مواضيع اليوم

كجراي الذي قتلناه وسرنا في جنازته - الحلقة الخامسة

الحلقة الخامسة والأخيرة تستمعون فيها مع إطلاع الفصل الرابع : كجراي قتلناه وسرنا في جنازته وتتعرفون على السيرة الذاتية للكاتب بابكر محمود النور

 
مدخل :-
(( لا تحسبوا دفاعي هذا عن نفسي خوفاً عليها ، بل خوفاً عليكم أنتم أهل أثينا الأحباء ! فاني أخشي أن تفقدوا بفقدي رجلاً لا يعوض ، وليس له بينكم نظير . فإنكم وحق الآلهة لن تجدوا من بعدي أحداً يبصركم بعوراتكم ويغمز جانبكم لتركضوا كالجياد السوابق إلي غايات الخير والفضيلة )) (سقراط)
مدخل :-
( كنت أنا والحسين بن منصور ( الحلاج ) شيئاً واحداً إلا أنه ( أظهر ) ( وكتمت ) )) .
( أبو بكر ألشبلي )
يقولون أن السلطة في العصور الوسطي كانت تضطهد الأديب أولاً ثم تقتله علناً ... من أجل شيء قاله . أما السلطة في عصرنا وبمباركتنا المباشرة أو غير المباشرة توظف أساليب عديدة وفريدة في اضطهاد الأديب وقتله لا من أجل شيء قاله ، بل من أجل شيء لم يقله .
السلطة في عصرنا ، ليست وحدها المسئولة عن اغتيال الأديب ، بل نحن شركاء معها في الجريمة ، بصمتنا أذاء ما يحدث له وبعدم تضامننا معه في محنته وسلبيتنا تجاه مأساته .
لقد عبر عن ذلك القاص الروسي ( يولي دانيل ) صاحب المجموعة القصصية ( موسكو تقول لكم ) الذي قال كلمته ودفع ثمنها غالياً ( السجن خمس سنوات عام 1968م ) يقول دانيل ( انه حيث لا ضحية لا جلاد ، وإن الشعب الذي يسمح للسلطة باستغلاله واضطهاده ، هو شريك للسلطة التي تستعبده ) .
فالأديب يعيش بيننا كل اللحظات المدمرة للقيم ، والحق والعدل ويعبر عن ذلك ، يصف شعورنا كلما ازداد غوص الخنجر في صدورنا ، فيزداد غوص الخنجر في صدره ، ينادي ، يستنهض الجميع أن يغيروا ما بأنفسهم .
أو هكـــــذا تتمـزقــــون
بقعاً من الدم الملوث في ارتعاشات العيون
أتحملون العار فوق رؤوسكم أتحملـون ؟
والفجــر أقــرب مـا يكـــون
ديوان الصمت والرماد ص / 26
التاريخ ملئ بعار الأنظمة ومواقف شعوبها السالبة نحو الأدباء ، فمثلما كان الغرب حكاماً ومحكومين سبباً من عدة أسباب في موت ( تانسي ولياميز ، همنجواي ، كامو ) كان الشرق أيضاً حكاماً ومحكومين سبباً من عدة أسباب في موت ( بوشكين ، ليرمونتوف ، مايكوفسكي وغوميليوف ) كنا نحن أيضاً سبباً من عدة أسباب في موت ( جماع ، التجاني ، معاوية ، جيلي و أبو ذكري ) وكان آخر الذين شاركنا في اغتياله وسرنا في جنازته وتقبلنا فيه العزاء بلا خجل الشاعر / محمد عثمان محمد صالح كجراي .

