الدكتور طالب الرماحي
ثلاثة أنواع من السكر تطال المجتمع الإنساني، سكرة الخمرة وهي أقلها ضررا وفتكاً ، ثم سكرة الغنى وهي أكثر أثرا وضررا من الأولى ، ثم سكرة الحكم التي تعد أشدا فتكاً على المرء والمجتمع، ويذكر العرفانيون وأهل الدراية، أن من أقوى أدوات الشيطان التي يستعملها ضد المؤمن هي سكرة الحكم ، فالصفات الإيمانية والتاريخ المزين بلون الدين واللغة المرهفة التي تتفجر عن قريحة المؤمن كلها ملاءات يرقص لها الشيطان ويغشى بها عيون وعقول المجتمع من أجل أن يبلغ ضالته ويطعن الحق في الصميم، وبذلك يكون الشيطان قد طعن كبد الإيمان بنصال أهله وهذا ما ما يبدو للآخرين وما يريد الشيطان أن يظهره فعلاً .
نحن في زمن سيئ، وهذا لا يعني أن الدنيا قد خلت من بريق الحق وممن يحملون بقايا أمل الإصلاح، ونعتقد أن خلو الدنيا من بقايا ذلك الأمل هو نهايتها الحتمية وهذا ما تؤكده السنن الإلهية، فالمجتمعات قديما عندما توشك أن تتعرى من لباس الحق والحقيقة، يبعث الله لها من الأنبياء من يعيد إليها ولو بالإكراه ذلك اللباس، ولكن الذي أريد أن أقوله هو أننا في زمن قد غلب فيه الباطل وقلّت المروءة واستشرت عبادة الإنسان لنفسه ولمصالحه وخفتت في وجدانه مشاعر الإحساس بألم الضمير، وهذا ما نراه واضحا وجليا في معالم الحكم في العراق خلال السنوات الست الماضية، ويبدو أن إعصار النظام البائد والذي عصف بنا سنوات طوال هو الذي جعلنا نحلم بربيع نحقق به طموحات ضاعت مع ضياع العمر وتسارع السنين، طموحات لم تزل مجرد حلم ، وما تحقق منها لا يعدو أن يكون غيضاً من فيض، لقد اتصفت طبيعة الحكم في العراق بعد سقوط النظام الصدامي البعثي بثلاثة معالم سلبية صارخة كانت ومازالت سبباً في معاناته وبشكل يوحي وكأن عذابات النظام السابق لم تذهب بذهابه وإنما استمرت ولكن بشكل آخر ومن قبل أناس آخرين كان المفروض أن يكونوا سبباً في سعادته وإرجاع حقوقه، وهذه المعالم (كثرة الولاءات) و(إبعاد الكفاءات) و(وتفشي السرقات)، أما الولاءات فتتمثل بنوعين ولاءات الحزب أو الجهة السياسية الحاكمة و ولاءات المسؤول الذي عُيّن كحصة لهذه الجهة أو تلك، (فالمحاصصة) التي بنيت عليها طريقة الحكم سلبت من كامل الشعب الحق في شغل المناصب ومنحتها الى (مجموعة محدودة تمثل الحزب أو الجهة أو القائمة) ومن الطبيعي أن تميل تلك المجموعة الى العناصر التي تنسجم معها ولا تنتقدها وتحافظ على مصالحها وتخلص (للجهة السياسية) حصرا وإن كانت تفتقد الإخلاص للشعب والوطن، أما ولاءات المسؤول وهي من الكوارث التي تحل علينا فقد منحت الصلاحيات الممنوحة للوزراء و وكلائهم في التعيين الى اختيار عناصر هي الأخرى تنسجم مع تطلعاتهم المادية (وغيرها) واستبعدت العناصر المخلصة، فأصبحت الوزارة بكل مفاصلها في الدولة أشبه بمملكة لحزب الوزير والمقربين منه والأصدقاء الذين يضمن التنسيق معهم في سرقة قوت الفقراء، ومن أجل أن يحقق تلك الأهداف دونما صداع يأتيه من العامة نرى (سيادته) يغلق كل أبواب الاتصال به ويصبح التحدث معه عبر الهاتف (ضرباً من المحال) !.
والأمر الخطير الآخر الذي يكاد أن يقصم ظهر العراق هو دفع الكفاءات المخلصة بعيداً عن مواقعهم الطبيعية في المشاركة ببناء الوطن، فالمعروف أن المخلص الكفوء يتصف بأمور قلما تجدها في غيره منها رجاحة العقل والأمانة، وهاتان الخصلتان لا ترضيان المسؤول السارق، لأن الخائن هو الآخر يتصف بقلة الكفاءة ودناءة النفس، وهاتان الخصلتان تتناقضان تماما مع ما يمتلكه الكفوء الأمين الأمر الذي يجعل التقاءهما صعبا، فوجود الأمين يعني كشف السرقات وكشف خيبة أداء السارق، ولهذه الأسباب نرى أن أغلب المسؤولين الذين أدعوا ارتباطهم بالأحزاب الحاكمة والمحاصصة السياسية هم من السراق وعديمي القدرة على أداء مهامهم الوظيفية، الأمر الذي دفعهم إلى تقريب أمثالهم وسد الطريق على الكفاءات المخلصة والأمينة من أبناء الشعب في المشاركة ببناء الوطن، والأمثلة كثيرة في هذا الأمر، والمشكلة أن كل مسؤول كبير غير أمين وغير كفوء ينصّبه الحزب أو الكتلة يأتي بمجاميع من أمثاله، وهؤلاء بدورهم يمهدون الطريق لأمثالهم من الفاشلين. ونأتي لنناقش الأمر الثالث الذي يوشك أن يقصم ظهر عراقنا الحبيب وهو تفشي السرقات ، وامتصاص خزينة الدولة لحسابات الأحزاب والشخصيات السياسية المتنفذة، وكلنا نعلم أن هناك أشخاصاً ما كانوا يمتلكون شيئا قبل دخولهم للعراق، بينما الآن يمتلكون مكاتب سياسية خاصة كثيرة وقنوات فضائية تحرق من أموال الفقراء والمساكين في العراق أموالاً طائلة، هذه الأموال جمعوها من خلال استحواذهم على منافذ الصرف في الوزارات واستغلال وجودهم في السلطة، كما أن بعض الأحزاب الحاكمة لديها شخصيات (يعرفها البعض) متخصصة في تبيض الأموال العراقية المسروقة قبل إيداعها في حسابات بمصارف الدول الغربية، وأن من الدول التي يتم تبييض الأموال فيها هي بعض الدول الخليجية ومنها إمارة دبي، إن سبب تفشي ظاهرة سرقة المال العام هو استمراء الشخصيات السياسية والأحزاب لهذه الظاهرة، وبخاصة أن تكرار السرقة حولها إلى (مَلَكَة) لدى المسؤولين، واستراتيجية لدى الحزب هذا أو ذاك، ولقد رأينا كم من الأموال صرفت من قبل الأحزاب والشخصيات في الانتخابات الماضية، وسوف تحرق هذه الأحزاب أموالاً أكثر في الانتخابات المقبلة، بعد أن أدركت أن حالات الفقر والعوز وقلة الوعي لدى الكثير من أبناء الشعب أصبحت الآلية المثلى لدى تلك الأحزاب للبقاء في السلطة مدة أطول.
التعليقات (0)