هي سلسلة طويلة من الإبداع والفن والتألق والجمال يحكي لنا فيها الأستاذ القامة بابكر محمود النور عن حياة شاعرنا الفذ محمد عثمان كجراي (شاعر الحرية) ومتناولاً لنا مسيرته الأدبية الراسخة فقد كان لي عظيم الشرف أن أمتلك هذه النسخة كاملة كعربون صداقة من شخص جمعتني به الشبكة العنكبوتية فأنا أنحني له احتراماً وأدباً لذلك ولجميل صداقته . وعبره أهديها لكل محبي وعاشقي كلمات وهمسات راحلنا الجميل بحروفه وذاته عبر مدونة الأرض والإنسان الخاصة لشخصي الضعيف ونبدأ سلستنا التوثيقية بالشعر مملكة الخلود .
مدخل (1)
الشــاعـــر يغنـــي للحـــب
النـاس لا يحترمونـه في هذه الأيـام ولكـن
بعد مرور ألف سنة فإن الشعب سيشيد له تمثالاً
(( دستويفسكي ))
مدخل (2)
يموت رديء الشعر من قبل أهله وجيده يبقي و إن مات قائله .
(( دعبل ))
مدخل (3)
وطن النسيان لا يثمر غير الحنظل الأصفر حقداً ومــرارة
يعرف الربح عقوداً ونقوداً ويري في مقطع الشعر الخسارة
حينمـــا يمتـــد في وجــه المصابيـح المضيئـة
ظل سد
من تراب
أو حديد
أو حجارة
أه لا يبقي ســوي أن ينزف الشعــر دمـــاً
مرثيـــة للفكــر في عصـــر الحضـــارة
فامض يا قلبي فما نبضك إلا مقطعاً للحزن خانته العبارة .
(1)
كجراي هادئ لحد الصمت يستمع بشغف ، نقي النفس يترك عندك انطباعا بالتمني أن تراه ثانية ، جرئ في تناوله ، مقدام ، صادق مع نفسه وصادق مع الآخرين .
(2)
كتب في مقدمة ديوانه ( الصمت والرماد ) عام 1961م (( ولدت بمدينة القضارف ، من أصل بجاوي . ونشأت في بيئة دينية صرف . وكان والدي رحمة الله من المتشددين في الدين ، يأخذ أولاده بالشدة التي تبلغ أحيانا حد القسوة ، فكان يأمرنا ونحن أخوة أربعة ، أن نصحو في الرابعة لصلاة الصبح جماعة ، ثم نوقد المصابيح ونخرج ألواحنا ونقرأ أجزاءً من القران الكريم مكتوبة علي الألواح . ونظل علي ذلك حتى الساعة السابعة صباحاً ، ثم نُعرض القراءة غيباً علي والدنا .
والويل لمن لم يكن يحفظ لوحه فإنه عرضةً للعقاب الصارم .
(3)
وبعد تناول الإفطار نذهب إلي المدرسة ، فإذا عدنا ظهراً أخذنا في كتابة أجزاء جديدة علي الألواح . وهناك درس بعد صلاة العصر . ودرس بعد صلاة العشاء يشمل الفقه والتوحيد وقراءة القرآن . ويستمر ذلك أحياناً حتى منتصف الليل .
(4)
في الرابعة عشر كنت قد حفظت القرآن وأتممت المدرسة الأولية ، فأرسلني والدي أنا وأخواتي إلي أم درمان للدراسة في معهدها الديني . وقضيت في معهد أم درمان خمس سنوات وعندما رأي والدي وكان متزوجاً من أربع نساء ، أن يسرح والدتي اضطررت للانقطاع عن الدراسة . ودخلت معترك الحياة واشتغلت في التجارة برأسمال بسيط لأعول والدتي .
(5)
لكن الدكان الصغير الذي افتتحته احترق أيام الحرب حينما أمر المستر ( لي ) حاكم القضارف بحرق القرية التي اتخذتها موطناً لتجارتي ، إذ اتهم أهلها بأنهم يهربون الأسلحة من الحدود الحبشية إلي منطقة القضارف ، فأشعل الجنود النار في القرية ليلاً بعد أن أمروا السكان بالخروج منها ، دون إن يأخذوا شيئاً من أمتعتهم . ولم تكن الأسلحة تستعمل لطرد الإنجليز من السودان بل كان الناس يستعملونها للصيد . وكان الصيد محرماً في زمن الإنجليز وهو مورد مهم للرزق في تلك القرية
(6)
عدت للقضارف خاوي الوفاض . وقدمت طلباً إلي مفتش تعليم المديرية لأشغل وظيفة مساعد مدرس عام 1947م ، فقبل طلبي وتلقيت تدريباً علي التعليم في معهد بخت الرضا .
(7)
كجراي وأحد من شعراء العالم الثالث . ومن شعراء الوطن العربي عامة وشاعر سوداني بصفة خاصة ساهم في إذكاء جذوة النضال من أجل الانعتاق من الاستعمار ومن أجل الحرية والديمقراطية . أن قيمة كجراي ليست في أنه شاعر ( مع ) أو ( ضد ) قيمته الأولي في صوته ، هل هو :-
صوت شاعر يستحق الاستماع إليه ؟؟ أم أنه مجرد بوق دعائي مع ، أو ضد لا فرق .
يقول الصحفي ( روجرروتربلات ) :-
الشاعر والسياسي يملكان أشياء جوهرية مشتركة ، أحداهما تبدو في الحاجة لخلق الإحساس بالضرورة ، الاستقلال مثلاً عند السياسي قد لا يعني ما عند الشاعر ، فهناك فرق في درجة الإحساس بالشمولية .
السياسة تمس بعض الناس وفي أوقات خاصة ، أما جوهر الشعر الحقيقي فأنه سيبقي ثابتاً وقادراً علي خلق التواصل مع الجميع وفي أي زمان .
(9)
كجراي كان يؤمن كشاعر ، إن الأحداث السياسية ليست في حالة جمود . وإنما رمال متحركة ، تمضي لتأتي غيرها .لذلك لم يستلهم في يوم من الأيام الحدث السياسي اليومي العابر ، فهذا ليس دوره . ولكنه كان يستلهم السياسة في حالة شمولها .
وجاء من يهمس لي بأنني الثالث في برنامج الحفل
وأنـي الأول السعيـد في قائمـة التكـريـم
نصحنـي أن أتـرك الصراحة الجارحة العقيمـة
علـي جيـوب معطفـي الممـزق القـديـم
وارتـــاح حيــن ظــن إن صوتـــه
يقـودنــي إلــي انتهـــاج مســـلك
المثقــف المهــــذب القـــويـــم
يا للضميـر الحــر حيـن تجـدب الحيــاة
لا يبقي سوي منحنيـات الجدل المدمـر العقيـم
الديمقراطية هي صخرة ( كجراي ) (( كمثل صخرة ( سيزيف ) أوقف حياته ونذرها لتكون صعوداً متصلاً أنه لم يفكر لحظة واحدة للكف عن دفع الديموقراطية إلى أعلى . وان فعل ( أن كف ) لفقد معنى وجوده . وستكون حياته بلا معنى . كان يعي تمام الوعي بأن الوصول إلى الديمقراطية لن يكون خاتمة المطاف ، بل الحفاظ عليها . وهذا لا يتأتى إلا بمواصلة الصعود . لقد تعلم من ( سيزيف ( إلا يتخلى عن دفع الصخرة ( الديمقراطية ) إلى أعلى مهما تدحرجت نازلة إلى السفح بعناد وإصرار ، فالعناد والإصرار يجعلان لكفاح الإنسان ونضاله عامة والمبدع خاصة ، معناً مأساويا وتفاؤلياً في ذات اللحظة .
وها أنذا أنـوء بصخـرتي الصماء
( يا سيزيف )
أهدر في دروب الليل طاقاتي
فيا وطن الضياع المر يا نصلاً يمزقني
ويكثر من جراحاتي
متى ينسل موج الضوء يغسل رمل واحاتي
(10)
روحه مسكونة بالتفاؤل، بل إن التفاؤل سمة من سماته لا يستطيع أن يحيا يدونه . تفاؤله يأتي من اللا مكان ومن كل مكان ، كان هذا التفاؤل في نظر بعض ( الأنظمة ) جريرته . ولا أدرى متى كان التفاؤل مهدداً من مهددات الأمن ، يستوجب الاعتقال والسجن والتشرد تحت مظلة قانون الصالح العام ؟؟
قالوا :دبيب النمل يسمعه فعش في موكب الموتى
حتى ارتعاشات الظنون تناثرت
في مسمعيه حنا جرا صوتاً
سر كيف شئت وعش كأبناء الحياة
يتقبلون مرارة الذل الأليم على السواعد والجباه
الصمت أجدى
ليتنا كنا نعيش بلا قلوب أو شفاه )
(11)
قال الشاعر كجراى في حوار معه :
اختياري لقب (كجراى )كأسم صحافي ، كان منذ الاستعمار ، إذ كان محرماً على اى موظف أن يكتب في الصحف ، وإذا حدث هذا ، فسوف يكون الموظف عرضة للمحاكمة .