ما قلناه وما كتبناه عنهم لا يزيد عن ( أضعف الأيمان ) . إنه مجرد ثرثرة بعد (ذبح الشاه ) تحمل في داخلها الإحساس بالذنب وطلب المغفرة في آن واحد . أن ما نقوله محاولة بائسة للتكفير عن الذنب عله يمنحنا الإحساس بسعادة التطهير .
رحم الله تلك الكوكبة التي جاءت قبل زمنها ، جاءت في زماننا ) ( الزمن الخطاء ) لذلك عجزنا عن فهمها ومازال اكتشافنا لها بطيئاً لذلك تركناهم يواجهون مصيرهم لوحدهم دونما دفاع أو تضامن أو حماية ، وكما يقول الشاعر كجراي :-
أقسي من الموت ... أنين الحرف ... حين تجهش العبارة
وأنا هنا ... لا الحـزن يسلمنـي إلي درب الضيـاع
ولا رؤى المنفـي تحـول عـن ارتيـاد المستحيــل
سـأدق وحـدي ، لا أكــل علـي الجــدار
ديوان الليل عبر غابة النيون ص/ 43
أن موت الشاعر كجراي الذي حدث في 7 أغسطس 2003م ما هو إلا نتيجة حتمية لتراكم الظلم وتراكم الغبائن التي تجرعها في صمت وصمود عبر سنوات عمره الإبداعي ، فادت إلي سقوطه فاقد للذاكرة حتى لحظة مفارقة الروح الشاعرة للجسد الشاعر دون أن يحقق ابسط أمنياته .
كان الصدى ... رجع ألصـدي محـال
يــود أن يحطـــم القيـــود
وهكذا ترميه يا صديقتي مخالب الأنين
مـازال في أعماقـه مكتئبـاً حزيـن
يهفـــو بـــه الحنيــــن
لو يبتنـي عشـاً يعرشــه قشــاً
علي الظلال الخضر في عرائش الحديقة
تؤنســه عصفـــورة صديقــه
ديوان الصمت والرماد ص / 47
كانت جرعة الاغتيال الأولي في قرية خاملة في ذاكرة التاريخ أسمها ( مهلة ) من أعمال مركز القضارف ، اتخذها الشاعر موطناً له ولتجارته ، ولكن متجره الصغير احترق عندما أمر المستر ( لي ) مفتش مركز القضارف بحرق قرية ( مهلة ) عام 1947م بحجة أن سكانها كانوا يهربون الأسلحة عبر الحدود الحبشية للسودان ويمارسون الصيد غير المشروع .
بعد هذه الحادثة التحق معلماً بمصلحة المعارف ليحمل شعلة ( بريميثوس ) لا لينير عقول تلاميذه فقط بل ليكون بها المنشد والمغني في مسيرة شعبه إلي شمس الحقيقة والديمقراطية .

وفي عام 1948م طلب مفتش مركز مدينة كسلا ( سوداني الجنسية ) من باش مفتش تعليم كسلا ، توقيع أقصي عقوبة علي المعلم كجراي ، بل طالب بفصله عاجلاً . واستقر رأي مجلس محاسبته علي نقله فوراً من مدرسة بمدينة كسلا إلي مدرسة جبيت الأولية .
كان ذلك بسبب مقال نشره كجراي انتقد فيه تصرف أحد زعماء قبيلته الذي انتزع بقرة حلوب من مواطن فقير من أبناء القبيلة ليمنحها لأول مفتش مركز سوداني ليستمتع بلبنها هو وأفراد أسرته الكريمة ، مع وعد من زعيم القبيلة بتجديدها واستبدالها بأخرى في حالة توقفها من الإدرار . لقد كانت منحة من لا يملك ، لمن لا يستحق .
سنذوب هنـا في قلـب الريـف الآسيـان
فضحايا الليل هنا أبداً تدمي أعماق الإنسـان
لا عــــــــذر لنـــــــا
فالليــل هنـا تنيـن مرهـوب خاتــل
وظـــلام مسمــــوم قاتــــل
حتمــــاً سيمـــوت إذا شئنـــا
ديوان الصمت والرماد ص / 58
كشف هذا المقال أن المعلم محمد عثمان محمد صالح قد خالف ما حرمه الإنجليز علي الموظف ( بالكتابة في الصحف ) ومع سبق الإصرار المتمثل في تستره وراء اسم كجراي ، وهكذا صار الشاعر كجراي مصنفاً تحت طائلة قانون النشاط الهدام الذي صممه الاستعمار لمحاربة ومعاقبة كل وطني غيور ليس علي الشيء الذي فعله بل علي شيء يتوقع أن يفعله .
لقد باركت الأنظمة الوطنية المتعاقبة وباختلاف أفكارها وتوجهاتها التهمة مقتنعة برأي الإنجليز في مواطن مخلص وكأنها تقول ( هل يوجد من يفهم أحسن من الإنجليز ) .
لقد صار كل سطر يكتبه الشاعر كجراي علي امتداد عمره الإبداعي مشتبه فيه فنقوم السلطة عبر مؤسساتها العقابية بدور ( الكونت بنكندروف في روسيا القيصرية الذي كان يشتبه في كل سطر يخرج من قلم شاعر روسيا العظيم بوشكين )
يقول الشاعر كجراي في هذا الصدد :-
لم أكــن أعــرف أنـي
حينما أدخل في الأوطان تلقاني
بتهـديـد ظلامي جـهـول
فأنا في شرعها ( مشبوهاً علي الأرض )
وفي كل مناخات الفصـول
إنني لابد أن أسمع قولاً جارحاً قبل الدخول


فاسمعوني
إنني اعرف حقاً ما أقــــول
فأنا لا أعرف المسح علي الجوخ
ولا قرع الطبول
من قصائد دواوينه التي لم تنشر
حتى الصفوة المثقفة كانت لا تبحث في شعر كجراي إلا عن ما تعتقد إنه معادي للسلطة ، وتختلق ذلك في كثير من الأحايين . حتى قصائد (( أغنياته )) ذات الطابع الرومانسي الحميم ، تصنف بأن بها ترميز معادي للسلطة . شيء يذكرني بإعدام الشاعر ( نيقولاي غوميليوف عام 1921م والذي اتهمته السلطة البلشفية بأن شعره معادي للسلطة .
يقول الأكاديمي أستاذ الأدب د. ليخاتشوف بعد ستين عاماً من تاريخ إعدام غوميليوف ( بودي إثارة انتباهكم إلي إنكم لن تعثروا عند غوميليوف ، ولو بيت وأحد ضد السلطة ) .
وأقول أنكم لن تعثروا ولو بيت وأحد عند الشاعر كجراي ضد السلطة أيضاً ، فلقد كانت أشعاره تعبيراً صادقاً لحالة تردي كافة الأصعدة وعلاج هذا التردي لا يكون إلا بالديمقراطية وقد لقيت كلماته ألصدي الذي تستحقه في القلوب ( لقد مجد نضالات الشعوب في سبيل الاستقلال والعدالة الاجتماعية . وأعتبر انتصاراتها انتصارات ( لشعبه هو ) وهزائمها ( هزائم له ) .
أن شعر كجراي ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالسير العام للتطور التاريخي والقومي ، فالأحداث التاريخية والقومية لها تأثيرها الكبير في تطور الرؤيا والكلمة الشعرية ( فالشعراء ، كما يقولون ( تسبق دوماً أحلامهم منطلقات الناس ) فالشاعر في محاولاته لكي تكون لنا مكانة بين الشعوب لا يمكنه أن يكون بمنأى عن تيار الأحداث وتأثيرها علي وعيه وواقعه الاجتماعي الذي انعكس علي تياره الأدبي وشعوره الوطني العام ) .
لقد كان مجيء الشاعر كجراي في الفترة الحرجة ، فترة انكسار الركائز القديمة وانهيار الاستعمار بعد الحرب الكونية الثانية وميلاد حركة التحرر الوطني الديمقراطي والتي قدمت لنا علي مستوي العالم الثالث من الشعراء ( بابلو نيرودا ، ناظم حكمت ، وعبد الوهاب ألبياتي )
الذي يلتقي بهم الشاعر كجراي بالكاد في تشابه ظروف الحياة والمواقف التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً وحميماً بالواقع الذي كانوا ينظرون إليه من فوق ربوة المستقبل . وعلي ذلك أسس الشاعر كجراي لنفسه معياراً راسخاً عن حقائق الحياة والواقع بكل تعقيداته والبحث عن بدائل وحلول وعبر عن ضرورة التغيير مؤمناً في كل الأوقات بعبارة ( هيجل ) – الصدق عيني – وبما قاله الناقد الروسي " بلينسكي " ( حيث يكون هناك صدق ، يكون هناك شعر أيضاً ) .

شاهد العصر أنا يا نيل لا يدهشني

لون الغرابة
حينما أعبر فوق الشط في جنح سحابة
لا أري غير النواطير التي علقها الزيف
فعرتها الأعاصير ، يد الأقدار من كل مهابة
لا أري غـيـر عــروس النيــل
إذ يلقي بها موج علي شط الكآبـة
آه يا أغلي الغرابين
أنا لا أملك اليوم سوي
شرياني النازف حبراً وكتابة .
ديوان الليل عبر غابة النيون ص / 46
عرف الشاعر كجراي عبر سنوات عمله معلماً النقل التعسفي للأماكن التي يطلق عليها أماكن " الشدة " وفي الستينات من القرن الماضي نقل إلي مناطق الـ ( تماس ) بجنوب السودان في تلك الفترة التي صبت سلطة 17 نوفمبر الزيت أكثر مما يجب علي نار الجنوب المشتعلة منذ أغسطس 1955م .
لقد استشهد في تلك الفترة صديقه الشاعر ( المجود والمقل ) الأستاذة الصادق عبد الرحمن الخزرجى الذي كان مديراً لمدرسة ( كواجينا ) حيث قتل وحرق مع عدد من معلمي المدرسة وبالتحديد في 19 أكتوبر 1964م .
تلقى الشاعر كجراى النبأ الفاجع وهو بالخرطوم التي كانت على وشك الانفجار وقد سبقت هذا البناء الأليم نشر قصيدة للشاعر كجراى أهداها لصديقة الشاعر تاج السر الحسن ( العودة من الجحيم ) بمجلة صوت المرأة بتاريخ الأول من أكتوبر 1994 جاء فيها :-
" لا أسمـى فـلنـا ألف لهــات
نغمت أنشودة النصر على سمر الهضاب
ولنا ألف ذراع صنعت مجد الروابي
فليمدون حبال الصمت في شط العدم
نخـر الدهر على صخر الجــدار
لو تـوكأنــا عليـه لأنهــدم
(ديوان الليل عبر غابة النيون ) ص 18 )

وتفجرت ثورة 21 اكتوبر التي تعطرت بدماء الشهداء وكانت شعاراتها المجد والخلود للشهداء . ولا يسعني إلا أن أقف مترحماً على روح الشهيد والصديق طالب معهد المعلمين العالي "" عبد الرحيم حمد على حران الذي استشهد في ساحة القصر . لقد سعى على قدميه للاستشهاد فناله بشرف وليس ( بالصدفة ) . حران لا يتذكره احد الآن لأنه لم يكن ضمن قوائم القبائل الأيدلوجية ، فلذلك لم يرد اسمه في سوق الرقيق السياسي وهذه نعمة كبيرة من عند الله سبحانه وتعالى . 

كان الواقع بعد ثورة أكتوبر اقرب إلى الانتكاسة فلقد هزمت كل شعارات الديمقراطية منذ أول حكومة مؤقتة وغير موفقة في تركيز دعائم الديمقراطية وحل مشكلة الجنوب التي تأزمت أكثر بعد ( مؤتمر المائدة المستديرة ) فكتب الشاعر كجراي ( بطاقة إلي أكتوبر ) مرثية أقرب إلي التأبين .
تزورنا كل عام مرة واحدة كالضيف
فنحتفي بمقدم الحزين
بطيف الغائب الذي مضى
محترقاً على رمال الصيف
قد كنت أنت السيف
آواه يا أحبتي
تكسر المقبض في الأيادي
وحل في الساحة ظل الزيف )
ديوان الليل عبر غابة النيون ص ( 23 )
وتتم مصادرة الديمقراطية للمرة الثانية عن طريق انقلاب عسكري في 25مايو 1969م وليس هناك ما يدهش إن قلت إن الشاعر كجراى لم يكن يؤمن ولا يصدق بان الديمقراطية يمكن أن تاتي على ظهر دبابة لذلك لم يحتفي بمايو ولم يصفق لها منذ بدايتها لأنه صاحب رأى محدد في الفكر والحرية والديمقراطية لا يتطابق مع الجمهرة التي صفقت لمايو ودليلي علي ذلك قصيدته ( الذاكرات الرمادية ) التي نشرت ضمن قصائد ديوانه ( الليل عبر غابة النيون ص / 119 .
" كانت العاصمة البلهاء
تستقبل أضواء الصباح
لم يكن يعبر في خاطرها أن تباشر الشفق
تتنزي بالدم النـازف في عمـق الجراح
فحشود الجند في كل امتداد الطرقات
تعلن الغدر وتستولي على كل المطارات
وأبواب الجسور

فوداعاً يا ديمقراطية الرأي
فقد انتكس التأريخ رفت في سماء الوطن المنهك
أسراب النسور ) .
وتتلاحق الإحداث بسرعة مذهلة في 19يوليو 1971فى أعقاب فشل ( الحركة التصحيحة الفطيرة ) ويغرق الوطن المنهك في حمامات من الدم وتمتلئ السجون بالمعتقلين . وبكل أسف استغلت بعض العناصر حالة الفوضى ودست الكثير من القوائم الملفقة التي تسببت في اعتقال من لم يكونوا في ظل ، ظل خاطر السلطة ولم يكن ذلك خدمة وحباً في النظام المايوى بقدر ما كان تصفية لحسابات شخصية وايديلوجية وسياسية .
وهكذا أمضى الشاعر كجراى أكثر من عامين معتقلاً . وعندما أفرج عنه وابعد من قائمة الاعتقال وجد نفسه في قائمة ( الصالح العام ) وكعهده قابل ذلك بصموده ونقائه وحبه لهذا الوطن .
" هانا اكبر عبر المحنة الكبرى .
واجتـاز جـدار المستحيـل
طائر حط على بوابة الشعر يغنى
لم تلوثـه الرؤى الغبراء
لم يحلم على درب المطارات بأوهام الرحيل
سنوات العمر مرت
وأنا أكتب عن حبك مزموراً طويـلاً
كنت كالنورس منذ خالطه الوجد رشيقاً
فوق موج البحر لا يعرف شيئاً مستحيلاً
يا بلادي
آه يا حبي الخـرافي المسـمي
يا شراييني التي تنزف بالحرف الأثيري المدمي
مثلما كنت
أنا أحملك اليوم علي قلبي
تباريحً وهما )
ديوان الليل عبر غابة النيون ص / 104

 


أشار الشاعر كجراي إلي سنوات الحرية بالسوسنات الخمس وقد غرسنا للربيع سوسنات خمس لغدنا المطل من غرف الشموس من منحدرات الأمس ) .
تلك السنوات التي بدأت بنيلنا الحكم الذاتي في 1953م مروراً بالاستقلال في 1956م وحتى صباح 17 نوفمبر 1958م تاريخ أول مصادرها للديمقراطية حيث قال الشاعر كجراي:-
ذاك الذي بعناه مزقناه يا أسفي عليه
فذوي شهيد
مات والوحش الحقير يشد حبل الموت
في نزق إليه
فعـلي يـديــه مـات الضيـاه
علي الحقول وبين أروقـه الصقيـع
ديوان الصمت والرماد ص/ 28
وقال مستقبلاً أريج الأنتفاضه النقي في أبريل مستصحباً ذكري ثورة أكتوبر ٍ:-
ربيعنا أوراق في الحقول مرتين
والشوق قد أنبت
في الجدار زهرتين
كان موقفه من ثورة الإنقاذ التي انبثقت في 30 يونيو 1989م امتداداً لموقفه السابق وقناعاته بالديمقراطية مما جعل الإنقاذ المتشدد والمتطرف في مرحلة ( الشرعية الثورية ) يتعامل مع الشاعر بجفوة غير معلنة وفي حاله من التأهب لمعاقبته علي خياره الديمقراطي عبر المؤسسات العقابية .
وكانت البداية اعتقال الشاعر كجراي لأكثر من شهرين قبل نهاية عام 1989م في أعقاب ليلة شعرية قدم فيها الشاعر كجراي قصائد من ديوانه ( الليل عبر غابة النيون ) الذي صدر في عام 1987م حيث تصدي أحد منسوبي الأمن للشاعر كجراي متهماً إياه والقصائد التي قدمها بأنها معادية للنظام !!!
لم يتقبل الشاعر الاتهام فقط بل قام بتهدئة جمهور الليلة الشعرية الذي كاد أن يمارس العنف ويفتك بمنسوب الأمن وطلب منهم التصرف بحكمه ويعقل .
وفي اليوم التالي قام الشاعر كجراي بإيداع عريضة بمكتب السيد / وكيل النيابة سارداً فيها ما حدث ومطالباً بأن تأخذ العدالة مجراها ، ولكنه أعتقل بعد إيداع العريضة مباشرة ، فلم يتمكن من المثول أمام وكيل النيابة صباح اليوم التالي لإيداعه العريضة بسبب اعتقاله وقد حفظت العريضة لغياب صاحبها .

