كلام الانطلاقة الجديدة: حركة فتح واستثمار الذات
رام الله -
بكر أبو بكر \
لم يكن الخيار الذي اتخذته حركة فتح خيارا عبثيا ، ولم يكن خيارا للتميز في سياق امتلاء الأنفاس بالشعارات الحارقة في محيط محطم ، بل كان خيار فتح الفكري والعملي مرتبطا برؤية تميز بها المؤسسون ، ومرتبطا بتجربة مرة لهم أجمعين مع التنظيمات الإيديولوجية العقدية. أن القرار الفتحوي المستقل كان خيارا ارتبط منذ البداية بإيمان المؤسسين بالحركية ورفضهم الانقياد للقوالب الجاهزة والأفكار المعلبة والنصوص الإنسانية المقدسة، وكان رغبة في التعبير عن التمرد على الواقع القائم الذي كانت فيه رائحة السلبية والتراجع والهزيمة والنقد والردح رائحة تزكم الأنوف . كان الخيار الفتحوي وعيا حقيقيا بالرابط النضالي القابل لشد كافة أجزاء الجسد بعضها ببعض ، وبذلك رفضوا الأدلجة ورفضوا أن يثقلوا ظهورهم بنظريات قد تبدو جملية على الورق إلا أنها سرعان ما تمزقها رياح الواقع وطين الأرض.سادت في الأرض ممالك فكرية مغلقة هي مملكة الشيوعية الفكرية أو (الاشتراكية العلمية) ومملكة القومية الشوفينية، ومملكة (الاسلامويين) وكلها ذات سياق مغلق اقصائى للآخر، طوباوي وخيالي الحلم لا تؤمن بوجود التقاطعات مع الآخر بل تجرمه وتتهمه ولا تراه يستحق الوجود. وان وجدت مساحات ضئيلة للتفاعل مع الأفكار المخالفة في بعض كتابات مفكري أي من هذه الممالك الفكرية العقدية فانها تضع ذاتها مقدمة على الآخر أو مهيمنة عليه، ولا شك لديها بصدقية نظريتها المطلقة، وقدرتها على تحقيق الأهداف وكل ما عداها يليها أو يتبعها أو يجب أن تذوب في إطارها وإلا فالسجن والاعتقال أو الاتهام بالكفر أو الرجعية أو المعاداة للقومية وأمال وطموحات الامة وفي التجارب الثلاث علقت المشانق ومات واستشهد الآلاف في وطننا العربي، بل الملايين على مساحة العالم. الوعي: إدراك وحرية وتمرد لقد شكلت الممالك الفكرية الثلاث في الوعي العربي عقلية التعصب لا الحرية، وعقلية الانقياد لا التمرد، وعقلية الانفكاك عن الآخر المخالف بالوعي أو الرؤية أو الفكرة، لتأتي فتح وتكرس ثلاثية (الحرية والتمرد والوعي النضالي) التي أثمرت فكر الوطنية الديمقراطي المرتبط بالأداة النضالية وبالاستقلالية وبالوحدة الوطنية. وها نحن أولاء اليوم نعود ثانية لذات الصراع المحتدم بين مملكة (الاسلامويين) على اختلاف مشاربهم وعدم توحد كلمتهم وتباعد آرائهم من اليمن إلى اليسار أو من الاعتدال (ومنه الاعتدال المدعى) إلى التطرف (ومنه التطرف المفترض) واحتكارهم لله والحقيقة معا، ومملكة العلمانيين أيضا بتعدديتهم ومحاولتهم سحب البساط من تحت أرجل مخالفيهم بادعاء امتلاكهم للحقيقة وقدرتهم على بناء المجتمع المدني لوحدهم ليصطدموا بالليبراليين كما يقول المفكر د . فهمي جدعان في كتابه الهام الخلاص النهائي. وما بين هؤلاء وأولئك تبرز فتح ثانية كفكرة ثاقبة قابلة للتقدم والتطور وهي إذ اختارت الابتعاد عن الأدلجة فلأنها تؤمن بحركية التاريخ واختلاف حوادث الزمن وتغير المكونات العقلية للبشر لذلك كان من السهل على حركة فتح أن تتبنى الديمقراطية وتقلص من حجم المركزية فيها، كما كان من السهل عليها ان تعتبر الديمقراطية تكنولوجيا سياسية وفق مصطلح (د.فهمي جدعان) أو أداة فرز في ذات الوقت الذي اعتبرت فيه الديمقراطية ثقافة أيضا يجب أن تترسخ كقيمة مجتمعية ، إذ لا يكفي أن يحكم الصندوق والأوراق وإنما يجب أن تسود المجتمع ثقافة التنوع والتعدد وعدم الإقصاء والاستبعاد ورجم الآخرين بالغيب والشق عن قلوبهم وإيمانهم وأفكارهم ، وتدميرهم لمجرد المخالفة بالرأي أو الفكرة أو الدين أو الطائفة ما هو ملازم لأصحاب الممالك الفكرية الإيديولوجية بطابعها الاقصائي والخيالي والتراثي أيضا ذاك الذي يفترض امتلاك الجنة في الآخرة والحقيقة في الدنيا،أو الاثنتين معا في الدنيا. الديمقراطية سلوك وثقافة : أن فتح التي آمنت بالديمقراطية سلوكاً وثقافة في الثورة وفي التنظيم وفي المجتمع الفلسطيني تواجه اليوم تنظيمات لا تقر مثل هذا الإيمان في عناصرها وأعضائها فهي تدعي الانقياد للديمقراطية وتعتبر في أدبياتها وفي تعبئتها لعناصرها أن الديمقراطية دين جديد لذا فهي ضد الإسلام وبالتالي مرفوضة، أو هي فقط للعلمانيين أو لا ينقع لها إلا الليبراليين ، وكل هؤلاء في ضلال مبين ، فكما كانت الديمقراطية العربية أو الإسلامية نتاج تاريخ عربي الإسلامي شوروي فهي تطور من ثقافة القتل والصواب الأوحد إلى ثقافة عمر بن الخطاب ذو الرأي المتغير المتطور والمتنور المرتبط بحاجات الناس والمستند لثقافته العربية الإسلامية. أن فكرة (الوطنية ) الفتحوية ليست – ولم تكن– انقطاعا عن المحيط الذي تعيش فيه، فالوطنية كتخصيص هي جزء من السياق العروبي، والوطنية كمفهوم هي جزء من الحضارة العربية الإسلامية، والوطنية كتركيز هي حصر مجال الصراع والنضال وتحديد أولويته بالقضية مثار السجال إلا وهي قضيتنا الفلسطينية. الوطنية كمفهوم وتخصيص وتركيز : إذن الوطنية تخصيص ومفهوم وتركيز في سياق أدوات نضال متعددة ومراحل متغيره . لذلك اختارت فتح الكفاح المسلح طريقا نضاليا ثم ألحقت به آليات وأدوات نضالية أخرى إعلامية وسياسية واجتماعية لتخلص في إطار تحديد المراحل إلى استخدام التنوع النضالي وفق ما أبدعته الانتفاضة الجبارة والانتفاضات اللاحقة ثم المواجهات الشعبية الحالية: أن الوطنية من حيث هي مفهوم فإنها تشكل الغراء الذي يربط المناضلين ويركز فعلهم ، ويخصص أدوارهم ضمن دائرة الصراع العربية-الصهيونية فلا تعلو هامة قضية أخرى على هذه ، فهي ليست تخصصنا وليست أولويتنا فنحن لا نتحدث عن كل العرب ولا نريد. ونحن كفتح لا نتحدث عن كل المسلمين أو المسيحيين ولا نريد، فهذا ليس جزء من شخصيتنا أو فكرنا الوطني، بينما تجد الآخرين وهم غارقين في المآسي يدعون تمثيلهم للإسلام أو المسلمين عامة، ويتعاملون مع الآخرين على ضعف عدتهم كإسلام وغرب كما فعل على سبيل المثال محمود الزهار في اللقاء الأمريكي في زيورخ هذا العام (2009) . إن التنظيمات الإيديولوجية لا تعترف بالحدود كما الحال مع حزب البعث وحزب التحرير وحزب الاخوان المسلمين والشيوعيين وغيرهم، وهي بذلك تحاول أن تلتقط حجرا كبيرا فلا تصيب وتبقى تراوح مكانها أو تتراجع خاصة متى ما ركبت سيارة الحكم الذي لا تستطيع أن تستمر فيه إلا بالدم والإرهاب والتسلط القسري دون ان تدرك أن لكل زمان دولة ورجال ، والأيام دول، وان دول التجبر والاستبداد بالضرورة الى بوار. شيخوخة مركز العالم يقول الكاتب عياد البطينيجي (أن الفكر صياغات عقلية نفسّر من خلاله الواقع ونحاول فهمة حيث أن الواقع يتغير ويتبدل) وعليه فان التنظيم أو القائد الذي لا يدرك التغيير يجمد عن حدود شعاراته وأفكاره المطلقة فيجد نفسه بعد سنوات خارج سياق التاريخ والناس لذلك فان (الاسلامويين) والعلمانيين والشوفينين من القوميين أصحاب العقائد المطلقة الاقصائية لا يدركون جدلية الزمان والمكان والحقيقة والتاريخ والمطلق والنسبي لذلك تفشل حينما تحكم أو تتحكم في