لم أرشح لنفسي اسماً صحافياً أخر (كجراى ) تعنى ( الجندي ) باللهجة البجاوية . وارتحت لهذا الاسم لأنه يشرفني أن أكون جندياً من جنود الوطن .
كان أول عمل صحفي وقعته باسم كجراى مقالاً نشر في الصفحة الأولى من جريدة ( السودان الجديد ) لصاحبها ورئيس تحريرها الأستاذ ( أحمد يوسف هاشم ) أبو الصحف ، كان ذلك في عام 1948م.
أما أول قصيدة نشرت لي في مجلة ( الرائد ) الكويتية بعنوان ( السأم والأحلام الميتة ) في عام 1957م
وفى يوم 6/3/1957م نشرت جريدة ( الصراحة ) قصيدتي التي كان عنوانها ( العنكبوت ) . وكانت بمناسبة زيارة ( نيسكون ) صاحب فضيحة ( وتر قيت ) التي طرد بسببها من البيت الأبيض وكان آنذاك رئيساً للجمهورية .
حضر نيسكون ليضغط على حكومة عبد الله خليل لتمرير ربط السودان بالمعونة الأمريكية المشروطة . وكان لهذه القصيدة دوى كبير :
( جاء هذا الصفيق اللعين
يحوك الشباك ويلغى الشراك
وقد مزق الحقد أمعاءه
وقد أكل الجوع أحشاءه
ومن طول ما خيم العنكبوت على أرضنا
ومن طول ما جثم العنكبوت على صدرنا
عرفنا خطاه )
يقول كجراى : ( نحن ضد المسلمات . وأقول المسلمات لئلا يحدث التباس .. هذه المسلمات تقول : أعذب الشعر أكذبه ، إلا أن الصدق الشعوري وحده الذي يلهم التعبير الفني الرائع ، أما الكذب فلا يلهم غير الزيف . والزيف توأم الركاكة . والكذب هو الذي أفرز هذا الكم الهائل من العبارات المحنطة في أدبنا العربي )
(13)
كتب عنه د. محمد مصطفى هدارة في كتابه ( تيارات الشعر العربي المعاصر في السودان ) : ((يذكرنا اتجاه صلاح احمد إبراهيم في شعره بمحمد عثمان كجراى في ديوانه ( الصمت والرماد ) الذي يمثل استيعاباً حقيقياً لمضمون اتجاهات حركة الشعر الحر في التقائها الطبيعي مع المذهب الواقعي ))
موسيقاه تسترعى الانتباه صوره المتراكمة الغريبة تضم جزئيان كثيرة ذات قدرة لا حد لها على التحليل والشرح والدلالات التي يحتويها المضمون ويلتقي بمحي الدين فارس في موقفه من الطائفية :
( وغداً تموت
حتى الحجارة يا عمالقة الظلام غداً تموت )
إلى أن يقول :ـ
( ويشيد النقباء أعمدة الضريح
وتدور ساقية الظلام
تروم معجزة المسيح
( 14)
إن الأدب التقليدي كما يقول د . هدارة . استنفد أغراضه بمجرد أن أصبح عاجزاً عن الإيفاء بحاجات الجماهير . ويمكن مراجعة ديوان ( الصمت والرماد) الذي لعب دوراً في مقاومة النظام العسكري الذي انبثق في نوفمبر 1958م ، حيث أشار كجراى في قصيدته (السوسنات الخمس ) عمر البرلمان السوداني ورمز الديمقراطية حيث قال :
(ذاك الذي بعناه مزقناه
يا أسفى عليه ذوى شهيد )
كما جاء في القصيدة التي اتخذ الديوان اسمها( الصمت والرماد )
( أترى أعيش لأشهد الموتى
يشقون الدروب
ويباركون بحيرة الحقد المقدس في ابتهالات الغروب
شلال نهر جامح الوثبات هدار العيون
ويمزقون أكفانهم
تلك التي إهترأت نسيجاً من رماد
أترى سينتفض الرماد ؟ ؟
(15)
ديوان ( الصمت والرماد ) صدر في بيروت عام 1961م ، كما صدر له ا لديوان الثاني الذي استقر رأى الشاعر على تسميته ( الليل عبر غابة النيون ) بدلاً عن ( كلمات من أجل نيسابور ) حيث صدر عن دار النسق ـ الخرطوم في عام 1987م . وقد جاء في القصيدة التي كان مرشحاً اسمها ليأخذه الديوان ( كلمات من أجل نيسابور )
( وآهاً لها ترقد كالفريسة المخـدرة
تنام في دائرة الظل كما الحقيقة المزورة
تاريخها برزخ تحت ثقل الآلية المجنزرة
لو مرة واحـدة تنمرت عـيونهــا
لأنهد ركن الصمت ، جاء الصحو عبر اللحظة المدمرة
لو مرة واحدة تنمرت عيونها لما غدت كالساحة المهجورة المسوره)
ولكجراى مخطوطات شعرية هي : أنفاس البنفسج : احدي وعشرون قصيدة مرايا الحقول : أربع عشرة قصيدة
خماسيات أبو الشول : ديوان شعر على السنة الحيوانات للأطفال
(1)
ظلت الأرض كما الأم الرؤوم
تحفظ الموتى بقايـا من هياكـل
منذ أن أهـدر قابيـل الدمـاء
طفحت في الأرض أنهار المشاكل
يا له من ضائـع بين الدجـى
لج في المحنـة مثكـول وثاكـل
ليتــه أدرك منـذ المبتـدى
انه سن علـى الأرض الجـراح
(2)
كل صبح يولد الورد كميلاد الفرح
أتراه استعار اللون من قوس قزح
الندى فوق المآقي رف شوقاً وافتضح
عابث هام بثغرالورد مشبوب الغزل
كنت وحدي مترف الأعماق في ضوء الأصيل
حدثتني وردة الروض بأسرار الخميل
فتبسمت فأصغى لصباباتى النخيل
وتطلعت لكنزي كان روح الياسمين
( 4 )
مر عام واخضرار الأرض مشبوب الرغائب
موحش قلبي ، حكيم في بردة تائب
يد موسى تصنع ألوان العجائب
صوت عيسى قبس يمحو عن الأرض الخطايا
( 5 )
فلتكن أنت عبير في ممرات الحديقة
قد زهى الورد بألوان الفراشات الرشيقة
أيها الراقص في ظل الشجيرات الوريقة
تعرف الأنجم مجرى كلماتي وحواري
( 6 )
حينما كنت صغيراً كنت أغدو كالظليم
طالما حاولت أن أغدو كقديس حكيم
هكذا جربت أن اسلك خطاً مستقيم
غير أنى ... عدت للباب الذي منه أتيت
( 17 )
في أغسطس 1973م التقينا بعد غياب طويل في الخرطوم كان يومها يسعى للحصول على معاشه بعد أن أحيل إلى الصالح العام كنا في استضافة الإخوة د . سيد أحمد كمير والأخوان حسن وحسين نابرى واحمد والفاتح بيرق
كنا في أوقات فراغنا نستجم من السعي بمراجعة بعض مخطوطات الشاعر كجراى وهى مجموعة قصص للأطفال ومجموعة شعرية للأطفال أيضاً وكانت المجموعة الشعرية تروى على لسان الثعلب الذي اختار له الشاعر اسم أبى الشول فاقترحنا عليه تسميتها ( بخماسيات أبو الشول )
( أنا المغنى شاعر الربابة
سيد الفطنة والنجابة
وناصر الضعاف والغلابة
أكثر من يعرف جيش الغابة
فاستمعوا لقصصي الجذابة
وبعد أسابيع من التردد على دواوين الحكومة تيسر للشاعر كجراى الحصول على معاشه وغادر الخرطوم إلى قريته الهادئة ( عواض ) التي تقع على بعد كيلو مترات من مدينة كسلا عند حدودنا الشرقية . وفي الحلقة الثانية ومن عواض سنعرف كيف انسابت إسهاماته الشعرية المتفائلة ومن هم النجوم البازغة الذين نهل منهم ثقافته وهل عاصر جيل التيارات المتصارعة وماذا قال في قصيدته ( تباريح الغرام المزمنة ).
التعليقات (0)