وبعد إطلاق سراحة قرر الهجرة إلي ارتيريا التي تربطه بها ( وشائج اللسان والدماء ) من جهة وتلبية لدعوة سابقة للاستفادة من خبراته في مجال التعليم . وهكذا ( سافر المغترب المقيم )
( ما ذلت بين وطني المسافر المغترب المقيم
الهث خلف المنابع المجهولة العزبة
تسحقه مرارة الغربة
حولي من الصبار ماينبىء عن قساوة
المسالك الجدبة
يا غربتي حين يطل القمر الشاحب
عبر غرفتي المنسية الرطبة
تجرحني مخالب التذكار أحس بالضياع ألف مرة
حين تدق ساعة الجدار .
ديوان الليل عبر غابة النيون ص / 110
ويعود الشاعر كجراي بعد سنوات من اريتريا التي وجد فيها كل ترحاب عاد لأنه لم يستطع مغالبة الحنين الذي كان يمزقه والشوق الذي كان يدفعه إلي الوطن . وتشاء إرادة المولي عز وجل أن يصاب بحالة مرضية فقد بعدها الذاكرة الشيء الذي أدمي قلوب محبيه وأبكي عُوَدهُ حتى فارقت الروح الشاعرة الجسد الشاعر .
ومن غرائب الصدف أن يختار الشاعر أسم صحفي له ( كجراي ) باللغة البجاويه والذي يعني بالعربية ( جندي ) ويمضي عمره الإبداعي بين دوائر الجند – الشرطة والأمن وعنابر السجون وتشاء الأقدار أن يشتري منزلاً جوار مركز للشرطة وأن يكون قبل وفاته نزيلاً بمستشفي الشرطة ( ساهرون ) .
وهكذا رحل صاحب ( رحيل العصافير ) التي قالها في رثاء صديقه الشاعر محمد المهدي المجذوب .
يزلزلنــا الســأم الدائــري
ويقتلنــا الزمــن ألشاعــري
نحب الحياة ... ولكننا في كتاب الحياة
زنابـق حقـل ... يفاجئوها المـوت
لا يذكرها الناس إلا مساء الفجئعـة
بعـــــد الرحيــــــل

 

رحل بعد أن خط أسمه في لوح القريض والخلود في مملكة الشعر رحل من كانت الديمقراطية حلمه ومأساته . لقد كان أميناً لحسه الفكري والنقدي الذي كان سبباً في أن يكون مطلوباً وملاحقاً بينما عاش أولئك الذين يصفقون بسطحية لكل الأنظمة بالرغم من سقطاتها ، طلقاء .

تمنيت أن يأتي نظاماً يلاحق ويحاكم كل من يصفق ببله وسطحية بتهمة ( التصفيق الغبي السطحي ) لقد عاهد الشاعر كجراي نفسه وشعبه وأمته بأن يكون نورساً يحمل أمل المستقبل وأن يكون ( نسراً لا يرضي أن يقوم بمهام الحمام الزاجل حتى لا يسقط ريشه ويتحول منقاره إلي كف تتسول ) .
مات الشاعر كجراي ولا أريد أن أقول أن موته يمثل كل قتل فريد لا يطاله القانون ولا يمكن إلغاء القبض علي الشخصيات الاعتبارية للقتلة بل أقول ... أننا جميعاً ... أنا ... وأنت والأنظمة المتعاقبة ...قتلناه وسرنا في جنازته وتقبلنا فيه العزاء بلا خجل وختاماً أقول ما قاله الشاعر كجراي وأهدي ما قاله لروحه الشاعرة :-
وستبقي أغنيات من أناشيدك
في ثغر الزمان
جذوة تحرق أذيال الهوان
سوف تحيا من جديد ... من جديد سوف تحيا

من ديوان صمت الرماد

 

ســـــيرة ذاتــــية

 بابكر محمود النور
 الميلاد : كسلا 1945م
 حصل على درجة الماجستير آداب – صحافة -جامعة موسكو ( م. لمونوسوف ) بالإتحاد السوفيتى 1973م
 منذ تخرجه عمل بوزارة الثقافة والأعلام - التلفزيون – إعلام الولايات حتى تقاعده في 2005م
 كاتب صحفي غير راتب
 لديه عدد من المخطوطات الثقافية يعد لطباعتها .




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !