يستيقظون قبل الصباح ليرفعوا الستائر عن وجه الشمس فيحملون ضوءها بأكفهم إلى مسار الأرض ويتأبطون همومهم ومرارة أيامهم وكمية من بضاعة صارت جزءاً من أجسادهم . يفتحون أبوابهم القديمة ، فتصدر صريراً من الصدأ وكأنه أنين زمن من الإهمال ويخرجون. لتبدأ رحلة السير اليومية على أرصفة الخبز البعيد ، منهم من يجر أثقالاً من العمر ، وجسداً أنهكته السنون وينطلق. ومنهم من يحمل إعاقته فوق جسد مريض ، ومنهم من لا يستطيع حتى أن يحلم (برفاهية) الأنين . تآلفوا مع لهيب الشمس وصقيع البرد في بعض الأوقات فلم تعد زخات المطر تخترق عظامهم ولا وقت لديهم للوقوف في محطات الفصول. تمتد الشوارع تحت عجلات أقدامهم ، تنهب الإسفلت الذي أكل جزءاً منها ، وأحياناً تشتمهم أنفاسهم اللاهثة لشدة شقائها معهم ، فحواسهم دائماً مستنفرة لالتقاط إشارة مناداة قد تحمل لهم الرزق. ينادونهم بإسم بضاعتهم أو بألقابهم الموروثة.
يقف الزبون وتبدأ مرحلة المساومة على السعر ، وينطلق سيل من (الحلفان) بالله والأنبياء وكل الكتب السماوية وبأولادهم لأقناع الشاري أن السعر مناسب ليس فيه الا القليل القليل من الربح. تتكرر حكاية البيع والشراء وتضيف إليهم مزيداً من القهر والتعب. سقف حلمهم التخفيف من ثقل ما يحملون وتعويضه بشيء من المال قد يشتري ربطة خبزٍ أو دواء أو كتاب. يا لقناعتهم التي هي الشكر والحمد لله على ما أنعمه عليهم في يومهم حتى لو كان هواء يتنفسونه ليبقوا أحياء.
إنهم الباعة المتجولون بولاية كسلا بمحلياتها المختلفة ، الذين نراهم في الأحياء والساحات والشوارع . ولكن لم نحاول مرة واحدة أن نتساءل هل هذا العمل المضني يكفيهم ويسد حاجتهم وحاجة عائلاتهم ؟ ما هي تفاصيل معيشتهم التي يعجز عنها أي إنسان في زمن الغلاء والإهمال وفي ظل انهيار القيم والإنسانية؟ هل سألنا أنفسنا ماذا وراء هذا الإنسان من حكايا؟ وما سر سباقه مع لقمة العيش؟ تلك اللقمة الأغلى ثمناً على الإطلاق.. لأنها مغمسة بالدم والعرق والشرف.
حكايا وحكايا تختبئ وراء هؤلاء الباعة ، وكلها مؤلمة وحزينة قبل أيام وأنا أجول بسوق ودالحليو أرض ميلادي أتيتها زائراً ومتفقداً بعض مناطق الفيضانات فيها أعرف أني لن أقدم شيئاً ولكن يكفي أن أعكس لهم معاناتهم وقهرهم وسوء حالهم لوسائط الإعلام بقدر ما أستطيع إلى ذلك سبيلا وخلال هذه الزيارة القصيرة التقيت بالكثيرين منهم ، وكانت حكاياتهم متشابهة ، فالبؤس له وجه واحد لدى كل البشر بالفعل وجدت ذات الشيء عندما عدت لمدينة كسلا ودون أن تشعر بي بعض الجهات التي تقف دوماً حاجزاً منيعاً بين الحقيقة والتضليل بواقع الناس في ولاية لا تشبه معاناتها ولاية أخرى ولا شعب يشبه في حالة القهر والإذلال والظلم الذي يحدث يوم بعد يوم مثل شعب الوريفة الذي يقبع في حالة يرثى عليها خاصة في الآونة الأخيرة مع عهد محمد يوسف أدم هذا السونامي الذي يتولى زمام أمرها .وهنا أنقل إليكم بعض ما سمعت من قصص هؤلاء الباعة الذين أقل ما يستحقون أن يوصفوا به بالشرفاء فإن لم يكونو هم الشرفاء وإخوانهم من باعة المهن الهامشية الأخرى فمن سيكون .
