( فبكيت من قلبى أفقت من الذهول
رأيت لم أبصر سوى الصحراء
حين تفر من أعماق خاطرها الظلال الوارفة
أحسست أنى سوف أهرب من دمى
ما ذلت أقتحم العواصف تحبل الرؤيا على فلبى
فتنطلق البشارة من فمي
( 18 )
وبحكم أساس ثقافته نهل من فيض النجوم البازغة الطهطاوي ، الأفغاني ، محمد عبده ، ومن القبس الذي استمد نوره منها العقاد ،وطه حسين ، وعاصر جيل التيارات المتصارعة من الخليج إلى المحيط والذي التقى في بيروت ودفع للمكتبة العربية بحواراته وإبداعاته في الأدب والفن ، صادق البيوت وحكمت ولوركا . ونيرودا وشارك في تظاهره الشعر التي بدأت من العراق ، نازك ، السياب والبياتى حجازي وعبد الصبور في مصر .
( 19 )
( بلاغة الاستهلال هي نوع من المطالبة بالانتباه منذ البداية وإعداد الذهن لنوع خاص من التلقي ، هو شأن الشعر في العصر الجاهلي يتحدث الشاعر عن العالم في الوقت الذي يتحدث فيه عن الشعر في لغته ، والقصيدة تلفتنا إلى حضور عالمها والعالم المغاير الذي تولدت منه وتوجهت إليه فتفرض حضورها على وعينا وتنتزعنا من الحذر الدلالى إلى الدلالية
التي تنطوي عليها ومن تشتت الإدراك إلي وحدة العالم الجمالي الذي بنته القصيدة بطريقة متفردة ) ويقول كجراى في قصيدة ( تباريح الغرام المزمنة )
مرت الأيام والبحر يغنى لجميع الأزمنة
يتغن النطق بكل الألسنة
صرخة النورس تمتد
زفير البحر يشتد
وصوت الموج .. صوت الريح
يجتاح جميع الأمكنة
يغسل الموج تفاصيل الهموم المحزنة
ترقص الأضواء في مرآة هذا البحر
عادت الذكرى لأيام الهوى
لست ادري مر دهر أم سنة
شغلتني بنت كانت للصباحات
تغنى مذعنة
رقص القلب وما كان سواها
يشغل الأعماق في كل ألدنا
طرقت باب الهوى في لوعة
اتخذت من قلبي العاشق دهراً موطناً
آه يا فتنة قلبي
ما الهوى إلا تباريح الغرام المزمنة
ظروف شديدة القساوة مر بها الشاعر كجراى عبرها والابتسامة لا تفارقه وعبر عن تلك الظروف بقصائد مملوءة بشراً وأملاً وبشارة لكل الإنسانية مؤكد أن ربيع الإنسانية آت وإحلال الكمال على وجه الأرض وآت واعصرنا الذهبي أمامنا لا خلفنا إنها قصائد ( كطائر الخير ) الذي عاد إلى سيدنا نوح عليه السلام وفى منقاره غصن زيتون دليلا على انتهاء الطوفان وبداية الطمأنينة والسلام .
بعد سنوات من الإحالة إلى الصالح العام أعيد للعمل حتى بلغ سن المعاش الإجباري . وبعد تقاعده
هاجر إلى اريتريا ليقدم مساهمته في مجال التعليم والصحافة ، إلى أن عاد إلى مدينته الأثيرة ( كسلا ) (( يحلم باستراحة المحارب ))
وعلى غير انتظار تناقلت وسائط الاتصال نبأ مرضه واحتياجه لعلاج عاجل وعناية مكثفة حيث أمضى فترة علاجيه بمستشفى ساهرون بالخرطوم ، خرج منه كما أتى بذاكرة تعود وتختفي ويدخل في عمق أيام التجاهل حتى وفاته في السابع من أغسطس 2003م له الرحمة .
الصَّمت والرماد
كُخواَءِ مقْبرةٍ تعيشُ على سدِيمْ
تجتْرُّ مهْوىَ الذْكريات تثَاؤُباً ...
من أْلفِ عامٍ تمضُغُ الأحْقاَدَ ،
تُفْرِزُ حُلكَة الليل البهِيمْ
ويجُوسُ في عَتمَاتِها صَمْتُ أليمْ
صمْتُُ لهُ لَوْنَ السَّديِمِ ونكهْةَ الأبَدِ القديِمْ
كانت حياة الآخرينْ
وحياتنا ،
وهْماً كأصداءِ الخُطَى
في جبْهة الأُفقِ البعيد ، متاهةً للعابرِينْ
صَمْتاً تجسَّدَ في عيُونِ الحائرِينْ
أْصدَاءَ ملْحَمةٍ
وأْشباَحاً تجُوسَ الدَّرْب تسْخَرُ من حياة الآخرينْ
وعيُونُهُمْ ،
مصْلُوبَةُ الأْحداَقِ تُمْعِنُ في الفِراَرْ
تَرْتُادُ أودْيِة السَّرَابْ
تلُوذ بالوَهْمِ المحُنَّطِ في تُراثِ الغابرِينْ
فَمَنِ الذي سَيشُقُّ أوديَة الصُّخُورْ...؟
ويهزُّ أعمْاق الجذُورْ
ويلقِّحُ الأرْضَ النَّديِة بالبراَعِمِ والبذُورْ
وَحْدِي معَ الموتَى أصيحُ .....
أَكَانَ حَتْماً أن أَذُوبْ..؟؟
أَترَى أعيشُ لأشْهدَ الموْتَى يشُقُّونَ الدرُّوُبْ
ويُبَاركُونَ بُحيرَةَ الحقْدِ المقَدَّسِ في ابتْهَالاتِ
الغُروُبْ
شَلاَّل نهْرٍ جامح الوثباَتِ هدَّار العُيونْ
ويمزَّقُونْ
أكْفَانهُمْ
تلْك التي اهْتَرَأتْ نَسِيجاً من رَمَادْ
أَترىَ سَيَنْتَفِضُ الرَّمَادْ .؟؟
(ديوان الصمت والرماد ص ((9)) 29/3/1959م)
بطاقة إلى أكتوبر
تزورنا في كل عام مرة واحدة كالضيف
فنحتفي بمقدم الحزين بطيف الغائب الذي مضى
محترقا على رمال الصيف
قد كنت أنت السيف
أواه يا أحبتي تكسر المقبض في الأيادي
وحل في الساحة ظل الزيف
صوتك كان يشجب الهوان
عطرك كان دغل أقحوان
لونك كان سيد الألوان
في كل عام تنكأ الجراح
وتورق الكآبة
يرن في القاعة صوت الذل والضياع
يعزفه الأسى على الربابة
نعرفه ذاك الذي يحملنا
على جناح الخدر المسموم في برودة الرتابة
فتجحظ العيون في استغراق
ينتثر الرماد عبر لحظة احتراق
وهانا أبحث عن بقية الرفاق
ليتك ما عدت لنا
ليتك كنت أملا نلهث خلف ظله
نحلم بالبهجة عبر لحظة انطلاق
هانت في المتحف مومياء
والزائرون نحن غير أننا لا نعرف البكاء
نضحك في بلاهة تدعو إلى الرثاء
فاغفر لنا فإننا حفنة أغبياء
وأننا قطيع
يسوسه الرعاة في ثياب أولياء
1966م
(1)
قال أبو آمنة حامد : ( كجراي إنسان مرهف رقيق بتراد ) فبالرغم من أنه لم يتخلي عن دوره الطليعي في تاريخ أمته عبر همه السياسي ، لم يهمل جانبه الذاتي المرهف والرقيق والعامر بالمودة وبالصبابات والعشق النبيل .
وعلي غير انتظار
بسمة الزنبق من بين الشجيرات الوريقة
جاء يستقبل أضواء الحديقة
حوّم القلب عليه ومشي
خطوة أو خطوتين
أنا من رعشة أعماقي مغلول اليدين
(2)
لقد اشار لهذا الجانب الذاتي د.محمد مصطفي هداره ، في كتابه ( تيارات الشعر العربي المعاصر في السودان ) حيث قال : ( أما جانبه الذاتي في ديوان "الصمت والرماد" تنعكس عليه صورة الإنسان وصورة المجتمع وقدم بعض الأبيات من قصيدة " العائد من صحراء التيه " أنموذجاً لذلك :-
وكسْرتُ أطواقي وسِرتُ أليكِ
في بحرٍ من الظلماتِ مبهُور العيونْ
قد كان يطفو في عُبَابِ الموج ِ قاربيَ الحزينْ
من رحلةِ المجهُولِ يْقَتَحمُ الشواطئ في ارتِعاشاتِ المغيبْ
قد عادَ فارِسُكِ الحبيبْ
يا نجمةٍ كانت علي الأفقِ البعيدِ
تذوبُ في المٍ غريبْ
نفسي يُمزقُها الحنينُ إليك يَدفَعها اشتِياقْ
صفصافةُ أكل الزمانُ جذوعَها
فتمايلت فوقَ الجَدارِ وبين أعمدةَ الرواقْ
عبثاً تُناضِلُ عاصِفَ الأنواء
صدرُ الأرضِ اقربُ
والظلامُ يدُ وساقْ
ديوان الصمت والرماد ص/ 212
التعليقات (0)