إيديولوجية الحداثة بين الواقعية والشطح(2)
العدد 19
الحداثة العربية:
لا أعتقد أن الحداثة العربية تستحق وقفة نظرية تحليلية، تشرح تصورات روادها حول المصطلح ومنطلقاته، وما يرد عن بعض العرب المنظرين لها: أدونيس وأنسي الحاج وأصحاب مدرسة شعر لا يبدو لي أكثر من اجترار تقليدي ومحاولة عابثة لاجتلاب بضاعة مزجاة لا سوق لها عندنا.
و لا أعتقد أن (الحداثيين) العرب عندهم ما يستحضر غير عدائهم لمشروع نهضة الأمة، والارتباط بالغرب سياسيا وفكريا.
وقد أثبتت مواقفهم ذلك، وفي هذا الجانب يمكن أن أنقل ما خلص إليه باحث في هذا السياق، حيث حصر التجربة الحداثية العربية في هذه النقاط:
"لقد فشل الحداثويون:
أولا: عندما تماهوا في الخطاب الاستعماري بل الصهيوني، واعتبروا المقاومة من أشد أعدائهم. وسلوا أقلامهم، وطوعوا وسائل إعلامهم المرئية والمكتوبة في محاربتها خدمة لأعداء الأمة.
ثانيا: عندما نصبوا أنفسهم معاول هدم لثقافة شعوبهم وأمتهم، وانتقصوا من تراثهم، وحاكموه بمعايير عصرنا، لا بالمعايير التي كانت سائدة في ذلك الوقت. وهو تجنٍّ يحمل مغالطات كثيرة وعلى أكثر من مستوى.
ثالثا: عندما عملوا من حيث علموا أو لم يعلموا على خدمة الأهداف الاستدمارية للآخرين، في بلادنا الإسلامية. يهادنون من تهادنه الإمبريالية الغربية، ويحاربون من تحاربه، وتبنوا مقولاتها حتى فيما يتعلق بنمط الحياة الذي يجب أن يسود في مجتمعاتنا.
واليوم نجدهم يدعون للمثلية الجنسية، وللعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، ولتدمير العلاقات الاجتماعية والأسرية القائمة على أساس الثقافة الإسلامية، وتجريم المبادئ الإسلامية في هذا الإطار، كما لو أنها هي المسؤولة عما يجري من انحرافات أسرية!. بل اتهموا الإسلام بشكل مباشر وغير مباشر بالمسؤولية عن العنف الذي تعاموا عن أسبابه الحقيقية، ودور السياسات الداخلية والخارجية في تأجيجه، ومن بين ذلك مقولاتهم ودعواتهم وسياساتهم وما يتخرصون به ضد الإسلام ومبادئه."([1])
النص الحداثي لغة وأسلوبا
يبدو أن جزءا كبيرا مما يكتب ويوضع ظلما تحت خانة الشعر أصبح يكتب لتحقيق هدف واحد، ألا يقرأه أحد.. تلك هي أول طريفة تفجؤك وأنت تتناول النصوص الحداثية من مشرق العروبة إلى مغربها.
وما تزال صيحة الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش التي أطلقها في بداية الثمانينات ترن في الآذان: أنقذونا من هذا الشعر!. وكان ذلك في بداية الموجة المتهتكة التي ابتلي بها الشعر العربي الحديث، أما الآن فقد طمى السيل حتى غاصت الركب كما قال إبراهيم اليازجي، وأصبح الأمر يقتضي صرخة جماعية مدوية لإنقاذ شعرنا العربي من الفراغ ومن تطفل قليلي الموهبة وقليلي الأدب معا.
والأغرب من هذا الاستنتاج الحتمي في طبيعة الشعر الحداثي المعمم الذي تخفى أسراره على دهاقنة اللغة والبلاغة.. ولا تستسيغه أذن واعية إلا بعد أن تكدس فيها الصمم ولفها الطمم. أقول: الأغرب في هذا أن أصحاب هذا النمط الشعري، لا ينفكون يتناولون النصوص الشعرية القديمة بالسلخ والقدح والتقزيم؛ زاعمين بأن الحداثة ثورة على القديم، والقديم شر بكليته ووباء يجب التخلص منه ودثره.
ولا يتوقف أمثال أدونيس الذي فعل كل ما لا يتصوره العقل للحصول على نوبل عن سب الكبار! بل يتطاول على القرآن الكريم والدين الإسلامي معتبرا أن الشعر الحداثي جواب على ما لم يسبق إليه الأولون، ثم يقول في زمن الشعر: إن القصيدة الحديثة تتطلب من القارئ أن يرتقي إليها لا أن تنزل هي إلى القارئ، وقد بقينا هاهنا، لا نزلت القصيدة ولا صعدنا، ولا الرجل سكت هو وقبيله. فبأي شيء يبشر أدونيس وزبانيته، وما الشيء الفوقي الذي يريدنا أن نصعد إليه.. اقرأ معي هذه الأبيات لرمز من رموز الحداثة وانظر إلى (الصرح الأدونيسي العجيب) الذي يدعوننا أن نعرج إليه:
"الطواويس والريشة الذهبية تلمع في
شمس عاصفة تتقلب بين هدوء من الصحو
والغابة المظلمة/
معي الماعز الجبلي المرنة في القوس
نسر السماوات، والذهب المطر، العنبر
المتورد بالدهشة اشتعلت فوق صفحته النار من
شرر ونبال وريش الصقور."
