن وجهها ، عن رائحتها ، ولكنه دائما ما كان يعود بلا حقيقة ، وكان يرى كل بداية مع النساء جميع النهايات بدون طيفها الأول .

 لقد عاش الحفيد بعيدا عن الأم ، بعيدا عن الأب ، وكلاهما كانا معا تحت سقف واحد ، بينما هو كان شريدا ، وطريدا ، لأنه لم يزل يفتش عن تلك الطفلة التي رضعت معه ، وركضت فيه ، وسكنته أزمنة طويلة ، عاش في كنف جدته ، وورث شعرا يحمل بندقية وقلبا عظيما اتسع حبه للكون أجمع وما انفكوا ينادونه :"أيها الاب العظيم متى تبلغ الثلاثين "؟

الاكيد أنه لايزال ينتظرها ليعانقها ، كالرضيع ، وكالصديق ،  وكالعاشق المتيم ، وفي كل هؤلاء كان يتيما ...

لقد آلى على نفسه أنه سيكون لهاشخصان- أب وأم - وشخص ثالث عندما يمسك بأحظانها ، ويغرق في رائحتها ، ويشكل قاموسا جديدا ليس للحب فحسب ، بل للحياة قاطبة ، إنه ربع قرن من النوستالجيا الثقيلة اللاهثة ..

البيـروني

 

 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !