كـتاب هايتي الأســـــــود
سلسلة من المآسي
كريستوفر كولمبوس كان وبالا على السكان الأصليين في الأمريكيتين والكاريبي .... وهو الذي كان أول من وطئت قدماه وبحارته من العالم القديم جزيرة هايتي عام 1492م . وبعدها وضع الأسبان أيديهم عليها وعاثوا في النساء والفتيات فسادا وإغتصابا فانتشرت الأمراض الوبائية (الجدري) والجنسية (الزهري والسيلان) ..إلخ. وتفشت الأمراض المعدية (الأنفونزا) التي جاء بها الأسبان من البحارة والجنود وسط الأهالي ....
وفي ظل ظروف معيشية غاية في الفقر وإجبار على العمل 16 ساعة في اليوم بدأ هؤلاء الأهالي في المقاومة فجرت إبادتهم جميعا بالبارود والحرق أحياء بالنار حتى خلت الجزيرة من سكانها تمهيدا لإحلال العبيد من الأفارقة مكانهم مزارعين وعمال لمصلحة الأثرياء الأسبان في حقول قصب السكر والموز ... ولم تنسى إجبار المسلمين من هؤلاء الأفارقة أبناء عمومة كونتا كينتي على اعتناق المسيحية وإلهائهم بالجنس والخمر والأفيون . في حين لم تهتم كثيرا بإجبار أهل الديانات الوضعية الأخرى (الفودو) على تغيير معتقداتهم قناعة منها بأنها (على العكس من الإسلام) لاتمثل خطرا يتعلق بالتنوير وردود أفعال الفرد وتطلعاته نحو الحرية والعزة والكرامة والعدل والمساواة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الإحتلال الأسباني ثم الفرنسي لهايتي
في عام 1697م تخلى الأسبان عن (حقوقهم) في هايتي وسكانها من الرقيق إلى فرنسا التي لم تكن بأفضل حالا من سابقتها حيث أستكملت السلطات الفرنسية هناك محاكم التفتيش وأجبرت من تبقى من السكان المسلمين على اعتناق المسيحية ومن لم يتخلى عن الإسلام قتلوه وأخذوا أطفاله لينشأوا في كنف مسيحيين حتى اختفى الدين الإسلامي نهائيا عن سطح الجزيرة وذاكرة الأجيال التي تعاقبت بعدها.
ثم قررت السلطات الفرنسية الحاكمة بعد فترة قطع الغابات لتصدير حطبها وقودا إلى فرنسا وتحويل أرضها إلى مزارع لقصب السكر فجلبت المزيد من أفواج الرقيق من غرب أفريقيا إلى جزيرة هايتي خلال فترة إمتدت لمدة 100 عام.
في عام 1791م وحين أسرفت السلطات الفرنسية في العسف وإستغلال العبيد من أصول أفريقية بدأ السحر ينقلب على الساحر حيث أعلن بعض الحراس والجنود المسلحين من العبيد تحت قيادة "جان جاكويز دي سالينز" الثورة على الفرنسيين ثم ما لبث أن إنضم إليهم أفواج من الرقيق اليائسون .
صورة لمعركة بين جنود بولنديين يعملون مرتزقة في الجيش الفرنسي ضد الثوار الوطنيين
بعد 13 سنة من النضال نجحت الثورة الوطنية بعد أن راح ضحيتها 100,000 من السود و 20,000 من أصل 40,000 من البيض الذين كان من ضمنهم جنود بولنديين يعملون مرتزقة لدى الجيوش الفرنسية في أمريكا اللاتينية .
في يناير عام 1804 أعلن زعيم الثوار الوطني "جان جاكويز" نفسه إمبراطوار على هايتي . وظل يحكم البلاد من عام 1804 إلى عام 1806م حيث قامت ضده ثورة أزاحته عن السلطة ولكن نشبت جراء ذلك حرب أهلية قسمت هايتي إلى جنوب وشمال.
في عام 1818م وبدعم من النخبة البويرية البيضاء في الجزيرة تم تنصيب جان بيير بوير رئيسا واستمر في السلطة حتى عام 1843م . وفي فترة حكمه عزم الملك الفرنسي شارلز العاشر على إستعادة إحتلال هياتي فأرسل جيوشه إليها عام 1825م ولكن جان بيير بوي توصل مع الملك شارلز العاشر على تسوية تدفع بمقتضاها هايتي مبلغ 150 مليون فرنك (في ذلك الوقت) إلى فرنسا تعويضا عن خسارتها لعبيدها في هايتي ثم خفض المبلغ لاحقا إلى 90 مليون فرنك فرنسي. وبعد زوال حكم جان بيير بوير عام 1843م عاشت هايتي فترة من عدم الاستقرار السياسي كان نتيجته حدوث 200 إنقلاب عسكري خلال (72 سنة) هي الفترة ما بين 1843 و 1915م
وود رو ويلسون
في عام 1915م ومن واقع الاستناد إلى (مبدأ مونرو) وأثناء إنشغال أوروبا بالحرب العالمية الأولى أمر الرئيس الأمريكي "وود رو ويلسون" قوات المارينز باحتلال هايتي.
تكريس هيمنة السيد الأبيض على العبد الأسود بالحديد والنار في هايتي (1915م)
وللأسف فقد جاء الاحتلال الأمريكي لتعزيز مكانة النخبة البيضاء ضد الأكثرية السوداء الأمر الذي عمق الجراح في الجزيرة . وما لبثت الولايات المتحدة أن إنسحبت فجأة (كعادتها دائما) عام 1934م وكدأبها في فيتنام والصومال وغيرها حين تفشل في تحقيق أهدافها تاركة هايتي نهبا للصراعات الداخلية والانقسامات السياسية العميقة التي إستمرت حتى تاريخه.
الرئيس جيمس مونرو
ويجدر الذكر أن (مبدأ مونرو) هو قرار من إبتكار سكرتير الدولة الأمريكي "جون كوينز أدامز" أطلقه الرئيس الأمريكي الخامس "جيمس مونرو" عام 1823م يحظر على الدول الإستعمارية الأوروبية التقليدية التدخل في شئون دول أمريكا اللاتينية والكاريبي .. وإعتبار كل تدخل من هذا القبيل عملا عدائيا موجها إلى الولايات المتحدة مباشرة...... وقد عملت الولايات المتحدة خلال هذه الفترة وبعدها لفرض هيمنة المستوطن الأبيض على مقاليد السلطة والإقتصاد في الكاريبي وأمريكا اللاتينية مقابل إفقار السود وإهمال حقوقهم في التعليم وإلهائهم بالخمر والجنس والمخدرات
المعالج البلدي المشعوذ "فرانكلين دوفالير"
في عام 1957م وفي لحظة يأس وطني غفا فيها التاريخ تم انتخاب طبيب شعبي ساحر مشعوذ يقال له "دكتور فرانكوين دوفالير" رئيسا لهايتي الذي أقسم بإعادة السلطة إلى الغالبية السوداء . ولكنه إنحرف عن مساره الذي انتخب من أجله وحول البلاد إلى دولة بوليسية . في عام 1964م تم إعلان دوفالير رئيسا مدى الحياة . وفي أواخر أيامه بعد أن تقدم به العمر شغل نفسه والبلاد بقضية توريث الحكم لإبنه "جان كلود" وقضت السلطات البوليسية في طريق قمعها للمعارضين على الأخضر واليابس في هايتي . وفي عام 1971م تم تنصيب إبنه "جان كلود" رئيسا لهايتي مدى الحياة.
عام 1990م وبعد ضغوط سياسية داخلية وخارجية وافق جان كلود على إجراء أول إنتخابات حرة نزيهة بإشراف أممي في هايتي . فتم إنتخاب جان برتراند أريستيد رئيسا بأغلبية ساحقة وغادر جان كلود الملقب "بيبي" إلى منفاه الإختياري في فرنسا.
لكن وعقب (8) شهور من توليه الرئاسة أعلن عن خلع أريستيد إثر إنقلاب عسكري مؤيد للرئيس السابق "جان كلود" .
فنشبت حرب أهلية ضروس أدت إلى نزوح عشرات الآلاف بقوارب صغيرة نحو ولاية فلوريدا الأمريكية حيث غرق الآلاف منهم في كارثة إنسانية غير مسبوقة خلال العصر الحديث
عام 1994م وحين استفحلت الحرب الأهلية والإضطرابات السياسية في هايتي أمر الرئيس الأمريكي بيل كلينتون قوات المارينز بالتدخل في هايتي فتم إرسال 20,000 جندي إلى هناك حيث تنازل العسكر عن السلطة تمهيدا لإعادة الديمقراطية للبلاد.
ولكن صاحب تلك الفترة من عام 1994م إكتشاف الأطقم الطبية الأمريكية المصاحبة للجنود المارينز تفشي مرض نقص المناعة المكتسب الإيدز وسط سكان هايتي وحيث كان لجنود المارينز علاقات جنسية متعددة مع النساء في ظل الإباحية الجنسية المستشرية هناك الأمر الذي عجل بإنسحاب القوات الأمريكية درءا لهذه العدوى من أن تتفشى وسط جنودهم .... ومن ثم يعتبر "الجنرال إيدز" واحدا من أهم القادة الهايتيين الذين أجبروا الولايات المتحدة على الإنسحاب من الجزيرة.
..
في عهد بوش الإبن عام 2001م عاد الرئيس أريستيد إلى السلطة ثم أضطر عام 2004م إلى مغادرة هايتي إلى المنفى.
خلال عامي 2002م و 2008م إجتاحت أعاصير الهوريكان هايتي وأدت إلى تهجير مئات الآلاف من السكان عن المناطق الساحلية.
شخص يخرج من بين الشقوق محترقا وإمرأة لم تقوى على مشاهدة المنظر فركضت باكية
في تمام الساعة 4:53:09 عصر يوم الثلاثاء 12/1/2010م ضرب هايتي زلزال قوي بدرجة 7 على مقياس ريختر يبعد مركزه 16 كيلومتر جنوب غرب العاصمة بروت- أو – برنس وأدى إلى مقتل عشرات الآلاف الذين لم يتم الفراغ من حصرهم بعد . ولكن عدد الجثث التي تم إخراجها حتى يوم 18/1/2010م وصل إلى 70,000 شخص .
صورة غلاف قصة "جزيرة الكنز"
الجدير بالذكر أن الإسم القديم لهايتي و الدومينكان هو "هيسبانولا" التي تدور فيها أحداث القصة العالمية الشهيرة التي عشقها الأطفال والكبار معا . وهي "جزيرة الكنز" التي ألفها الكاتب الأسكتلندي "روبرت لويس إستيفنسون" ونشرت عام 1883م . وتحكي قصة كنز من الذهب دفنه القراصنة في جزيرة هيسبانولا ومغامرة البعض للعثور عليه حاملين معهم خريطة توضح مكان الكنز رسمها القرصان للموقع...... وعادة ما نلاحظ أن المستعمرات قد إرتبطت دائما بالكنوز المدفونة في مخيلة الشعوب الأوروبية. ومنها على سبيل المثال قصة مناجم الملك سليمان للمؤلف "السير هنري رايدر" والتي نشرت عام 1885م وتدور قصتها في أفريقيا . وتحولت بعد ذلك إلى فيلم سينمائي شهير ... وربما كان الغرض من كل ذلك تشجيع المغامرين البيض على إحتلال أراضي الغير ونهب خيرات الشعوب (البدائية) وجلبها إلى أوروبا.
التعليقات (0)