مواضيع اليوم

كجراي .. قتلناه وسرنا في جنازته !! الحلقة الثانية

 
في الحلقة الأولى توقفنا عند تردده على دواوين الحكومة فقد تيسر للشاعر كجراى الحصول على معاشه وغادر الخرطوم إلى قريته الهادئة ( عواض ) التي تقع على بعد كيلو مترات من مدينة كسلا عند حدودنا الشرقية . ومن عواض انسابت إسهاماته الشعرية المتفائلة

( فبكيت من قلبى أفقت من الذهول
رأيت لم أبصر سوى الصحراء
حين تفر من أعماق خاطرها الظلال الوارفة
أحسست أنى سوف أهرب من دمى
ما ذلت أقتحم العواصف تحبل الرؤيا على فلبى
فتنطلق البشارة من فمي
( 18 )
وبحكم أساس ثقافته نهل من فيض النجوم البازغة الطهطاوي ، الأفغاني ، محمد عبده ، ومن القبس الذي استمد نوره منها العقاد ،وطه حسين ، وعاصر جيل التيارات المتصارعة من الخليج إلى المحيط والذي التقى في بيروت ودفع للمكتبة العربية بحواراته وإبداعاته في الأدب والفن ، صادق البيوت وحكمت ولوركا . ونيرودا وشارك في تظاهره الشعر التي بدأت من العراق ، نازك ، السياب والبياتى حجازي وعبد الصبور في مصر .
( 19 )
( بلاغة الاستهلال هي نوع من المطالبة بالانتباه منذ البداية وإعداد الذهن لنوع خاص من التلقي ، هو شأن الشعر في العصر الجاهلي يتحدث الشاعر عن العالم في الوقت الذي يتحدث فيه عن الشعر في لغته ، والقصيدة تلفتنا إلى حضور عالمها والعالم المغاير الذي تولدت منه وتوجهت إليه فتفرض حضورها على وعينا وتنتزعنا من الحذر الدلالى إلى الدلالية
التي تنطوي عليها ومن تشتت الإدراك إلي وحدة العالم الجمالي الذي بنته القصيدة بطريقة متفردة ) ويقول كجراى في قصيدة ( تباريح الغرام المزمنة )
مرت الأيام والبحر يغنى لجميع الأزمنة
يتغن النطق بكل الألسنة
صرخة النورس تمتد
زفير البحر يشتد
وصوت الموج .. صوت الريح
يجتاح جميع الأمكنة
يغسل الموج تفاصيل الهموم المحزنة
ترقص الأضواء في مرآة هذا البحر
عادت الذكرى لأيام الهوى
لست ادري مر دهر أم سنة
شغلتني بنت كانت للصباحات
تغنى مذعنة
رقص القلب وما كان سواها
يشغل الأعماق في كل ألدنا
طرقت باب الهوى في لوعة
اتخذت من قلبي العاشق دهراً موطناً
آه يا فتنة قلبي
ما الهوى إلا تباريح الغرام المزمنة
ظروف شديدة القساوة مر بها الشاعر كجراى عبرها والابتسامة لا تفارقه وعبر عن تلك الظروف بقصائد مملوءة بشراً وأملاً وبشارة لكل الإنسانية مؤكد أن ربيع الإنسانية آت وإحلال الكمال على وجه الأرض وآت واعصرنا الذهبي أمامنا لا خلفنا إنها قصائد ( كطائر الخير ) الذي عاد إلى سيدنا نوح عليه السلام وفى منقاره غصن زيتون دليلا على انتهاء الطوفان وبداية الطمأنينة والسلام .
بعد سنوات من الإحالة إلى الصالح العام أعيد للعمل حتى بلغ سن المعاش الإجباري . وبعد تقاعده
هاجر إلى اريتريا ليقدم مساهمته في مجال التعليم والصحافة ، إلى أن عاد إلى مدينته الأثيرة ( كسلا ) (( يحلم باستراحة المحارب ))
وعلى غير انتظار تناقلت وسائط الاتصال نبأ مرضه واحتياجه لعلاج عاجل وعناية مكثفة حيث أمضى فترة علاجيه بمستشفى ساهرون بالخرطوم ، خرج منه كما أتى بذاكرة تعود وتختفي ويدخل في عمق أيام التجاهل حتى وفاته في السابع من أغسطس 2003م له الرحمة .
الصَّمت والرماد
كُخواَءِ مقْبرةٍ تعيشُ على سدِيمْ
تجتْرُّ مهْوىَ الذْكريات تثَاؤُباً ...
من أْلفِ عامٍ تمضُغُ الأحْقاَدَ ،
تُفْرِزُ حُلكَة الليل البهِيمْ
ويجُوسُ في عَتمَاتِها صَمْتُ أليمْ
صمْتُُ لهُ لَوْنَ السَّديِمِ ونكهْةَ الأبَدِ القديِمْ
كانت حياة الآخرينْ
وحياتنا ،
وهْماً كأصداءِ الخُطَى
في جبْهة الأُفقِ البعيد ، متاهةً للعابرِينْ
صَمْتاً تجسَّدَ في عيُونِ الحائرِينْ
أْصدَاءَ ملْحَمةٍ
وأْشباَحاً تجُوسَ الدَّرْب تسْخَرُ من حياة الآخرينْ
وعيُونُهُمْ ،
مصْلُوبَةُ الأْحداَقِ تُمْعِنُ في الفِراَرْ
تَرْتُادُ أودْيِة السَّرَابْ
تلُوذ بالوَهْمِ المحُنَّطِ في تُراثِ الغابرِينْ
فَمَنِ الذي سَيشُقُّ أوديَة الصُّخُورْ...؟
ويهزُّ أعمْاق الجذُورْ
ويلقِّحُ الأرْضَ النَّديِة بالبراَعِمِ والبذُورْ
وَحْدِي معَ الموتَى أصيحُ .....
أَكَانَ حَتْماً أن أَذُوبْ..؟؟
أَترَى أعيشُ لأشْهدَ الموْتَى يشُقُّونَ الدرُّوُبْ
ويُبَاركُونَ بُحيرَةَ الحقْدِ المقَدَّسِ في ابتْهَالاتِ
الغُروُبْ
شَلاَّل نهْرٍ جامح الوثباَتِ هدَّار العُيونْ
ويمزَّقُونْ
أكْفَانهُمْ
تلْك التي اهْتَرَأتْ نَسِيجاً من رَمَادْ
أَترىَ سَيَنْتَفِضُ الرَّمَادْ .؟؟
(ديوان الصمت والرماد ص ((9)) 29/3/1959م)
بطاقة إلى أكتوبر
تزورنا في كل عام مرة واحدة كالضيف
فنحتفي بمقدم الحزين بطيف الغائب الذي مضى
محترقا على رمال الصيف
قد كنت أنت السيف
أواه يا أحبتي تكسر المقبض في الأيادي
وحل في الساحة ظل الزيف
صوتك كان يشجب الهوان
عطرك كان دغل أقحوان
لونك كان سيد الألوان
في كل عام تنكأ الجراح
وتورق الكآبة
يرن في القاعة صوت الذل والضياع
يعزفه الأسى على الربابة
نعرفه ذاك الذي يحملنا
على جناح الخدر المسموم في برودة الرتابة
فتجحظ العيون في استغراق
ينتثر الرماد عبر لحظة احتراق
وهانا أبحث عن بقية الرفاق
ليتك ما عدت لنا
ليتك كنت أملا نلهث خلف ظله
نحلم بالبهجة عبر لحظة انطلاق
هانت في المتحف مومياء
والزائرون نحن غير أننا لا نعرف البكاء
نضحك في بلاهة تدعو إلى الرثاء
فاغفر لنا فإننا حفنة أغبياء
وأننا قطيع
يسوسه الرعاة في ثياب أولياء
1966م
(1)
قال أبو آمنة حامد : ( كجراي إنسان مرهف رقيق بتراد ) فبالرغم من أنه لم يتخلي عن دوره الطليعي في تاريخ أمته عبر همه السياسي ، لم يهمل جانبه الذاتي المرهف والرقيق والعامر بالمودة وبالصبابات والعشق النبيل .
وعلي غير انتظار
بسمة الزنبق من بين الشجيرات الوريقة
جاء يستقبل أضواء الحديقة
حوّم القلب عليه ومشي
خطوة أو خطوتين
أنا من رعشة أعماقي مغلول اليدين
(2)
لقد اشار لهذا الجانب الذاتي د.محمد مصطفي هداره ، في كتابه ( تيارات الشعر العربي المعاصر في السودان ) حيث قال : ( أما جانبه الذاتي في ديوان "الصمت والرماد" تنعكس عليه صورة الإنسان وصورة المجتمع وقدم بعض الأبيات من قصيدة " العائد من صحراء التيه " أنموذجاً لذلك :-
وكسْرتُ أطواقي وسِرتُ أليكِ
في بحرٍ من الظلماتِ مبهُور العيونْ
قد كان يطفو في عُبَابِ الموج ِ قاربيَ الحزينْ
من رحلةِ المجهُولِ يْقَتَحمُ الشواطئ في ارتِعاشاتِ المغيبْ
قد عادَ فارِسُكِ الحبيبْ
يا نجمةٍ كانت علي الأفقِ البعيدِ
تذوبُ في المٍ غريبْ
نفسي يُمزقُها الحنينُ إليك يَدفَعها اشتِياقْ
صفصافةُ أكل الزمانُ جذوعَها
فتمايلت فوقَ الجَدارِ وبين أعمدةَ الرواقْ
عبثاً تُناضِلُ عاصِفَ الأنواء
صدرُ الأرضِ اقربُ
والظلامُ يدُ وساقْ
ديوان الصمت والرماد ص/ 212

