الفلسفة المشائية والإشراقية
العلامة السيد محمد علي الحسيني
- شكَّل مصطلح «الفلسفة» جدلا كبيرا، وكثرت فيه التفاسير، وكما يقال: «ما لا يدرك كله لا يترك كله»، ومن هنا نؤكد أن الفلسفة تعني: حب الحكمة، والغوص في مفاهيم الأشياء وإدراك جوهرها، والكلمة يونانية مركبة من كلمتين الأوّلى: «Philos» وتعني «حب» والثانية: «sophia» وتعني «الحكمة»، فتكون الفلسفة هي «حب الحكمة».
- في هذا المقال اخترنا أهم المدارس الفلسفية، وهما: المدرسة المشائية، والمدرسة الإشراقية، وهما منهجان يختلفان في أسلوب معالجة الأفكار؛ فالمشائية تعتمد على العقل، وتنتقل من المقدمات العقلية المعلومة للحصول على النتيجة المجهولة، معتمد على التجربة والبحث العقلي، في حين أن المدرسة الإشراقية تعتمد على الجهاد النفسي لتنوير القلب والوصول به إلى بر الأمان.
- الفلسفة المشائية إحدى التوجهات الفلسفية التي تركز على العقل في البحث عن المعرفة وكشف الحقائق من خلال البحث العلمي والدراسة والتجربة والمشي العقلي بالمقدمات العلمية للوصول إلى الدليل. وإن أصول هذه المدرسة يعود إلى الفيلسوف اليوناني «أرسطو» الذي طوّر فكرة المشي والانتقال من المقدمات العقلية المعلومة إلى النتيجة، والتجوال كوسيلة لاكتشاف المعرفة الحقيقية. ومن هنا، توسعت هذه الفكرة لتشمل مجموعة متنوعة من المفكرين والفلاسفة على مر العصور. ولقد استفاد علماء الأمة الإسلامية من هذه المدرسة، واعتمدوا عليها في تطوير وتبيين المفاهيم الفلسفية في إطار العقيدة الإسلامية. ومن هنا نتوجه لمعرفة موقف الإسلام الذي يقوم أساسا على التفكر والتدبر واستخدام العقل للوصول إلى الحق، وهناك الكثير من الآيات القرآنية والروايات عن ضرورة التدبر والقياس العقلي؛ كما حصل مع سيدنا إبراهيم -عليه السلام- عندما أعمل القياس منطلقا من المقدمات العقلية للوصول إلى النتائج؛ قال تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ}.
- للعقل مكانة عظيمة في الشرائع على رأسها الشريعة الإسلامية التي تقيد كل التكاليف الإلهية بالعقل، فغير العاقل غير مكلف، والعقل هو الأساس الذي يترتب عنه الجزاء من الثواب والعقاب. ومن بين أقطاب علماء المسلمين الذين تأثروا بالفلسفة المشائية، المفكر الأندلسي الكبير ابن رشد «أفيرويس» الذي قدم العديد من الأفكار والنظريات في الفلسفة المشائية، وخاصة في مجالات الأخلاق والتعليم. كما نجد أيضًا الفيلسوف الأندلسي الآخر ابن تفيل المشهور بمؤلفه «حاشية على منهاج الطلاب» والذي ناقش فيه مفاهيم فلسفة المشي، وكذا الشنقيطي.. فهؤلاء وغيرهم من علماء المسلمين كيعقوب بن إسحاق الكندي، وأبي نصر الفارابي، ونصير الدين الطوسي، والميرداماد، وابن رشد الأندلسي، وابن باجة الأندلسي.. كل هؤلاء سعوا إلى تطوير المعرفة في العالم الإسلامي من خلال تبنِّيهم للأفكار الفلسفية المشائية وتطبيقها على العقيدة الإسلامية.
- لا شك أن الفلسفة الإشراقية في قبال المدرسة المشائية تهدف إلى المكاشفة الروحية والتجرد وإلقاء الضوء على الجوانب الروحية والأخلاقية والفلسفية للإنسان، ساعية إلى تطهير القلب من أدران الذنوب انطلاقا من الحديث: «من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه»، فإخلاص العبودية تصقل النفوس من أوساخ التعلّقات الدنيويّة بالرياضة الروحية، لتشرق العلوم والمعارف والحكمة في القلوب، لتطّلع على حقائق الأشياء. ومن المهم الإشارة إلى أن الفلسفة العرفانية تؤكد على أهمية تطوير الذات والسعي للحصول على المعرفة الحقيقية والمعنوية عبر جلاء القلب وانعكاسه لنور الحقيقة.
- ما يميز الفلسفة الإشراقية أنها تربط الجسد والروح معا لتحقيق التوازن والكمال. أما شيخ وزعيم المدرسة الإشراقية فهو شهاب الدين السهروردي «549-587 هـ»، وقد عمل على تسخير هذه المفاهيم التي يمكننا أن نستفيد منها في حياتنا اليومية، من خلال تطوير أنفسنا والسعي لتحقيق التوازن الداخلي والروحي، وفهم جوهر القيم الأخلاقية وإظهار العدل والإنصاف في التعامل مع الآخرين.
التعليقات (0)