في عالم اليوم - وربما في عوالم أيام أخرى - نسمع الكثير من الاقتراحات والآراء العابرة لأناس قد لا نقابلهم مرة أخرى ، لا نعير الكثير من الاهتمام لهذه الآراء ، قليل جدا منها يلاقي هوى في نفوسنا لغرابته ربما أو لأننا سئمنا من مشكلة ما أو من باب " سال أمجرب لا تسال اطبيب " في النهاية لا يوجد سبب وجيه يجبر عابر سبيل - ألقى نصيحة عابرة لعابر سيبل أخر - على الكذب .
فمؤخرا أصابني سيل من تلك الاقتراحات كان في البداية عن طريق الصدفة إلا أنني وجدت الأمر مسليا فرحت أسأل العابرين النصائح العابرة ، كانت البداية - أن قدر الله وماشاء فعل - أصاب سيارتي عطل فني فقررت الذهاب بها إلى محطة لإصلاح السيارات ( كارج ) وفور وصولي أصابني شيء مما يصيب زائري تلك المناطق ، بقع سوداء متفرقة على ثيابي ، ورائحة كريهة شربت منها حتى الثمالة ، وبعد وجه يوم شات وسماء مغبرة وساعات انتظار طويلة أصبت بزكام وصداع حادين فقررت أن أذهب للراحة ، ولأن العاملين - في مثل هذه المحطات - معروفين بالأمانة قررت تأجير متدرب جديد لحفظ سيارتي منهم ، دفعت له مبلغا زهيدا ووعدته بالمزيد ، أوهمته أني أعرف كل مفصل في السيارة ومزجت له خلطة من الوعد والوعيد وأوكلت أمري لله .
أوقفت سيارة أجرة - سير كدروه - وركبت ، إلى جانبي رجل خمسيني - لست بعراف - لكن تعاريج وجهه توحي بتاريخ من الكد والمعاناة والعمل الشاق والتجربة ، وقليل من الروية والحكمة ، نظر الرجل إلى بعمق فخشيت أن يكون يجرب معي ما جربت معه ، ثم قال : تلك البقعة السوداء على ثيابك أهي ويل ؟ رددت بالإيجاب ، أتعرف كيف تزيلها ؟ في الواقع لم أفكر في ذلك لكن أعتقد أني سأدفع بها لمغسلة ، أبتسم ابتسامة خفيفة وقال : أصحاب المغاسل لا يفكرون ، ومثل هذه البقع يحتاج للفكر والتجربة ، لكن دعك من ذلك سأهديك نصيحة تزيل هذه البقع من ثيابك إلى الأبد ، خذ قليلا من حليب نستل وضعه على هذه البقع ، دعه لساعات وبعد ذلك أغلي له ماء واغسله وتذكرني ، ماتبقى من علبة الحليب لا ترمه ، اغله هو الآخر وضع فيه نعناعا وشيئا من مانت ( حلويات حارة ) واشربه وتذكرني ، سيذهب زكامك هذا إلى الأبد ، تماما كالبقع .
انتهى مشواري مع تلك السيارة ونزلت عند حافة شارع متفرع من ذلك الشارع في انتظار سيارة أجرة أخرى ، في الانتظار أخذت أفكر ، مالذي يدفع رجلا خمسينا مسلما فقيرا لتجربة مثل هذه ، من المؤكد أن الماء أوفر في بلادي من اللبن ، لم يسعفني تهافت سيارات الأجرة في إطالة التفكير ، ركبت إحداها وبعد أن أغلقت الباب رفعت طرف الثوب المصاب وسألت : أيعرف أي منكم كيف أزيل هذا ؟ لم أكد أنهي السؤال حتى انبرت عجوز من بائعات السمك في الشوارع وقالت : الأمر بسيط جدا لكن أبناء اليوم لا يفكرون ، أفقس عليه بيضا ودعه لساعات حتى ييبس وبعد ذلك قشره ستذهب تلك البقع مع القشور وتذكرني ، فقلت : والزكام ؟ فقالت ربما وجبة من السمك ، ستعيد إليك توازنك ، ضحكت من الدعاية الخبيثة لبائعة السمك ، ونزلت من سيارة الأجرة بعد أن قررت أن أتذكر صاحباي لكن لا أجرب إطلاقا ماقلاه ، سأدع صاحب المغسلة يفكر نيابة عني في إزالة البقع والصيدلاني يفكر في الزكام والصداع ، وقد أتقنا ذلك العمل ، أزال صاحب المغسلة تلك البقع بهدوء ، ووفق الصيدلاني في الوصفة وشفيت لله الحمد ، في المساء عدت لأخذ سيارتي ، أعطيت لحارسها ما وعدته بعد نصيحة عابرة عن الأمانة ، أنطلقت وأنا أترنم بقول الشاعر :
كأننا والماء من حولنا 1 قوم جلوس حولهم ماء
ليس في هذا البيت ما يحسن السكوت عليه ، تماما كما في النصائح العابرة للعابرين في سيارات الأجرة .
استقيموا يرحمكم الله ..
التعليقات (0)