الأخوّة الإنسانية مناسبة سنوية أممية اطلقتها "الجمعية العامة للأمم المتحدة" عبر قرارها الخاص باعتبار الرابع من شباط من كل عام، يوماً يُحتفل فيه بمعنى ومبنى الأخوّة الإنسانية.
فالأخوّة، والتي تعني الروابط بين البشر، أنواع أعلاها وأرقاها الأخوّة الإنسانية، مصداقاً لقوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ).
وقول النبي صلّى الله عليه وآلِه وصحبِه وسلّم: (يا أيها الناس، ألا إنَ ربَكُم واحد، وإن أباكُم واحد).
إضافة إلى قول خليفة المسلمينَ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه:
الناس صنفان: (إمّا أخٌ لك في الدين، أو نظيرٌ لك في الخلق).
وفي الشعر: الناس مِن جِهَة التِمثال اَكفاء أَبوهم آدم وَالأُم حَوّاءُ.
فالنصوص الإسلامية تؤكد أنَ الإنسان أخ الإنسان، والله عزَّ وجلَّ خلقنا من نفس واحدة، ومِن خصائص واحدة تجمعنا، فإن الإنسان في حاجة دائمة لأخيه من حيث الجنس والنوع والخاصة والكرامة والحقوق، والكل ينشد العدل والمساواة والكرامة والأمن والاستقرار.
وثيقة المدينة ومبادئ الأخوّة الإنسانية
الإسلام أكد وحدة النوع البشري، وأهمية رابطة الأُخوَّة الإنسانية الواحدة، وقد قال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".
كما أنَ الله تعالى دعا الأنبياء والرسل - عليهم السلام ـ إلى التمسك بالأخوّة الإنسانية حتى يرتقي البشر وتعمر الأرض، وهذا ما أكدته وثيقة المدينة ورسخته فلا يوجد أيُ فرق بين إنسان وآخر إلا بالتقوى والعمل الصالح، وهذا المبدأ الإلهي الذي ارسته وثيقة المدينة.
ومِن هنا نجد أنَ مفهوم الأخوّة الإنسانية من خلال وثيقة المدينة، يقوم على المساواة والحقوق والاتحاد والتعاون والتسامح والود والتراحم والمحبة والخير، وهذه التعاليم والمبادئ تعززت وترسخت من خلال وثيقة المدينة المنورة، وانتقلت من الأخوّةِ الدينيّة، وارتقت إلى الأخوّة الإنسانيّة، وانتشرت في أرجاء المعمورة كافة، فتأثرت بها عامة الحضارات والثقافات والأديان.
حفظت الكرامة والحقوق والحريات
إن وثيقةَ المدينةِ المنورة، أول دستور متكامل في التاريخ، أرسى قواعد المواطنة وثبت أركان العدل والحقوق والحرية والمساواة بين مكونات المجتمع بتنوعه وطوائفه، ونظمَ العلاقات بينها وأدارها وضبطها لكي يسود النظام ويقوم العدل والتعايش السلمي والتسامح والتعاون بينَ المسلمين وبقية الطوائف الأخرى، فيدخل الناس في السلم كافة، فوثيقةُ المدينة حفظت الكرامة والحقوق والحريات الدينية وهذا فيه ضمان لقيام العدل بين المواطنين وللحريات الأساسية للأفراد، وعلى رأسها حرية الاعتقاد،{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}؛ فللمسلمين دين، ولليهود دين.. وفي هذا إشارة واضحة إلى أنَ يهود المدينة بموجب وثيقة المدينة يتمتَّعُون بحرية ثقافية وحقوقية كاملة، وأن موقفهم من الناحية الدينية والقانونية التي تُنَظِّم حياتهم الخاصة ثابت لم يتغيَّر، ولهم كامل الحرية في التعبير عن آرائهم في ظلِّ المواطنة والقانون والثقافة التي تحكم مجتمع المدينة في ذلكَ الوقت.
ومن المعلوم أنَ مبدأ العدل من المبادئ الرئيسية والمقاصد العظيمة التي يراد تحقيقها وجعلُها واقعاً مِنْ خلال وثيقة المدينة، وكانت عناية الإسلام به واضحة في كل بنودها. والوثيقةُ النبويةُ هنا تؤسس لمفهوم جديد للمسؤولية والحرية اللتين ترتبطان بالكرامة الإنسانية ارتباطاً وثيقاً فالله سبحانه وتعالى - الذي كرّم بني آدم - هو الذي جعل الإنسان مسؤولاً عن عملِه، فرداً وجماعة، لا يؤاخذ الواحد بوزر الآخر، ولا أمة بوزر أخرى. "كُلّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ".
رسخت مبدأ التعايش
عندما نعود إلى تاريخ مجتمع المدينة المنورة، نَجدُه كان متنوع الثقافات والأديان، فدخلَها الإسلام وكانَ لا يزال فيها اليهود وبعض المشركين، فضلاً عن التنوعات العرقية نظراً لاختلاف القبائل وثقافاتها، فلمْ يدع النبيُ صلى الله عليهِ وآله وصحبِه وسلم حينَها إلى نبذهم أو طردهم أو معاملتِهم معاملة خاصة او انقاص من حقوقهم او اكراههم، بل كانَ الاعتبار الوحيد حينَها هو الأخوّة الإنسانية وحقوقَ المواطنة المشروعة.
ومن وحي النهج الإسلامي، انطلقت "وثيقة المدينة" لترسي مبادئ العيشِ المشترك والتسامح والوئام والمحبة والتعاون بين أتباع الأديان والأعراق المختلفة الذين يعيشون معاً... فأكد فيها النبيُ صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه على احترام "الاختلافاتِ" ونبذ "الخلافاتِ"، بل أقر التعددية الدينية وحرية الاعتقاد.
فوثيقة المدينة المنورة من أعظم المواثيق الإنسانية عبر التاريخ، والتي تدل على اعتراف واحترام وجود التنوع الديني، وعلى قبول الخصوصيّات الدينية المتنوّعة للمواطنين كافة والتسامح معهم.
لقد وَجدت أديان ومذاهب وثقافاتٌ وأقوام عديدة إمكانيّة العيشِ بأمان وتسامح في ظلِّ "وثيقة المدينة"، الّتي كانت مثالاً جيّداً طبّق في الواقع العملي كأنموذج للتعايش السلمي، بين أتباع الأديان والثقافات، بشكل يسمح لأصحابِ الأديان الأخرى بالعيشِ مع المسلمين بحرية وتسامح، ولهم أن يقيموا شعائرَهم حسب رغبتِهم، ومن دون أن يتضايق أحد
العلامة السيد محمد علي الحسيني.
نداء الوطن
التعليقات (0)