هنا بائع بمدينة كسلا يحمل على كاهله بعض الفواكه عمره 57عاماً ، به ألم من جراء عملية استئصال ورم من رئتيه ، ويحمل فواكهه ويسير يومياً ثلاثة عشر ساعة تبدأ من السابعة إلى السابعة .. لقاء بيع ما يحمل من قفة ليكسب منها بعد سداد قيمة الفواكه ما بين 11-15جنيه وأحياناً قد تقل ، لديه أولاد يعانون البطالة والفقر ولديه إبنه الأكبر مقعد كان مريض منذ أن كان عمره 10سنوات توفى بعدم قدرته على علاجه قبل عام من الأن . كل هذه المعاناة أكد لي بأنها بسبب سوء الوضع المعيشي والغلاء ، وهو بحاجة للدواء والعلاج ، لذا عليه أن يعمل بكد لتأمين ما يبقيه، على الأقل، حياً هو و أبناءه الذين ترك إثنان منهم التعليم يعملون باعة متجولين معه بالسوق لأجل تعليم إبن وإبنة فقط من بين السبعة أبناء فسألته: ماذا تحلم الآن؟ قال لي: أحلم بأن أكون في غرفتي وعلى سريري فقط.
وهذه قصة بائع آخر وجدته أيضاً بسوق كسلا فهو شاب في الخامسة والعشرين من العمر، ولكنه لشدة هزاله وضألة جسده تظنه في العاشرة ، بسبب إعاقته الجسدية اقتربت منه وكانت تقف بجانبه سيدة ترتدي ثوباً أبيض تجادله على ثمن (كيس الطماطم) ، وتهز يدها بأساورها الذهبية وخواتمها ذات الحجم الكبير (موظفة حكومية) وهو يتلو القسم وراء الآخر بأنه لا يبيع أغلى من غيره ذهبت منه دون أن تشتري بعد أن أشعرته بأمل الشراء. لاحت مني التفاتة فوجدت قدمه المعاقة يسيل منها قليل من الدم ، قال لي و وجهه ينبض بالوجع: لقد مشيت على قدمي كثيراً وهي ملتهبة ، إنها بحاجة للراحة والدواء .. ولكن أختي المريضة لا تنتظر... عرفت منه أن أهله ماتوا منذ سنوات وهو أتى لكسلا بحثاً عن لقمة العيش من إحدى قرى ولاية القضارف ، وله أخت مقعدة أكبر منه ، ولا معيل لهما ، وأنه يعمل ليؤمن لها حاجياتها من دواء وغذاء رغم إعاقته فليس لديه هوية ، إنه مكتوم القيد ، جاء إلى كسلا بعد أن ضاقت به الحياة في ريفي القضارف . يحمل معه أخته الأكبر وأخته الأصغر التي لحقت بأهلها للرفيق الأعلى بعد عام من وصولها مع أختها وأخيها لدرة الشرق ، وهو يكمل مشوار البحث عن ما يحفظ الحياة في وطن أصبح غير قادر لتحمل أبناءه لفظهم للخارج ليعيشوا غرباء بحثاً عن حياة أفضل وكرامة لإنسانيتهم بعد أن دنستها سياسات نظام الإنقاذ .
وهذا بائع عجوز إقترب من السبعين عاماً وربما أكثر ، يعلق في عنقه صندوقاً صغيراً، يضع فيه إبر خياطة ، خيطان، مقصات أظافر، أقلام، وغيرها من الأشياء الصغيرة التي خف حملها وخف سعرها ، يسير ببطء شديد وكأنه طفل في بداية مشيه دون أن أشعر وجدت نفسي أسأله: أبي أين أولادك؟ لماذا يتركونك تعمل وأنت في هذا العمر؟ وليتني لم أسأله كان جوابه دمعة سالت كالجمر على وجه ترك الزمن كل بصماته الحزينة عليه ، وقال: كان لي أربعة أولاد وبنت وزوجة ومنزل ، قتل ثلاثة من أولادي مع والدتهم في الحرب التي مضت هنا في هذا الشرق المكلوم، واختفى إثنان، لا أعرف عنهما شيئاً حتى الآن، ومنزلي دمر، ومنذ ذلك الوقت أعيش لوحدي ، أدور في الشوارع فربما ألتقي بأحد أبنائي ، وأبيع بعض الأشياء حتى أحصل على قوت يومي، و شكرا لله على نعمته .
