فقه الجهاد
العلامة السيد محمد علي الحسيني
إن للجهاد مكانة عظيمة في الإسلام، وهو يعد من الواجبات التوصيلة، مما يدل على أهميته ورفيع منزلته وعظيم مثوبته.
وللجهاد معنى عام، وهو: «بذل الوسع وتحمل المشقة والعناء والمتاعب والتضحية والمواجهة، لدفع كل ما يواجه الإنسان سواء داخليا - كنفسه الأمارة بالسوء أو شيطانه - أو خارجيا، كالعدو المعتدي».
ومن هنا، قسم الجهاد إلى نوعين: الجهاد الأكبر، والجهاد الأصغر.
الجهاد الأكبر: إن للنفس البشرية جنودا، منهم جنود العقل أو جنود الرحمن، ومنهم جنود الشهوة أو جنود الشيطان، يتصارعون في ساحة الحرب داخل نفس الإنسان، فتجد دائما جنود الشيطان تهاجم جنود الرحمن للسيطرة على نفس الإنسان وحرفه وتضليله والوسوسة إليه، وحثه على ارتكاب المعصية وجره إلى محور الشهوات وفعل السيئات، لسقوطه في الآثام وجعله منقادا للشيطان، ورفع راية النصر للنفس الأمارة بالسوء، في الوقت الذي تقاوم فيه جنود الرحمن وتتصدى لكل المحاولات وترفض كل المغريات، وتقف سدا منيعا في وجه النفس الأمارة بالسوء، وتحافظ على رحمانيتها والالتزام بطاعة الله (عز وجل)، لتكون النفس الراضية المرضية، وهذا ما أكده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بقوله: «جاهد نفسك على طاعة الله مجاهدة العدو عدوه، وغالبها مغالبة الضد ضده، فإن أقوى الناس من قوي على نفسه».
هذا مختصر مفيد للجهاد الأكبر مع الشيطان الذي يضل الإنسان، أو النفس الأمارة التي تدعو إلى ارتكاب السيئات، حيث وصفت بعض الروايات مخالفة هوى النفس بالجهاد الأكبر. فعن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وصحبه الأخيار): «بعث سرية فلما رجعوا قال: مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس، ثم قال (صلى الله عليه وآله): أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه». إذن جهاد النفس في بنائها ومقارعتها من أعلى مراتب الجهاد.
الجهاد الأكبر في القرآن والسنة: قد ورد كثير من الآيات القرآنية والأحاديث عن معنى وفضل وأهمية الجهاد الأكبر، وتظهر أهمية تهذيب النفس وتزكيتها وما له من انعكاسات اجتماعية وفائدة دنيوية وأخروية نذكر منها: قوله تعالى: ﴿ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين﴾.
والمقصود هنا وفقا للتفسير: ومن جاهد نفسه عن الشهوات واللذات والمعاصي وهو الجهاد الأكبر، ففي مجاهدة النفس كمال الصلاح.
وقوله تعالى: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين﴾. وقد فسر الجهاد هنا بمجاهدة أهواء النفس ومحبوبيته عند الله، لما له من تأثير إيجابي على الفرد والمجتمع.
وقوله تعالى: ﴿وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوىٰ فإن الجنة هي المأوىٰ﴾، وقد فسر بنهي النفس ومجاهدتها ومنعها عن المعاصي والآثام وارتكاب المخالفات للفوز برضا الله (عز وجل) ودخول جنته، بسبب مجاهدة النفس بتركها المعاصي وعصمها عن الردى.
وقوله تعالى: ﴿قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها﴾ وقد فسر بتزكية النفس ومجاهدتها وتطهيرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل والصفات الخبيثة، والنتيجة هي الفوز عند الله (عز وجل)، والعكس من ذلك الاستسلام للنفس الأمارة، ونتيجته الخيبة والخسارة ومعصية الله (تعالى) واستحقاق عقابه.
وأما ما جاء في الأحاديث نذكر مختصرا منها:
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وصحبه الأخيار): «المجاهد من جاهد نفسه في الله»، يبين معنى وأفضلية الجهاد الأكبر للنفس بمخالفة هوى النفس.
وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «جهاد النفس مهر الجنة»، ومعناه أن للجنة ثمنا وقيمة تنال بجهاد النفس.
وعن الإمام الصادق: «اجعل نفسك عدوا تجاهده وعارية تردها، فإنك قد جعلت طبيب نفسك وعرفت آية الصحة وبين لك الداء ودللت على الدواء، فانظر قيامك على نفسك» فهذا ما ينبغي مجاهدته ومخالفة الهوى فيه.
وأختم القول حول جهاد النفس وبنائها وترويضها والمنفعة منها، بقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): «إنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق».
الجهاد الأصغر: هو القيام بكل ما يتطلبه الواجب من عطاء وبذل، وتحمل العناء والعبء والمصاعب، والتضحية بالنفس والمال، بشروط وأحكام نذكر أهمها:
- الجهاد الدفاعي: أن يكون الجهاد دفاعيا وليس ابتدائيا، بمعنى ألا يكون هجوميا، بل مشروعيته دفاعية عن الأرض وحماية الوطن والمواطنين ومتعلقاتهم.
ومن هنا، شرع الجهاد الدفاعي في الإسلام بقوله تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير}، والمعلوم أن الإسلام دين سلام لا يبدأ بالحرب. ومن هنا، فكل الحروب التي خاضها رسولنا الكريم محمد (صلى الله عليه وآله وصحبه الأخيار)، هي حروب دفاعية وليست ابتدائية إطلاقا.
- الاستئذان في الجهاد: أن يتم أخذ إذن ولي الأمر وإجازته، وهذا شرط أساسي في فريضة الجهاد، وإلا لزم الفوضى والإفساد والتهلكة والمعصية، فلا يطاع الله من حيث يعصى. وقد أكد القرآن الكريم ضرورة طاعة ولي الأمر والالتزام بأوامره: ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾.
مراتب الجهاد:
كما أن لجهاد النفس الأكبر مراتب، كذلك لجهاد العدو الأصغر مراتب، منها:
- الحج: فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وصحبه الأخيار): «سأله نساؤه عن الجهاد: أفضل الجهاد حج مبرور «الحج جهاد الضعفاء».
- قيام المرأة بالواجبات الزوجية، وحسن معاشرتها زوجها.
- الكد على العيال وطلب الرزق الحلال، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وصحبه الأخيار): «الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله».
خلاصة فقه الجهاد: نظر التشريع الإسلامي باهتمام إلى بناء النفس الإنسانية ومقارعة عدوها الداخلي، فبين أن أشجع الناس من غلب هواه، وكذلك نظر بعين الاهتمام إلى العدو الخارجي، فشرع الجهاد بقسميه: جهاد النفس والعدو المعتدي، ووجوبه ثابت عقلا وشرعا، وقد ذكر القرآن الكريم والسنة الشريفة وجوب الجهاد بقسميه، وفضله، وآثاره على الفرد والمجتمع الإسلامي، إضافة إلى بيان فضل الجهاد في الدنيا والآخرة.
والجهاد المشرع هو الابتدائي الدفاعي، ووجوب الاستئذان من ولي الأمر في الجهاد وإلا لزمت الفوضى والتهلكة والمعصية بعدم الطاعة، وأن للجهاد مراتب غير جهاد النفس والعدو، كجهاد الحج، وجهاد المرأة بحسن تبعلها، وجهاد الكد على العيال.
التعليقات (0)