مفاصل الأمور. أن مثل هذه التنظيمات (تنظر للماضي بأنه يجسد ما تدعيه من أطروحات وان المستقبل لهم هكذا بشكل اعتباطي وأن أهدافهم سوف تتحقق وان على إتباعهم الصبر، وهكذا يتحولون إلى مركز العالم (؟؟!!) وان العالم يدور من حولهم) كما يقول البطنيجي فيكون مآلهم الفشل والزوال لأنهم يدخلون في حقيقة الأمر( طور الشيخوخة). ان المشروع الوطني الفلسطيني الذي أسسته فتح مشروع يرتبط بأحلام وآمال وحاجات الشعب، كما يرتبط بالأمة من حيث أن القضية الفلسطينية فعل جامع وإطار رافع ولغة توحيد ومدخل يشد أجزاء الأمة ويحقق في مرحلة ما شكل من أشكال الوحدة المنتظرة. إن الوطنية مشروع فكرة وفعل تجسده على الواقع يعني الإعلاء من شان الأمة بتجسيد طموحاتها على الأرض فلا تبقى محلقة في السماء أو تظهر فقط عبر ألسنة لا قلوب المصلين حينما يؤمّنون على كل ما يقوله خطيب الجمعة فقط. علامات طيبة بعد المؤتمر السادس للحركة الذي أكد على الفهم والوعي الوطني وعلى الثوابت والتجدد، ضخّت في النهر مياه جديدة ، وبرزت علامات طيبة من التغيير في داخل الأطر من مثل اعتماد لغة الحوار أساسا للاتفاق، والتخلي عن التحاور الذاتي والتراشق عبر الفضائيات، والاستناد للنظام ومقررات المؤتمر والقرارات المتخذة أصولا ما تبدي في مجموعة من الفعاليات الفتحوية التي نرغب في المزيد منها مثل: - بناء جسر متين من التواصل عبر اللقاءات مع قيادات وكادرات الأطر المختلفة. - اللقاءات مع قيادات وكوادر المنظمات الشعبية والمكاتب الحركية والتي منها من لم يعقد اجتماعا من سنوات طوال . - عقد ورشات إعلامية هامة ستؤسس لخطة علمية إعلامية خلال ستة شهور. - رعاية النقد الفتحوي داخل الأطر ، ورفض الأساليب السابقة في النقد المفضي للإساءة لأنفسنا عبر الإعلام . - وحدة الخطاب واللغة التي ظهرت في كثير من الندوات والمهرجانات الحاشدة. - تنظيم سلسلة من النشاطات والمهرجانات خاصة تلك التي حصلت بذكرى استشهاد الرئيس الخالد ياسر عرفات رحمه الله ، والتي أكدت على الالتفاف حول فتح كما أظهرت قدرة الحركة على التفاعل مع الجماهير. - القرار الحركي بالبدء فورا بتنظيم المجالس الحركية، وغربلة العضوية، ووضع نظام للاشتراكات المالية، وإعادة ترتيب الصفوف في المنظمات الشعبية وفي شبيبة فتح في إطار وحدوي يمكنها أن تكون خلاقة مبدعة تطير بجناحين: جناح الإدارة الشبابية الفاعلة المرتكزة على البعد التحرري الفتحوي، وعلى جناح الفكر الوطني الوحدوي غير الاقصائي المرتبط بالمجتمع التعددي الديمقراطي الذي ينهل من نبع حضارتنا العربية الإسلامية. مسارات الكادر : أن حركة فتح تنظيم ثوري سياسي يسعى للحرية والاستقلال والدولة كما يسعى لتكريس العدالة والتنمية والوحدة والتعددية في إطار المجتمع المدني ، انها تنظيم التكنولوجيا الديمقراطية والثقافة الديمقراطية الذي يرحب بالآخر ولا يبتئس من المخالفين في ظل تحريم التكفير والاتهام والتشهير والانقلاب ورائحة الدم التي أزكمت الأنوف في غزة على سبيل المثال.أن هذا التنظيم يحتاج منا أن نكون من اليوم فصاعدا فضاء حركته ووقود عمله ومياه نهره ومفاتيح التغييرفيه ، واقصد بنحن أنا وأنت أي الكادر أو العضو عموما صاحب الرغبة في العمل والتغيير الذي يحتفظ بعقليته الايجابية، وهذه العقلية لا تظهر بوضوح إلا حيث الملمات تحيط بنا، لذا فالكادر مدعو لعبور المسارات الخمسة التالية كما يلي: - أحب وطني: مسار المحبة للبيئة والعائلة والأصدقاء ، فلن اسمح لأحد أن يخطف مني قلبي لأي سبب. - أنا أفكر و أتامل: وكذلك أبحث وأقدر، لذلك أنا حر فلن اسمح لأحد أن يمنعني من التفكير والحوار بأن يحتل عقلي باسم القومية الشوفينية أو الدين أو العشيرة أو مطلق الصواب. - أنا مؤمن بالله: فلن اسمح لأحد أن يحتل روحي أبدا، لان علاقتي مع الله لا تحتاج لوسيط (ونحن قرب إليه من حبل الوريد – ق16) ، ولا يحق لأحد أن يحكم على حجم إيماني. - أنا واثق من نفسي: وأنا عامل ومنجز، فلن اسمح لأحد أن ينتقص من شخصيتي، أو يسئ لي، فرغبتي-وارادتي وعملي- في خدمة بلدي وحركتي (فتح) وأهلي مما أتشرف به طواعية بلا مقابل . - أنا استطيع لأنني قادر: فلن اسمح لأحد أن يحد من قدراتي أو يحجّمها ، فأنا قادر وأنا ايجابي وأنا متفاعل، وأنا من يستطيع أن يبدع ويستكشف، وان يجدّد ويغيّر في ذاته وفي الآخرين. المهمات الخمس الرئيسة لفتح أن حركة فتح تحتاج في سياق بنائها الداخلي إلى مهمات عدة منها خمسة مهمات نراها رئيسية تؤديها دون إهمال النقد وتواصله في سياق الإبداع والعمل وضمن الأطر التنظيمية لا الفضائيات والملتقيات والمواقع أبدا، وهي: المهمة الأولى:رسم مساحات أوسع للخطاب الموحد وتضييق مساحات التباعد الداخلية، وإعادة رص الصفوف في نطاق الخطة الفتحوية العامة، وفي الإطار السياسي الذي عبر عنه الأخ الرئيس أبومازن في نقاطه الثماني، وتحركاته الدبلوماسية لرسم حدود الدولة القادمة، وتحركه العالمي لحشد الدعم والتأييد. المهمة الثانية::لزوم توثيق الارتباط بالجماهير في سياق خطة لا تستثني فئة ولا تعلق العمل مع فئة، بل تجعل حركة فتح في الميدان -عبر كوادرنا في الأقاليم فما دون من الأطر- قلوبا مفتوحة وأطرا داعمة واتصالات لا تنقطع مع هموم الناس اليومية أو الوطنية العامة . المهمة الثالثة: تحديد العلاقات ورسم المسؤوليات وتوزيع الأدوار داخل الأطر عامة (الإقليم/ المنطقة / الشعبة بل والخلية ، وفي نطاق المكاتب الحركية ....) ووفق النظام الداخلي أو ما يتسق معه ، حيث يلزم أن يكون لكل عضو مهمة أو تكليف أودور، وحيث يلزم أن يعرف كل عضو مسؤوله ليقدم له رؤيته وتقاريره. وفي مثل هذا التوزيع الهيكلي النظامي يكون للإدارة الواعية المرتبطة بالخطة وبالمتابعة شأنا أساسيا، فالانقطاع هو المرض الإداري القاتل حيث تبقى المهمات دون متابعة أو لا تصل لمنتهاها من خلال معرفة ما تم انجازه عبر التقرير والمحاسبة والمساءلة التي تستدعي عنصر(الانتباه) من العضو والكادر والقائد في علاقة تبادلية صاعدة ونازلة ليست في اتجاه واحد فقط. المهمة الرابعة: ضرورة استثمار الكوادر خارج الأطر الحركية النظامية ،على اعتبار أن كل عمل يقوم به العضو الحركي بما فيه العمل الوظيفي هو عملية تنظيمية أو تكليف تنظيمي يمارس فيه فتحويته بالتنظير للحركة لا بالشتم أو النقد الخارجي لها وبالاستقطاب وجذب الجماهير من حولها ، وبوضع نفسه أمام المسؤولين خادما للحركة والشعب . والمهمة الخامسة: جني المحصول، فالقدرة على تحويل المبادرات أو الانتصارات الفردية الجماعية الصغيرة إلى ثمرات تُجمع لتصب في معصرة الحركة هي قدرة كبيرة وليست سهلة، فحيث خبا نجم أي فعل أو مبادرة أو انتصار تخسر الحركة، وحيثما تم مراكمة كل ذلك تظهر الحركة قوية عملاقة بكافة هذه الجهود، وأحسبنا في حركة فتح نحتاج لأن نتعلم كيف نوزع الأدوار دون الاستئثار، ولأن نتعلم كيف نستثمر الكوادر دون إقصاء أو اكتفاء بما لدينا، ونحتاج للمراكمة وجني المحصول وإبراز ذلك في الإعلام كمقدمة لصنع الصورة المشرقة والحقيقية للحركة.
التعليقات (0)