(3)
قبل أكثر من نصف قرن كانت قرية ( الختمية ) التي ترقد بين أحضان جبال " التاكا " تقام فيها الحوالي ( مفردها حولية ) وهو احتفال سنوي يهدف إلي إحياء ذكري واحدً من السادة مؤسسي الطريقة الختمية حيث تكتظ دروب القرية بمريدي الطريقة والذين يتوافدون من شتي بقاع السودان ومن بينهم عرب الشرق ( في الخيل المسومة ) والحسان اللائي جئن حباً في السادة وتبركاً ، كل ذلك نجـده في قصيدتـه ( ساقية الظلام ) من مجموعة قصائد ديوانه ( الصمت والرماد ) :-
في ذاتِ يومْ
اكتظتِ الطرقات في حارات قريتنا
بآلافِ الرجال
يتجمعون علي الدروب السمر آلاف الرجال
من كل لون
وتوافد الأعراب في الخيل المسومة التي
كانت حوافرها تجوب السهل
ترقص بين أودية الرمال
وتظل تركض في جموح الصافنات
علي ميادين القتال
وعرائس ( النوراب ) يحملن السلال
والأعين المتطفلة
صرخاتها لهف تمزق بين أوعية الجمال
ويصيح صعلوك يغني في ابتذال
أسباب لوعتي التي حرقت حنايا مهجتي
عيناك يا بنت الحلال
ديوان الصمت والرماد ص/ 67
يقول كجراي هذه الأبيات مأخوذة بتصرف من أغنية الكاشف التي مطلعها ( عيوني وعيونك أسباب لوعتي ) .

(4)
لأصدقاء كجراي من الشعراء مساحات في ديوانه ( الصمت والرماد ) و ( الليل عبر غابة النيون ) لقد أهدي الشاعر مصطفي سند عبر ديوانه ( الصمت والرماد ) قصيدة ( موت الماضي ) والتي جاء مطلعها :
إذا قالوا : حصاد العمر إنا قد فقدناهُ
قريباً كان ماضينا ولكنا نسيناه ُ
وقد كنا بذرناهُ
خيوطاً من وميضِ الشمس تورقُ في روابينا
الصمت والرماد ص / 23
وأهدي لصديقه الشاعر / تاج السر الحسن ( العودة إلي الجحيم ) والتي نشرت ضمن مجموعـة ( الليـل عبر غابة النيون ) .
وأذكر أن هذه القصيدة نشرت لأول مرة في الصفحة قبل الأخيرة بمجلة ( صوت المرأة ) في عددها الصادر بتاريخ الأول من أكتوبر عام 1964م وقد وصلت المجلة إلي المكتبات الثقافية بمدينة كسلا بتاريخ 23أكتوبر 1964م وهو تاريخ صادف تطور أحداث ثورة 21 أكتوبر 1964م , وجاءت كلمات القصيدة مستوفية لحاجيات الجماهير في تلك اللحظة الحاسمة في مقاومة الحكم العسكري الذي انبثق في نوفمبر 1958م .
فلنغني صحوة العمر ونجتاز الزمان
ودعوا ألموتي يهزون جذور اللا مكان
ليس للثورة إلا وجُهها القاني الذي نعرفَهُ
من أراد الصمت تيار الذري يجِرَفهُ
فليمدون حبال الصمت في شط العدم
نخر الدهُر علي صخر الجدار
لو توكأنا عليه لنهدم .
(ديوان الليل عبر غابة النيون ص / 17 )
وأشار الشاعر كجراي إلي أن الشطرة الأخيرة مقتبسة من بيت بشار بن برد يقول مخاطباً فيه محبوبته ( إذا كانت له محبوبة ) .
أن في بـردي جسـم ناحــل
لـو توكـأت عليـه لنهــدم
(5)
كتب كجراي بعض المراثي وكثيراً ما كان ينتابني إحساس بأنه يرثي نفسه في المقام الأول :-
دعينا نحلقُ فوق الفضاء
نجربُ قبل مجيء القضاء
حروف انفعالاتنا في كتاب الرثاء
جاءت هذه الأبيات ضمن مرثيته لصديقه الشاعر / محمد المهدي المجذوب (( رحيل العصافير )) والتي جاء فيها :-
نُحبُ الحياةَ ولكننا في كتاب الحياة
زنابقَ حقل يفاجئوها الموت
لا يتذكرها الناس
إلا مساء الفجيعة بعد الرحيل
إلي أن يقول :
ميلادنا ومضة برق
ثم حضور الفجيعة في لحظة الاحتراق
نجئ ونمضي كأنا خيول
علي الأرض تركض في حلبات السباق

(ديوان الليل عبر غابة النيون ص / 75)
رثى شاعرنا العديد من الراحلين ممن كان لهم إسهام وطني وود اجتماعي بينه وبينهم وخلال حلقتنا الثالثة من الجانب الذاتي لكجراي نتعرف ماذا كتبت وصاغت أنامله الجميلة لأمثال (الشاعر/ محمد المهدي المجذوب و محمد عبدالحي و عن رحيل المواطن جمال عبدالناصر وآخرين ) .




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !