كلام عابر لامرأة النور
البشير عبيد
حين نصحتني بقراءة صحيفة " القدس العربي" فور خروجها إلى الدنيا، لم أكن أعلم أنها تضع أصابعها العشر على مكامن الجرح النازف في جسد الأمة، و لم تنسى أن تسمعني أغاني فيروز و مرسال خليفة. كان الحلم يخاتل الجسد المنهك المتعب المنكسر و كانت الروح تبحث عن حقائب للسفر، في نفس اللحظة التي كانت فيها تقرأ لي ورقات من كتاب " العودة".. و تحثني على الذهاب إلى أقاصي العالم، بحثا عن ينابيع المفردات المشاكسة لتداعيات المشهد. في سهراتنا الصيفية و نحن جالسين قبالة البحر صحبة بعض الأصدقاء، كانت القدس محور أحاديثها و تحاليلها المكتوية بالجراحات و الآلام.
-أين هي الآن؟
-ربما أخذتها رياح الانكسارات إلى تخوم الأقاليم.
حتما لم تضع في الزحام. في إحدى الصباحات الشتائية من العام الفائت، أخبرني أحدهم أنها سافرت إلى بيروت و مارست الصحافة بطريقتها الاستثنائية في إحدى الجرائد اللبنانية، و اقتربت من أجواء الرواية، فصارت تبعا لذلك صحفية غير عادية و روائية لافتة للأنظار، تتعمد مشاكسة أهم الفاعلين في الحياة الفنية والأدبية و الثقافية دون نسيان رصد و متابعة و نقد تجليات و اشراقات و انتكاسات المشهد الثقافي العربي. و بهذا المعنى الخارق للمفاهيم و التصورات التقليدية في حقول الفكر و الفن و الثقافة، صارت هذه المرأة المعاكسة للتيار بكل المقاييس، عنصرا ثابتا ومركزيا في تقويم و نقد حركة الإبداع الفني و الأدبي و الثقافي.. وقدمت درسا كبيرا في الصبر و المكابدة و طول النفس و الإيمان بقيمة الحلم و السفر بأجنحة الطموح إلى مراتب التألق و التميز و التفرد بعيدا عن أمراض تضخيم الذات و تقزيم الآخرين.. و بهذا السلوك "الإبداعي" الموهل في الرمزية، صارت صديقتنا مفخرة جيل الثمانينات بما قدمت من إضافات في الصحافة و الرواية، متجاوزة المفاهيم الكلاسيكية لدور المرأة في المجتمع من أنجاب الأطفال و إشباع رغبات الرجل بما تمتلكه من محاسن الجسد. لم تكن هذه الأنثى العاشقة للحرية بمعانيها الحقيقية، الذاهبة بأحلامها إلى مناخات التجاوز، تترقب من أي كان جائـزة أو شهادة تقدير أو لفتة تكريمية، لأن إيمانها مطلق بقيمة الإبداع في حد ذاته و دوره الحيوي في بناء المجتمعات التواقة إلى الحداثة و التقدم و العدالة. ليس بإمكاني أن أنسى إحدى اللقطات و نحن نتجول في شوارع و أزقة تونس العاصمة، حين تذرف الدمع لما ترى توسلات الشحاذين...
•
• بإمكانها الآن أن تذهب وحدها إلى فضاءلت الدهشة و تمعن النظر في وجوه العابرين، لعل ولدا كسيحا يعطيها مرآة أنيقة لترى انكسارات الكائن الباحث عن مستقر للروح المكتوية بلهيب اللحظة التاريخية المراوحة بين اليأس و الأمل، الموت و الحياة، عنفوان الحلم و خراب الأقاليم التي لم تستطيع أن تهرب من نيران الغزاة و بعض المتخاذلين المتواطئين.. و لكن هؤلاء المحسوبين على أنهم من سلالة هذه الأمة المنكسرة المغدورة، فاتهم أن ذاكرة الأمم لا يمكنها شطب أسماء القتلة و الجلادين و المتعاونين معهم بأي شكل من الأشكال، حفظا ببهاء اللحظة الخارقة التي قدم فيها البعض من أهلنا في غزة و بغداد و صيدا، أرواحهم فداءا للوطن الممتد من الماء إلى الماء.. و الغريب في الأمر أن هؤلاء المتاجرين بهموم الأمة و قضاياها المصيرية، لم يخجلوا من أنفسهم حين نراهم يتحدثون عبر الفضائيات هنا و هناك .. متهمين فصائل المقاومة بنزعة المغامرة في سلوكها السياسي و مسارها النضالي بفرض أسئلة المرحلة على المجتمع الدولي و إرجاع قضية فلسطين إلى صدارة المشهد السياسي العالمي. فحسب هؤلاء لا نفع من مقاومة الكيان الصهيوني الغاصب و لا بد من المراهنة على " المفاوضات" لتدعيم مسيرة " السلام " المتعثرة في الشرق الأوسط. و هكذا، بمثل هؤلاء المحسوبين على الفكر و الثقافة و السياسة و الإعلام في الوطن العربي و" تنظيراتهم" عن مسايرة ما يسطره زعماء العالم الكبار.. تضيع حقوق الأمة و يقع استبعاد خيار مقاومة الكيان الدموي المغتصب للأرض و الإنسان و الهوية و الذاكرة.
•
•
• كم قدمت صديقتنا الأنثى الاستثنائية، الصحفية و الروائية المتفردة عن المسار الخياني و المهادن لبعض مرتزقة العصر الحديث، الذين فرطوا في حقوق أصحاب الأرض الشرعيين و دعوا في " كتبهم" و " مقالاتهم" إلى الكف نهائيا عن المناداة بالممانعة و المطالبة بلا هوادة باسترداد الحقوق و الإقلاع عن تهويد القدس و إيقاف حملات الاستيطان و تذكير العالم – أنظمة و شعوبا و نخبا – بشكل دائم بحق العودة. هذا المسار الإبداعي – صحفيا و روائيا – لهذه المرأة العاشقة لمناخات و طقوس الشرق، أليس جديرا بالاحترام و التقدير و التكريم، لجعلها قدوة للأجيال النسائية العربية الراهنة و القادمة؟.. ما يمكن تأكيده هو أن صحوة تنويرية، لا بد من هبوب رياحها اللواقح، في جميع الفضاءات التي تدخلها المرأة العربية المعاصرة، بغية المساهمة الفعالة في بناء مسيرة التنمية و العقلانية و التقدم و الحداثة التي تطمح إلى تشييدها المجتمعات العربية في جميع الأقطار..
• طوبا لك صديقتنا المخترقة لراهن المشهد، و لا خوف على بناتنا و أولادنا من بطش فضائيات الإغراء، طالما هناك في هذه الأمة المنكسرة الحالمة نساء تجاوزن مفاهيم الإنجاب و عشق المساحيق و الماكياج.. لا خوف على ذاكرتنا العربية من محاولات طمس الهوية المنادية بمجابهة الغزو بكل وجوهه و أشكاله، لأن الحبر الذي تكتبه هذه الأنثى، لا يعرف المهادنة و التخاذل و" تمييع " المفردات المطالبة بالدفاع عن قضية أهلنا في غزة و الضفة الغربية. بإمكان الروح هنا، أن تأخذ حقائبها و تسافر إلى تخوم الحقائق الموجعة، و لا يمكن إطلاقا نسف مجهودات يقوم بها رجال و نساء هنا و هناك، من الرباط إلى المنامة، من أجل إيقاف النزيف و إطفاء الحرائق التي أكلت البشر و الشجر و الحجر، لأن الجسد المكتوي بأسئلة المرحلة، لا يمكنه نسيان المتسبب في إحداث النزيف و إشعال الحريق.. و بإمكان امرأة النور أن تعطينا في كل لحظة دروسا لا تنسى في رفع التحدي و الذهاب كل صباح إلى أمكنة الحلم و النهوض.
التعليقات (0)