وهذه قصة رجل في الخمسين من العمر، مهنتة ورثها عن والده ، يذهب بعد الفجر بقليل للسوق ليقوم بفتح موقع عمله تحت ظل شجرة بالضفة الغربية ليُعد لإبنه المراحل الأولى من إعداد ( الأقاشي ) ويترك إبنه تحت الشجرة يكمل ويبيع الأقاشي وهو يذهب إلى سوق المدينة ويبدأ مسيرة النهار المضني مع عربته (الدرداقة) التي صارت جزءاً منه . دائماً هو في سباق مع الوقت خوفاً على بضاعته من أن تفسدها حرارة الشمس ، تراه يعمل رشها بالماء كل حين كالآلة ، تسحرك أنامله برشاقتها وسرعتها وهذا لديه عائلة مكونة من ستة أولاد ، يعانون البطالة ، كبيرهم معوق، يعود اّخر النهار متكئاً على عربته الفارغة ويجر قدميه بتثاقل من شدة التعب ، يعود مع ما جناه من عمل النهار، الذي لا يكفي ثمن طعام لعائلته وهذا بعد أن يضيف إليه بعض ما باعه إبنه تحت ظلال تلك الشجرة فأين بقية متطلبات الحياة الأخرى؟ سألته ماذا يتمنى من الحياة؟ فقال: الصحة وغرفة تكون ملكي آوي فيها عائلتي وأرتاح من دفع الإيجار .
تلك كان بعض مما سمعته بأذني منهم حاولت أن أعكسها لهم فقصصهم ومعاناتهم لا تنتهي ومع كل حكاية سطور من المآسي تكبل حياتهم بأسلاك من القهر والدموع في عهد دولة تتحدث عن أنها إسلامية لم يدري حاكموها أن العدل بين الناس أساس الحكم فأين العدالة الاجتماعية أوا ليس هؤلاء هم من بني السودان . إن أصبح النظام فاشلاً في توفير أبسط مقومات الحياة والعيش الكريم لأمثالهم فليذهب وليأتي من يرحمهم ولكن تذهبوا ويذهب بكم الواحد الأحد من فوق سبع سماوات الذي حرم الظلم على نفسه و حتى تشبع بطونكم التي تأخذ حق هؤلاء المغلوبين إتركوهم يعملوا وأوقفوا عنهم هذه المحليات التي وكأنها أقيمت لأجل التضييق على الناس وإكراههم العيش في وطنهم ، وقد قيل في مثل هذه الحالات بأنه إذا رأيت فقيراً في بلد المسلمين فتأكد أن هناك غني سرق ماله والأغنياء في وطننا هم الذين يبنون الشواهق داخل وخارج الوطن ويخفون العملات الصعبة في منازلهم ويركلون العامة بسياراتهم الفارهة ذات الدفع الرباعي . إرحموا من في الأرض لكي يرحمكم من في السماء هذا إن كنتم تؤمنون بيوم الحشر يوم لا سلطة ولا أجهزة أمنية تمنع الناس الحديث يوم لا مال يكمم الأفواه يوم يلتقي الظالم والمظلوم أمام خالقهم العادل الذي لا يُظلم عنده أحد الذي أمر بالعدل و الاحسان فأسمعوا وعو فسوف لن يمنحوكم في ذلك اليوم السلام وسيطلبوا من خالقهم القصاص والحساب لمن أفقرهم وتركهم للشمس وصقيع البرد وتركهم يلاقون الموت مرضاً ولم يعدل فيهم ولو لمرة .
التعليقات (0)