أهذا هو النمط الشعري العُلْوي الذي يسبح الحداثيون بحمده!؟
لقد (قام الشعر عند العرب مقام العلم، بل كان يمثل دور الراصد لكل حالات المجتمع والحياة، وقد تعددت وسائل تلقي العربي لمختلف أنواعه. ومن أبرزها القصيدة القديمة... فهل يطلب منا أدونيس وصحبه أن نخلع ربقة العلم من عقولنا ونعود إلى أتون الجاهلية الجهلاء بغيها وجحيمها لنصبح حداثيين!؟
إن المطلع على تراثنا الشعري القديم يلفت نظره وجود علاقة واضحة بين... الوسائل والنص الشعري القديم، وهذا ما انطلقت به مجموعة من النصوص التي أوردتها المصنفات النقدية والدواوين الشعرية سواء على لسان المبدع (الشاعر حينما كان يقرأ نصه على المتلقي، أو يطلب منه أن يقرأ نص غيره، أو على لسان المتلقي حين كان يرغب في سماع أبيات تنشد أو تغنى بين يديه، أو حين يطلب أن ينشده أحد إياها أو يغنيها في لحن جميل.)
إن هذه العلاقة الحضارية بين النص المصوغ والفهم العملاق في واحة الإبداع العربي في عصور الإبداع الذهبية هي التي حفظت للذائقة الشعرية مكانتها، وللمستوى النقدي مكانته، وظل الشعر بخصوصيته الموسيقية ودفقاته الشاعرية يشكل نمطية نصية تغاير النصوص الأخرى حتى لو كانت من الناحية الفنية لا يستهان بها كالخطبة والمقامة.. وحتى حينما يقدم لنا أصحاب هذا النهج قصائد تبدو من خلال عنوانها أو من خلال النص الإضافي الذي يقترحه الكاتب – قصائد وطنية تأتي ممجوجة سمجة لا تناسب روح القضية ولا تنسجم مع طبيعة النص الجهادي المقاوم، ولك ان تقرأ إن شئت قصيدة أدونيس (أبو الحداثة العربي): ( أفصحي أيتها الجمجمة -تحية للموت الفلسطيني)
"أفصحي، أنت أيتها الجمجمة!
شَحْمُ هذي السّماءِ كثيفٌ، وأزرارُها
تتفكّكُ في غابةٍ مِن شظايا.
أذرعٌ يتخاصمُ فُولاذُها وَإسمنتُها،
والعناصِرُ مخبولة تتخبّطُ
ما هَذهِ اللغةُ المُبهمهْ!؟
أفصحي أنتِ، يا هذهِ الجُمجمهْ!
شاشة لقياس التوحش عندَ الملائكِ، بَعدَ
السقوطِ إلى عالَم يدبُ على بطنِهِ.
لازوردُ السماءِ وطينُ البَشرْ
مَسرَحٌ لهباءِ الصورْ.
للغُبارِ الذي سنسميهِ ضوءا وللصورةِ الآدميّهْ
لَبستْ أنجمُ اللهِ في ليلها البَدويّ
سَراويلَ أعراسِها:
عَضَلُ الأرضِ مُستنفرٌ
والغرائزُ في نشوَةٍ كوكبية.
نصفُ ثَورٍ ونصفُ حِصانٍ
يَرضعانِ معًا ثَدي تُفاحةٍ
ـ (ربما ذكّرت بعضَهم
بغواية حوّاء) ـ حواءُ مُذاكَ في رِحْلةٍ
لم تعدْ بعد منها. سياجٌ"
نحن لسنا ضد التكثيف والرؤية، لكنا لا نعتقد أن التعمية والهلوسة شيء مشرق في بنية النص؛ فالنص استعلاء هيكلي من خلال علاقة مبرمة بإتقان بين الشكل والمضمون، وما لم تكن للبنية قيمة دلالية تحفظها أضحت تلك البهرجة اللفظية سفسطة وغوغائية.
وإذا كانت البلاغة تستدعي تعمية فما قولك في بلاغة القرآن التي يسرها الله للذكر فهل من مدكر!؟.
إن شعرنا العربي لن يشفى من انزالاقته ما لم تعد له حيويته المستنبطة من قيمه الغنية التي انفردنا بها، ولا حاجة لنا بتقليد لا يحمل في طياته إلا تغريبا وتشظية وتمزيقا لا ينسجم مع هيكلية لغتنا المشرقة.
[1] انظر: عبد الباقي خليفة، الحداثيون العرب، أعداء الإسلام وأنصار التبعية، موقع المسلم : http://almoslim.net/node/126751
التعليقات (0)