مواضيع اليوم

كتاب العبرانيون في تاريخ المشرق العربي القديم - المقدمة والجزء الأول

القنــــــــا ص

2009-09-09 17:01:06

0

د. بشار خليف


العبرانيون في تاريخ المشرق العربي القديم
مقاربات أركيولوجية –تاريخية – نفسية

 

 

 

 

 

 

المحتويات
الإهداء............................................................4
مقدمة المؤلف.....................................................7
المدخل...........................................................13
الفصل الأول:
حضارة المشرق العربي – مليون سنة..................................20
التواجد العبراني حوالي مئة سنة في بلاد كنعان
- النطوفي السوري يؤكد الوحدة الحضارية للمشرق العربي/ بلاد الشام.26
- مراجع الفصل الأول.................................................35
الفصل الثاني:
- العصور التاريخية في المشرق العربي 3100-1250ق.م............38
- الوضع السياسي والدولي منذ 1800- نهاية 1500ق.م...............49
- استنتاجات حول العصور التاريخية في المشرق العربي...............52
- مراجع الفصل الثاني.................................................54
الفصل الثالث:
- طروء العبرانيين على بلاد كنعان الجنوبية 1250 ق.م...............57
- السبي البابلي الكبير 586 ق.م.......................................64
- مراجع الفصل الثالث................................................74
الفصل الرابع :
- التوراة في أسفار الخمسة الأولى.....................................78
- اختلاق موسى التوراتي ومناقشة معجزاته من زاوية الحقائق العلمية..82
- مملكة داود وسليمان / المملكة الموحدة /.............................89
- مراجع الفصل الرابع................................................93
الفصل الخامس:
- انتحالات التوراة من تراث المشرق العربي القديم....................96
- الكنعاني............................................................100
- الرافدي............................................................110
- مصير العبرانيين في بلاد كنعان الجنوبية...........................116
- مراجع الفصل الخامس.............................................122
الفصل السادس:
- المؤرخون الجدد في إسرائيل.......................................126
الانهيار الأخير للمدرسة التوراتية الأثرية
- مراجع الفصل السادس............................................ 136
الفصل السابع:
- مقاربة سوسيولوجية – نفسية للثقافة العبرانية التوراتية.............138
- المنحى الداخلي....................................................140
1- يهوه
2- أرض الميعاد التوراتية / الصورة الهوامية /......................144
- المجتمع للمؤسسة العبرانية الكهنوتية وليس العكس..................147
- مراجع الفصل السابع..............................................151
الخاتمة.........................................................152
الخرائط........................................................155

 

 

 

 

 

 

 

الإهداء لـ:
إلى جان
آرام
جان كارمن
رام.

تقديم
هذا كتاب يُقرأ من صفحته الأولى إلى صفحته الأخيرة.
تشدّك سطوره، وتبهرك الأفكار المتلاحقة فيها بعرض رشيق، سلس.
أسلوب الكتاب جديد، مفعم بالحيوية، يشعرك بأن وراءه تطلع شَغِف بمتابعة الحقيقة، ويترك لديك انطباعاً بأنك مُرحّب به في هذه المتابعة.
يأتي هذا الكتاب للدكتور بشار خليف بعد فترة قصيرة من صدور كتابه المهم " دراسات في حضارة المشرق العربي القديم ". ولقد أفرد لموضوع العبرانيين في تاريخ المشرق العربي القديم كتابه الجديد، ففعل حسناً بهذا. ذلك أن التعامل مع هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة مستقلة، لا سيما أن جانباً منه يتعامل مع طروحات كادت، بدوافع مشبوهة، أن تكون من المسلمات.
وهي دراسة ينبغي أن تنجز بشفافية وموضوعية ومنهجية واضحة، وأظن أن الدكتور خليف قد وفق بذلك. ومبعث ظني هذا يتجلى من خلال وضوح شخصية الباحث وأسلوبه المتميز، وقدرته على التعامل المباشر مع الفكرة، والانتقاء الصحيح لما يقتبس وبلورة الدليل منه.
وقد يتوقف القارئ في أكثر من موضع أثناء قراءته للكتاب، لا لينشد استراحة وإنما ليتمنى استفاضة أكثر في الطرح أو لتأمل ما هو مطروح والإحساس بالتآلف معه.

 

أ.د نائل حنون / العراق /
أستاذ اللغة الأكادية وآدابها
جامعة دمشق

" إن الحفريات الأثرية المكثفة في أرض (إسرائيل) خلال القرن العشرين، قد أوصلتنا إلى نتائج محبطة،
كل شيء مُختلق،
ونحن لم نعثر على شيء يتفق والرواية التوراتية.
إن قصص الآباء في سفر التكوين / ابراهيم – يعقوب – اسحق / هي مجرد أساطير.
نحن لم نهبط إلى مصر، ولم نخرج منها.
نحن لم نته في صحراء سيناء.
نحن لم ندخل إلى فلسطين بحملة عسكرية.
وأصعب الأمور أن المملكة الموحدة لداود وسليمان التي توصف في التوراة بأنها دولة عظمى، كانت في أفضل الأحوال مملكة قبلية صغيرة.
إنني أدرك باعتباري واحداً من أبناء الشعب اليهودي وتلميذاُ للمدرسة التوراتية، مدى الإحباط الناجم عن الهوة بين آمالنا في إثبات تاريخية التوراة، وبين الحقائق التي تتكشف على أرض الواقع "

عالم الآثار الإسرائيلي " زئيف هيرتزوغ "
( صحيفة هآرتس 28/10/1999 )
نقلاً عن السفير اللبنانية 1/11/1999


مقدمة المؤلف

ترى، ما الذي يدفع كاتباً مثل هينريك هايني الألماني واليهودي كي يقول لأحد رجال الدين اليهود في أحد مؤلفاته:
" يبدو لي أنني حتى في أحسن عصوركم، في ظل ملككم داود، وفي عصركم الذهبي، كنت سأفرّ منكم لأركض نحو هياكل آشور وبابل التي كانت ملأى بالحب ومرح الحياة "
وأيضاً، ما الذي يدفع مؤرخاً على قدر كبير من الأهمية هو الفرنسي جان بوتيرو، والذي بدأ في دراسته أولاً للتوراة وعالمها الكهنوتي، ثم انعطف نحو دراسة حضارة المشرق العربي القديم ووثائقه ليصل في النهاية إلى القول:
" هناك نقطة ما زلت أتمسك بها وهي أن علم الآشوريات/ الوثائق المسمارية / يملك امتيازاً عظيماً جداً وثميناً جداً.
لقد جعلني عاجزاً عن إيذاء أي كان في العالم، عن إزعاج أي كان.
عن تعكير صفو أحد. ألا يعتبر ذلك في هذه الأوقات امتيازاً مدهشاً وشديد الندرة.
لقد حيّدني علم الآشوريات وجعلني جذرياً، غير مؤذ، لذا تمسكت به وما زلت مثابراً "

 

ثم، ماذا يعني قول الكاتب اليهودي " اسحق دويتشر ":
" هل سنقبل الآن أن تكون الروابط العرقية أي ( نداء الدم ) هو الذي يصنع المتحد اليهودي ؟ ألا يكون ذلك انتصاراً لهتلر وفلسفته الساقطة ؟ "
إن هذه الأقوال وغيرها الكثير الكثير، تدفع المرء للتأمل ليس فيما حوته بقدر ما يكمن وراءها.
فالمعلوم أن وثائق المشرق العربي القديم منذ الألف الثالث قبل الميلاد وعلى مدى الألف الثاني ثم الألف الأول مع النقوش الآرامية والهيروغليفية المصرية، كل هذه قدمت بانوراما كاملة وواسعة لطيف الحياة المشرقية والمصرية من فنون واعتقادات وذهنيات وأساطير وعلوم إلى ما هنالك.
بالإضافة إلى الشواهد الضخمة من العمران والمدن وفيض الإبداع المجتمعي أولاً وحكماً الإنساني، ولعل كل هذا هو ما دفع مؤرخاً مثل " جان بوتيرو" لقوله السالف والذي يعني أن هكذا تراث يعيد صياغة الإنسان وفق ناظم إنساني خلاّق يشكّل جوهر الوجود الإنساني.
ولعل ما سنناقشه في هذا المؤلف، سيخلق حالة متضادة على صعيد الحياة البشرية، فوسط الإشراق الهائل الذي أوضحه " جان بوتيرو " مثلاً سنلحظ أن ثمة جانباً قاتماً عبّر عن نفسه، بما يعاكس ناظم الاجتماع البشري الخلاق. وهذا ليس افتراضاً، بقدر ما هو استنتاج فرضته الحقائق والمعطيات الأثرية والتاريخية.
وإن كانت المؤسسة الكهنوتية العبرانية قد استطاعت فرض توراتها على العلوم بمناحيها المختلفة ولا سيما علم الآثار وعلم التاريخ ولفترة طويلة حتى استطاعت أن تفتل العقل الغربي عن محوره العلمي، إلا أن هذا العقل الذي كشف مواقع حضارة المشرق العربي القديم ووثائقه، استطاع أن يعلن بدء انفكاك الوهم التوراتي عن الحقائق الأثرية العلمية ولو بشكل خجول في البدء / خوفاً أو حذراً /، لكنه استطاع أخيراً أن يؤسس لمدرسة جديدة وحقيقية، عنيتُ مدرسة الآثار الغربية الجديدة التي نفضت عنها أوهام الكهنوت لتعلن بداية عصر آثاري علمي جديد.
وليس أدل على ذلك، من مؤلفات " توماس طومسون " والذي طرد من جامعة ميلووكي في الولايات المتحدة الأمريكية نتيجة لأطروحاته المناوئة للمدرسة التوراتية.
ثم كيث وايتلام وجان بوتيرو وزينون كاسيدوفسكي وغيرهم.
ثم سوف تكرّ المسبحة باتجاه " إسرائيل " حيث نشهد منذ الثلث الأخير من القرن العشرين بروز تيار أطلق عليه تيار " المؤرخين الجدد " الذي كان يسعى قبل هذا إلى إثبات شرعية إسرائيل التاريخية على حساب الآثار المشرقية العربية في جنوب بلاد كنعان. ونتيجة للإحباط والفشل في مهامه بدأ أنصار هذا التيار يواجهون أنفسهم ومؤسساتهم الزمنية والكهنوتية، حتى أعلنوا صراحة بطلان وزيف النظرية التوراتية الآثارية التاريخية وهذا ما يمنح بعداً معرفياً وعلمياً لجهة إسقاط الشرعية التاريخية عن " إسرائيل ".
والحقيقة، أن للعبرانيين في المشرق العربي، تاريخ متخيّل عبّر عن نفسه بالتوراة. وتاريخ واقعي عبّرت عنه المعطيات الآثارية والتاريخية بشكل ضحل وخفيف ويبدو أنه من الحيف أن يذكر وسط حضارة المشرق العربي الواغلة في القدم والمعبّرة عن مكنوناتها في الاستقرار والتفاعل والتمازج والانفتاح الإنساني وجملة المنجزات الحضارية التي أسست لتطور الحياة الإنسانية.
وكما هو معلوم فإن طروء العبرانيين إلى بلاد كنعان الجنوبية وتواجدهم فيها بشكل أولي وبثقافة رعوية منغلقة لحدود 100عام، لا تدفع المرء إلى الاعتقاد بإنجاز عبراني ما.
فالمعلوم أن المجتمعات الإنسانية لا يمكن لها أن تحقق تقدماً ومنجزاً حضارياً، إن لم تكن تمتلك أرضية للاستقرار أولاً وللتفاعل ثانياً، وتمدّنا علوم الاجتماع الإنساني بأن تراكم المنجز لا يمكن أن يتم إلا بتبلور معالم الاستقرار والتفاعل الاجتماعي – الديمغرافي ثم تفاعل البيئة الاجتماعية مع البيئة الطبيعية والمحيط الحيوي.
وعلى هذا نفهم من خلال هذا المؤلف أن ثمة تضاداً يفرض نفسه، بين عالم أصيل ومنفتح وإنساني تجاه عالم مؤقت وطارئ لا يتحقق معنى وجوده إلا بتحطيم العالم الأول.
هكذا كانت حضارة المشرق بإشراقها مقابل نقطة ظلام خلخلت هذا التجانس الحضاري والإبداع الإنساني.
أيضاً، سوف نلحظ من خلال مناقشاتنا في هذا الكتاب إلى أن ثمة تماه بين مؤسستين يفصل بينهما 2500 عام تقريباً،
عنيتُ المؤسسة الكهنوتية العبرانية في حوالي منتصف الألف الأول قبل الميلاد، والحركة الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر.
فإن كانت الصهيونية قد قامت كرد فعل على ذوبان اليهود في المحيط الذي يتواجدون فيه / دويتشر/، فكذلك كان قيام المؤسسة الكهنوتية البدائية قبل حوالي 2500عام.
وعليه، نكون إزاء منظومة قيمية منغلقة وإستعلائية تحاول فرض إشراطاتها ومصالحها على ما سواها وهذا ما نحن في خضمه منذ اغتصاب فلسطين في حوالي منتصف القرن العشرين، مع فارق في الواقع الديمغرافي اليهودي.
فإن كان أولئك هم اليهود الشرقيون، فإن هؤلاء لا يمتّون بأوهى صلة لليهود ومعظمهم يعود للمتهودين الخزريين. وعلى هذا نفهم قول دويتشر:
" إن دولة إسرائيل هي قبل كل شيء من صنع يهود / والأصح متهودي / أوروبا الشرقية ولا سيما يهود روسيا وبولونيا وليتوانيا.. وعندما أعلنت الدولة الإسرائيلية عام /1948/ كان الإسرائيليون من أصل روسي وبولوني يشكلون ما يقرب من نصف السكان فيها ".
والحقيقة التي ينبغي أن تفرض نفسها، هي أن المشرق العربي لا يمكن عبر خصائصه المجتمعية – الإنسانية أن يهضم من لا قدرة له على " الانهضام !"
وأن الحقائق العلمية/ آثارية وتاريخية / تقدّم الأدلة على أصالة حضارة المشرق العربي التي تعود إلى مليون عام مقابل فترة طروء هزيلة لا تتعدى المئة عام / بين 1040-932 ق.م/ للعبرانيين، ثم فترة ما بعد السبي والتي لا تتعدى ثمانين عاماً / بين 142-63 ق.م /.
واعتباراً من 135 م سوف يتم اقتلاع جذور جماع السكان اليهود من فلسطين.


- اسحق دويتشر – من هو اليهودي – ت: نجاة قصاب حسن. دار العروبة – سورية 1967.
- نستخدم " التوراة " كصيغة مذكّرة وفيما نعنيه كتاب التوراة.
- جان بوتيرو. بابل والكتاب المقدس – ت: روز مخلوف – دار كنعان- دمشق 2000.
- اسحق دويتشر – مرجع سابق
في هذا المجال نقترح على القارئ الكريم أن يكون لديه إلمام بالتوراة، أو أن تكون مقروءة على الأقل، حيث أننا تجنبنا في هذا الكتاب الدخول في تفاصيل الأسفار كي يكون الهدف مكثفاً وواضحاً في آن. مع الحفاظ على منهجية البحث، بحيث يستطيع القارئ أن يشاركنا بحثنا بشكل أو بآخر.
 

 

 

 

 

 


 المدخل 
تُجمع الدراسات التاريخية الحديثة والمستندة إلى حقائق التنقيبات الأثرية التي جرت في فلسطين، على انعدام أي دليل أثري أو مادي أو كتابي يؤكد وجوداً عبرانياً حقيقياً وفاعلاً في بلاد كنعان الجنوبية.
لا بل إن الدراسات الرصينة والعلمية لكبار الباحثين والأركيولوجيين تُشكك في وجود عبراني منظم وفاعل في مصر، ومن ثم في اختلاق قصة الخروج من مصر عبر سيناء إلى بلاد كنعان واقتحام هذه بحملة عسكرية ضخمة.
وما يزيد من مصداقية هذا الطرح، أن ثمة اتجاهات لدى الأركيولوجيين الإسرائيليين المعاصرين تؤكد كل ذلك وهم ما اتفق على تسميتهم بالمؤرخين الجدد.
أيضاً، تبين نتيجة الدراسات والأبحاث الموضوعية أن كتاب التوراة ولا سيما في أسفاره الخمسة الأولى / التكوين – الخروج – اللاويين – العدد – التثنية / والتي جُيّرت لموسى التوراتي، تبيّن أن لا رابط بينها وبينه، حيث كتبت بعد حوالي / 600/عاماً من وجوده المفترض في التوراة، وقد كتبها الأحبار اليهود، رواد المؤسسة الكهنوتية العبرانية إبّان السبي البابلي.
حيث أن " الحقائق التاريخية "! التي ذكرها الأحبار، أخذت مفاعيلها مع الزمن، وبات التاريخ الإنساني بشكل عام، وتاريخ المشرق العربي ومصر بخاصة يُقراً وفق الرواية التوراتية. إلى أن بدأت الكشوفات الأثرية بدءاً من القرن التاسع عشر تميط اللثام عن المخزون الحضاري التاريخي والكتابي بدءاً من الجناح الشرقي الرافدي للمشرق العربي، ثم تتالت الكشوفات على مدى مواقع المشرق إلى يومنا هذا.
ولعل الهزة الأولى التي بدأت تزلزل رواية التاريخ التوراتي، شكّلت مفصلاً هاماً في إسقاط النظرية التوراتية في قراءة تاريخ منطقة المشرق العربي.
ففي 3/12/1872 وقف جورج سميث أمام جمعية الآثار التوراتية في لندن ليعلن اكتشاف رقم مسمارية في موقع مدينة نينوى، تحتوي على وقائع مشابهة بشكل صميم لرواية الطوفان التوراتية، بما يعني أن التوراة أخذ هذه الرواية من وثائق المشرق العربي القديم.
وبذا يصرح سميث " أن التوراة لم يعد هذا الكتاب الذي يختلف عن بقية الكتب..وليس الكتاب الذي أملاه الله أو كتبه بنفسه ".1
وباطراد ومع المزيد من الكشوف والوثائق لمواقع بابل وأوغاريت وإبلا وماري ونوزي وأور...الخ. اتضح أن معظم مرويات التوراة ولا سيما في أسفاره الخمسة الأولى، منحولة عن تراث المشرق العربي الذهني والفكري والأدبي والحقوقي ومنها ما هو مختلق ولا يتناسب مع روحية المشرق العربي المنفتحة.
ولعل الأمر الأخطر من هذا، هو تعّمد كتّاب التوراة إلى صياغة مفترضة وهجينة لتواجدهم في المشرق العربي وذلك عبر إرجاع تواجدهم المزعوم في البدء إلى مدينة ( أور ) الرافدية عبر جدّهم المزعوم ابراهيم التوراتي وذلك في حوالي 1900 قبل الميلاد.
ثم وبنتيجة طروءهم على بلاد كنعان في نهاية الألف الثاني قبل الميلاد حيث بالغوا وضخموا من أخبارهم بما نفته الحقائق الأثرية. وهذا ما سنناقشه في سياق بحثنا.
كل هذا، يندغم مع وجودهم الافتراضي في مصر وقصة خروجهم منها بقيادة موسى التوراتي، بما نفته أيضاً الحقائق الأثرية والعلمية.
والغريب في كل هذا، أن الدارس لهذا الأمر يلاحظ مبلغ التضاد والتعاكس بين النفسية المشرقية الحضارية المنفتحة وبين نفسية المؤسسة الكهنوتية التوراتية التي خطّت التوراة في أسفاره الخمسة الأولى بما يعطي انطباعاً غير مألوف ومضاد لنفسية المشرق العربي وذهنيته بحيث يمكننا إيجاز ذلك بالقول أننا أمام صراع بين نفسية منفتحة وحضارية مقابل عالم ظلامي، مغلق، متحجر وحاقد كلّله الأحبار في توراتهم من أجل أن يبقى المجموع العبراني دون تفاعل مع محيطه وبالتالي الذوبان فيه.
أيضاً، لا يمكن فهم عقيدة التوراة عبر (يهوه) الإله الخاص لشعب مختار في أرض مختارة له، إلا من منظور عنصري ألصقته نفسية الأحبار بإلههم / الذي جاء مماثلاً لما يعتلج في خافيتهم/ لا شعورهم الجمعي/.
وعليه بتنا نفهم أن هذا التحجر والانغلاق والعنصرية الذي سعت المؤسسة الكهنوتية التوراتية إلى تكريسه لدى المجموع العبراني، كان من نتائجه تعرض العبرانيين عبر تاريخهم إلى النبذ والتأديب من قبل شعوب الأرض، فهو نتيجة لا سبب.
وعلى هذا نفهم لماذا أدّبهم المصريون في نهاية الألف الثاني قبل الميلاد حين كانوا عبارة عن قبائل مرتحلة تعيش على السلب والنهب والارتزاق في أطراف بلاد كنعان.
ثم تعرضهم لتأديب الكنعانيين والفلسطينيين والآراميين والآشوريين والبابليين.
ويتبدى هذا الأمر جلياً في العصر الهلسنتي الذي اتسم بالتفاعل والتلاقح الفكري والحضاري بين الشعوب، فكان طبيعياً أن يتعرضوا لتأديب السلوقيين وصولاً إلى العصر الروماني حيث سيتم تدمير هيكلهم وتشتتهم في المحيط التاريخي الحيوي. وهؤلاء من يشكّلون بالأدبيات المعاصرة " اليهود الشرقيون " والذين لا رابط يربطهم مع المتهودين الخزريين / نسبة إلى إمبراطورية الخزر/ الذين اغتصبوا فلسطين في منتصف القرن العشرين وهم ينظرون إلى اليهود الشرقيين على أنهم أدنى مقاماً منهم.
تجاه كل هذا، سوف يكون اتجاه بحثنا يعتمد على مناقشة التواجد العبراني في المشرق العربي اعتماداً على المكتشفات الأثرية وبعيداً عن مبالغات ومغالطات التوراة واختلاقاته لا بل ودحضها.
بالإضافة إلى مناقشة المرويات التوراتية المنتحلة من تراث المشرق، وما سمي بخوارق موسى التوراتي، مروراً باصطلاح السامية ووصولاً إلى الإضاءة على حركة فكرية إسرائيلية جديدة أطلق عليها " المؤرخون الجدد " والذين أصبحوا يشكلون عبئاً معرفياً على البديهيات التاريخية التي سعت إليها المؤسسة الكهنوتية التوراتية وتالياً الحركة الصهيونية.
والذي نعتقده أن لا إمكانية لدراسة من هذا النوع، تكون مجدية، إن لم نسعى للإضاءة على حضارة المشرق العربي القديم بجناحيه /الرافدي والشامي/ لتبيان مدى ضحالة وضآلة فترة التواجد العبراني نسبة إلى عمق التواجد الحضاري للمشرق، عنيتُ فلسطين. بحيث أن تتبع خط الإشغال البشري المشرقي المتواصل والذي بدأت ملامحه بالوضوح والتبلور مع الثقافة النطوفية صعداً نحو العصور اللاحقة، ستقدم دليلاً واضحاً مستنداً على الحقائق الآثارية والأنثروبولوجية وغيرها، على أن حركة الاجتماع البشري لكامل المشرق العربي آنذاك أخذت طابعاً تواصلياً ومستمراً حتى العصور اللاحقة وبشكل متجانس حتى طروء العبرانيين إلى أرض كنعان.
وإن أهم خاصية في حركة الاجتماع المشرقي كانت تتأسس على فعل التمازج والتفاعل الديمغرافي بين الأرومات الاجتماعية المختلفة بما يشكل في النهاية محصلة تعبّر عن كل هذا في نشوء شخصية مجتمعية منفتحة وأصيلة بنفس الوقت، عنيتُ، الشخصية المشرقية العربية.
والذي يبدو أن من شذّ عن هذه القاعدة كان التجمع العبراني الذي رفض قادته ومؤسسته الكهنوتية تفاعله مع محيطه الطبيعي أثناء طروءه على بلاد كنعان.
وعلى هذا يلاحظ أن آلية حركة التاريخ في المشرق لم تخلق ثنائية متضادة بين مؤسساته وبين الشعب المشرقي بمعنى أن المؤسسات كانت للمجتمع، في حين أن التجمع العبراني عانى من تدخل رجال الكهنوت المنغلقين ما أدى إلى اعتبار أن المجتمع العبراني عبر تاريخه كان للمؤسسة الكهنوتية وليس العكس.
وهنا برأينا يقع سبب هذه الإشكالية التي عصفت بالمشرق العربي القديم وصولاً إلى العصر الحاضر.

 


ثبت المراجع والهوامش:
المدخل:
1- جان بوتيرو- التوراة والمؤرخ- ت: عبد الهادي عباس- جهاد هواش – دار الحصاد – دمشق1990.

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الأول

 

 

 

 

 

 

 

حضارة المشرق العربي – مليون سنة

التواجد العبراني 80-90 سنة / في بلاد كنعان الجنوبية /

على قاعدة أن الأداة الأولى التي صنّعها الإنسان القديم في المشرق العربي، تعبّر عن بدء الحضارة الإنسانية فيه، فإن الدلائل الأركيولوجية تقدم معطيات على أن الحضارة في المشرق بدأت مع حوالي مليون سنة إلى مليون ونصف المليون سنة(2). وذلك عبر ثقافة المجتمعات الأولية المنتصبة / نسبة للإنسان المنتصب الذي يؤرخ تواجده في حوالي مليون ونصف المليون سنة/.
وقد توثق ذلك في موقع ست مرخو في اللاذقية حيث عثر فيه على أدوات حجرية مصنّعة من فؤوس ومعاول وقواطع وسواطير وشظايا نوى صنعها إنسان المشرق آنذاك واستخدمها في شؤون حياته المختلفة ويرقى هذا الموقع إلى مليون سنة.
كما قدم العبيدية في فلسطين والذي يؤرخ في حوالي 700.000سنة أدوات أكثر تطوراً وتقنية من موقع ست مرخو، وهذا يعود للتطور المتبدي في البنية الدماغية الإدراكية لدى هذا الإنسان. والجدير ذكره هنا هو أن موقع العبيدية قدّم آثاراً إنسانية للإنسان المنتصب هي عبارة عن أجزاء من جمجمة وأسنان (3).
أما موقع اللطامنة في سورية والذي يرقى إلى حوالي نصف مليون سنة، فقد أمدنا بلغة تشي بحصول تطورات مهمة في طرق تصنيع الأدوات الحجرية كما تنوع شكل الفؤوس المصنّعة.
ولكن الشيء المهم هنا هو العثور في هذا الموقع على أول دليل عمراني / خارج أفريقيا / يوثق على أنه أول معسكر سكني سليم يعثر عليه ويعود لنصف مليون سنة.
حيث أصبحنا هنا أمام وجود لأرضيات سكن أصيلة، أما الأكواخ فقد صنعت من الجلود الحيوانية والأغصان والأعشاب كما لوحظ أنها سندت بالحجارة.
وقد قدم هذا الموقع أدواته الحجرية المتطورة عما سلف من مواقع، كالفؤوس اليدوية والمعاول والمقاحف والسواطير.
ولعل ما تجدر الإشارة إليه هنا، هو العثور في هذا الموقع على دلائل هي الأولى حول استخدام النار في المشرق حتى الآن.
ويشير الدكتور " سلطان محيسن " إلى أن لغة المجتمعات المنتصبة ليست معروفة و" لكننا نخمن وجود تقارب شديد بين لغات أو لهجات سكان بلاد الشام آنذاك لأنهم لم يكونوا معزولين عن بعضهم البعض بشكل كامل وإنما قامت بينهم صلات وعلاقات حضارية متنوعة " (4).
وفي الفترة بين /100.000-250.000 /سنة سيلاحظ ازدياد في عدد سكان بلاد الشام وزيادة المواقع المستوطنة بحيث انتشرت المجتمعات المنتصبة إلى مناطق البادية والفرات وإلى الشرق من نهر الأردن والبحر الميت في فلسطين.
وكدلالة أثرية على وجود تجانس حضاري مبكر يعود لتلك الفترة فقد قدمت الكشوفات الأثرية لقى آثارية هي عبارة عن فؤوس على شكل لوزة أو قلب بحيث تجلى ذلك في أغلب مواقع المشرق تلك الفترة ما يعطي دلالة على ظهور تقليد حضاري واحد في أغلب مجتمعات بلاد الشام.
وأهم مواقع هذه الفترة هي موقع القرماشي على حوض نهر العاصي الأوسط. وموقع مغارة الطابون وهولون ومعان وباروخ في فلسطين. وفي الأردن موقع عين الأسد وموقع منطقة الأزرق، وفي لبنان موقع رأس بيروت.
ومع أواخر هذه الفترة التي يمكن تحديدها بين/80.000- 150.000/ سنة مرت مجتمعات المشرق المنتصبة بفترة انتقالية شهدت تغيرات حضارية مهمة وربما عرقية شملت بلاد الشام كافة. والملاحظ في هذه الفترة هو ميل المجتمعات للارتباط بالأرض، دلّ على ذلك تراكم السويات الآثارية ومعطياتها في نفس الموقع وفوق بعضها البعض وبعشرات الأمتار.

مجتمعات النياندرتال المشرقية 40.000-100.000 سنة:
في هذه الفترة ظهر وعي ظاهرة الموت لأول مرة في التاريخ البشري، وأخذت مناحي الحياة كافة بالتطور والذي تبدى أن مواقع المشرق في هذه الفترة شهدت تفاعلاً اجتماعياً أكبر مما قبل.
ومن أهم مواقع هذه الفترة: موقع الديدرية قرب حلب، موقع كهف الدوارة وجرف العجلة وأم التلال وأم قبيسة وبئر الهمل ومغاور جبل سمعان. هذا في سورية، أما في فلسطين فنجد مغارة الطابون والعامود والسخول وجبل قفزة. وفي لبنان موقع العصفورية وفي الرافدين موقع شانيدار.


مجتمعات الإنسان العاقل في المشرق العربي 12000-35000سنة:
مع هذا الإنسان أصبحنا أمام جدنا المباشر، صانع الحضارة المتواصلة إلى الآن.
والذي يبدو أنه مع هذه الفترة بدأت بالظهور بوادر تخصص حضاري محلي، بحيث نشهد ممارسة للفنون الأولى وتحقيق المجتمعات خطوات كبيرة في مختلف أوجه الحياة الاجتماعية والفنية دلت على خصوصية حضارية ارتبطت بمناطق جغرافية محددة.
ومن أهم مواقع هذه الفترة: موقع يبرود/ الملجأ الثاني / - منطقة الكوم وتدمر في سورية.
وفي فلسطين: موقع مغارة الواد – مغارة الأميرة.
وفي لبنان: موقع كسار عقيل. (5)
والذي يبدو أن المناخ لعب دوراً سلبياً في حياة المجتمعات العاقلة لهذه الفترة، فلم تشهد هذه المجتمعات تطورات كبيرة بل نسبية، بانتظار أن يعم الدفء من جديد مع الفترة التي تليها، عنيتُ – فترة الثقافة النطوفية التي شكلت منعطفاً حضارياً حاسماً لنشوء الزراعة وتدجين الحيوان وما استتبع ذلك من توطد الاستقرار وتطور في الحياة بوجوهها المختلفة.

الثقافة النطوفية في المشرق العربي 10000ق.م – 8000ق.م:
أكدت المكتشفات والأبحاث الآثارية على وجود ترابط حضاري متين لمجتمعات المشرق العائدة لهذه الفترة والتي سميت بذلك نسبة لموقع وادي النطوف في فلسطين.
ويشير الباحث الفرنسي (كوفان) إلى عمق وتواصل حضاري امتد من وادي النيل في الغرب وحتى الفرات في الشرق. (6)
ويلاحظ مع بداية هذه الفترة غياب الحضارات ذات الانتشار العالمي الواسع وبدء ظهور حضارات محلية في أصلها وتطورها ارتبطت بجغرافية محددة واكتسبت طابعاً حضارياً مميزاً.
والذي يبدو أن سياق التفاعل الاجتماعي منذ الفترة السابقة مضافاً إليه تفاعل البيئة الاجتماعية مع البيئة الطبيعية والوسط المحيط أديا إلى بروز هذه الخصائص المجتمعية الحضارية لمجتمعات المشرق العربي النطوفية.
يشير الدكتور" سلطان محيسن " إلى أن الثقافة النطوفية في بلاد الشام هي الشاهد الأفضل على بواكير الوحدة الحضارية حيث يستند على مقولة جاك كوفان من أن النطوفيين انتشروا على مساحة واسعة من وادي النيل في الغرب وحتى وادي الأردن ووادي الفرات في الشرق.
وهذا ما أكدت عليه مكتشفات أثرية لمواقع حلوان في مصر والمريبط والبيضا وأريحا في بلاد الشام.(7 )
ويبدو أنه وباطراد مع الزمن سنلاحظ أن الجامع الحضاري المشترك أخذ بالتبلور وهذا ما تبدى جلياً في الحياة الاقتصادية والاجتماعية وبشكل خاص كان أكثر وضوحاً في المجالات الروحية والدينية والفنية.
ويلاحظ أن ثمة انتشاراً لمعطيات فنية متشابهة على مدى مواقع المشرق النطوفية وهذا ما قدمته مواقع عين ملاحة وأم الزويتينة ووادي فلاح ومغارة الواد في فلسطين.
كما أن بناء البيوت الدائرية وتصنيع الأدوات الحجرية الصغيرة إلى ما هنالك والذي شمل مختلف مواقع المشرق وصولاً إلى وادي النيل يعطي دلالة على ظهور وحدة متجانسة حضارياً آخذة بالتبلور باطراد مع الزمن.
إن المنعطف الحضاري الحاصل في هذه الفترة والذي تجلى في بواكير الزراعة وتدجين الحيوان سوف يسهم في تكريس معالم الاستقرار في الفترات اللاحقة حيث أننا الآن أمام ظهور مبكر للزراعة امتد من سيناء وحتى سهول عربستان ومن سفوح جبال طوروس وزاغروس وسهول الجزيرة الشامية وحتى وادي الأردن(8). وهذا ما تبلور مع نهاية الألف التاسع ق.م.
وتؤكد هذه المعطيات مكتشفات مواقع الكبارا ووادي النطوف ومغارة شقبة في فلسطين وفي الرافدين موقع شانيدار وزاوي جيمي.
وبحلول الألف العاشر انتشرت الثقافة النطوفية من سواحل المتوسط الجنوبية وحتى كيليكيا في شمال سورية مروراً بالبادية السورية وحوض الكوم والفرات وجنوباً نحو منطقة الأزرق في الأردن. حتى صار بإمكاننا القول أن التقاليد الزراعية المبكرة الواحدة عمت كامل مناطق المشرق آنذاك.
من مواقع جيرود ويبرود والكوم حمر وعفرين في سورية مروراً بمواقع فلسطين كموقع الخيام ووادي الفلاح. ومواقع جعيتا وملجأ برجي في لبنان. وفي الأردن موقع البتراء وخزنة. بالإضافة إلى موقع زرزي وشانيدار وزاوي جيمي في العراق.

 

النطوفي السوري يؤكد الوحدة الحضارية لبلاد الشام والمشرق:

نتيجة الكشوفات النشيطة حول الثقافة النطوفية في فلسطين وقيام هذه الكشوفات بوقت مبكر.. حاولت الدوائر الآثارية التي تلعب في الظلام أن تكرس بأن الثقافية النطوفية هي حضارة فلسطينية بحتة ولا رابط لها مع الثقافة النطوفية في بلاد الشام وتحديداً سورية. في محاولة لتجزيء الوحدة الحضارية والتاريخية لبلاد الشام منذ ذلك الوقت المبكر.
ولا تخفى هنا الخلفية السياسية والعنصرية في هذا الطرح، وهو ما يرتبط بواقع " إسرائيل " السياسي الحالي.
لكن الكشوفات السورية النطوفية الحديثة أكدت أن المواقع النطوفية السورية بكل معطياتها قدمت الدليل على وجود ثقافة نطوفية واحدة في بلاد الشام وذلك في أوجه الحياة العمرانية والفنية والدفنية وأدوات الزراعة.
ولعل أهم مواقع النطوفي السوري جاءت من النبك ووادي فليطة والبادية السورية وحوض الفرات( نهر الحمر)، ومنطقة درعا( الطيبة) وعفرين وجيرود.
وكان لما قدمه موقع المريبط على حوض الفرات وموقع أو هريرة المنعطف الحاسم في تكريس أن الثقافة النطوفية في بلاد الشام هي ثقافة تستند على وحدة حضارية واحدة تشمل كل المواقع النطوفية.
وقد بدأت الأبحاث الرصينة تؤكد على أن النطوفي السوري الذي تجلى في المريبط يُشكل النصف الآخر للنطوفي الفلسطيني في موقع الملاحة بكل ابتكاراته وإبداعاته.
يقول الدكتور محيسن: " إن الأبحاث الجارية أكدت وجود حضارة نطوفية جسدت وحدة حضارية هي الأقوى من نوعها بين مختلف أرجاء المشرق العربي القديم وامتدت بلون واحد وبسحنات محلية من النيل إلى الفرات ومنذ الألف العاشر قبل الميلاد ".
الجدير ذكره أن الثقافة النطوفية المشرقية ساهمت في إنشاء الأساس المادي والفكري المباشر للانعطاف التاريخي والأهم في تاريخ البشرية الذي تجلى في الانتقال من الصيد والالتقاط إلى الزراعة والتدجين. وهنا مسار حضاري جديد ينبعث من قبل المشرق العربي. " ( سلطان محيسن 1994)
والشيء المهم في هذه الفترة والذي يدحض مزاعم الدوائر الاستشراقية والإسرائيلية هو أن الأبحاث العلمية الرصينة أكدت أن ثمة تجانساً حضارياً امتد من وادي النيل وحتى حوض الفرات، حيث تشير تلك الأبحاث إلى سيادة نوع عرقي واحد يعرف بالعرق المتوسطي القديم.( 9)
وطالما أن اتجاه بحثنا يركز على الجزء الجنوبي الغربي من المشرق العربي، فلا بد لنا أن نستعرض منجزاً مهماً يؤرخ في حدود الألف الثامن قبل الميلاد.
فقد تم الكشف عن مدينة تعود إلى هذه الفترة تشكّل إلى الآن أول مدينة في التاريخ، عنيت مدينة أريحا في فلسطين. حيث عثر على موقع عمراني ضخم متقدم نسبة إلى عصره وهذا ما أعطى دلالة على وجود سلطة إدارية واجتماعية مقتدرة.
الموقع عبارة عن قلعة محاطة بسور طوله /8/ أمتار وعرضه /3/ أمتار وارتفاعه /8.5/ متراً. ويستند إلى هذا السور الحجري، برج حجري عرض قاعدته /10/ أمتار وارتفاعه /8.5/ متراً.
ولوحظ وجود خندق حول القلعة بعرض ثمانية أمتار وعمق حوالي مترين ونصف.
وقد أكدت الدراسات أن سكان هذا الموقع مارسوا الزراعة وقاموا بتجارة الملح الذي تم استخراجه من البحر الميت كما أنهم استخرجوا الكبريت من وادي الأردن.
وتبدى في بعض أماكن هذا الموقع وجود استيطان بشري متواصل على مدى 22سنة متتالية (10). ومع نهاية الألف التاسع قبل الميلاد دخل المشرق العربي في عصر الزراعة والتي ستخلق جملة من القيم الجديدة والمعايير والرموز في كافة أوجه الحياة مما يضفي الاستقرار على المجتمعات آنذاك ويزيد من خبرتها في التفاعل مع الطبيعة باتجاه السيطرة عليها وما يستتبع ذلك من ظهور بواكير التجارة والتبادل التجاري عبر تبادل السلع والخبرات.
ومن أهم مواقع هذه الفترة: المريبط – موقع الشيخ حسن – الجرف الأحمر – تل أسود في سورية.
وفي فلسطين: موقع جلجال في وادي الأردن، موقع أبو سالم في النقب ووادي فلاح على الساحل ومستوطنة أريحا شمال البحر الميت.

يشير الباحث بورهارد برنيتس إلى أن عدد سكان هذا الموقع يقدر بـ 3000 نسمة إلى 2000 نسمة ودلت التنقيبات الأثرية على انتشار عبادة الأجداد لدى سكان هذا الموقع عبر العثور على جماجم ذات وضعيات طقوسية – شعائرية.
انظر – بورهارد برينتس في قائمة المراجع.


وتؤكد الدراسات أن التشابه العام بين سورية وفلسطين بقي سائداً في مجال الزراعة الشاملة والتدجين لاسيما الماعز والغنم بخاصة وكذلك البناء، حيث نجد مخطط البيوت المستطيلة ذات الطابقين. كما أن التشابه تبدى في الأدوات الحجرية والمعتقدات حيث أننا هنا أمام حالة اعتبارية للأم بالإضافة إلى حالة اعتبارية للثور كما أنه ظهرت في هذه الفترة عقيدة جديدة تضمنت تقديس الأجداد / الأرواحية /.
حيث كانت الجماجم تُخرج من القبور وتوضع في أرضيات البيوت وعلى قواعد صلبة.(11) ومع حوالي/ 7600-6000 / ق.م سنلاحظ أن المواقع المشرية ولا سيما في الجناح الغربي الشامي أمدتنا بظاهرة الجماجم المقولبة، حيث كانت الجماجم تُكسى بالجص وتُصبغ بلون فاتح يماهي بشرة الإنسان وتنزّل محاجر العيون بالصدف أو القواقع وترسم خطوط بنية على الرأس ما يوحي بشعر الإنسان.
وقد أبانت مواقع أريحا وبيسامون وتل الرماد عن وجود هذه النماذج ما يعطي انطباعاً مهماً على وجود وحدة روحية متينة وتواصل بين مواقع المشرق العربي آنذاك.
يقول د.محيسن: منذ منتصف الألف السابع تجسدت وتجذرت دلائل الوحدة الحضارية في مختلف مناطق بلاد الشام. ويعبّر موقع العمق في سورية ( الإسكندرون ) عن هذه المرحلة كما موقع جبيل شمال بيروت.
وكذلك موقع بيسامون في حوض نهر الأردن والذي يحمل صفات مشرقية.
أما في الرافدين فلم تكن المواقع الرافدية بمعزل عن التيارات الحضارية الهامة التي سادت بلاد الشام حيث يعبّر موقع أم الدباغية بكشوفاته عن تشابه مع كشوفات الثقافة اليرموكية ما يشي بوجود علاقات قوية بين الرافدين وبلاد الشام.(12)
ومع دخول المشرق العربي في رحاب الألف الخامس والرابع قبل الميلاد / العصر الحجري النحاسي/ يلاحظ أن مواقع هذه الفترة وعلى مدى المشرق كانت ذات تجانس حضاري كبير وتشابه واضح وهذا ما يُعبّر عنه موقع تل حلف في شمال سورية الذي امتدت تأثيراته الثقافية من شمال وشرق بلاد الرافدين وحتى سواحل البحر المتوسط ومن مناطق الأناضول شمالاً وحتى منطقة البقاع جنوباً (13).
وقد وصلت تأثيرات هذه الثقافة إلى لبنان والأردن وفلسطين بل وحتى إلى الخليج العربي.
ثم ومع مطلع الألف الخامس انتقل الثقل الحضاري إلى الجنوب الرافدي في تل العبيد وأطلق على هذه الثقافة اسم العبيدية التي انتهت في منتصف الألف الرابع.
ويلاحظ أنه مع هذه الثقافة ظهر التجانس الحضاري للمشرق العربي القديم واضحاً أكثر من أي وقت مضى.
وتشير الدراسات إلى أن هذا التجانس قد تجذر وتبلور على كافة الصعد الاقتصادية والروحية. بحيث امتدت تأثيراتهم في فترتهم الأخيرة من عربستان شرقاً وحتى شمال سوريا وسواحل المتوسط غرباً. ومن الأناضول شمالاً وحتى الخليج العربي جنوباً (14) .
وبانتهاء فاعلية الثقافة العبيدية أصبحت حضارة المشرق العربي أمام عصر جديد تجلى في ظهور منجزين مهمين: الأول تجلى في الثورة العمرانية ونشوء المدن.
والثاني تجلى في اختراع الكتابة الذي أدى إلى وضع البشرية على سكة التطور الحقيقي وذلك مع نهاية الألف الرابع. فمع منتصف الألف الرابع قبل الميلاد سادت في الجزء الجنوبي من المشرق ولا سيما جنوب سوريا وفلسطين الثقافة الفسولية / نسبة إلى موقع تليلات الفسول شرق البحر الميت/.
أما في العراق والجزيرة السورية فقد ظهرت ثقافة أوروك وتجلت في مدن أوروك وعارودة وحبوبة الكبيرة.
وفي هذا العصر عٌرفت الأختام الاسطوانية واستخدمت. وتشير المعطيات الأثرية المكتشفة إلى وجود تقاسيم عرقية لسكان المشرق مما يؤكد وحدتهم العرقية على امتداد مساحات واسعة من المشرق العربي القديم دلّ على ذلك التماثيل التي عثر عليها في مواقع مختلفة من العراق وسورية (15).
الجدير ذكره هنا هو ظهور منجز الكتابة عبر الكتابة التصويرية التي سرعان ما ستتطور في النصف الأول من الألف الثالث قبل الميلاد إلى كتابات مسمارية مقطعية ومن ثم سوف ننتظر إلى منتصف الألف الثاني لنكون أمام ظهور الأبجدية.
ولعل ظهور منجز الكتابة في أولياته في مواقع رافدية وشامية عبر الكتابات التصويرية يدل بشكل واضح على وحدة في دورة الحياة الاقتصادية الاجتماعية الروحية للمشرق العربي القديم. بالإضافة إلى ظهور المدن الأولى أيضاً.


استنتاجات حول نشوء حضارة المشرق العربي – العصور الحجرية:
أولاً: لاحظنا أن ثمة تواصلاً حضارياً على مدى المشرق العربي، وأن المناخ والبيئة لعبا دوراً هاماً في حركة الاجتماع والإشغال البشري.
ثانياً: أن مواقع مجتمعات ثقافة الإنسان المنتصب: من مليون سنة وحتى 100000 سنة: أوحت بوجود تقارب شديد بين لغات أو لهجات سكان بلاد الشام، حيث أنهم لم يكونوا معزولين عن بعضهم البعض وإنما قامت بينهم صلات وعلاقات حضارية متنوعة.
ثالثاً: الذي يلاحظ عبر مسار حركة التاريخ آنذاك، أنه كلما تقّدم الزمن كلما تقاربت المجتمعات أكثر، ودليل ذلك أنه في الفترة بين / 250.000 وحتى 100.000 /سنة سنلاحظ ظهور تقليد حضاري شمل كافة مجتمعات بلاد الشام، عنيتُ، تلك اللقى الآثارية التي هي عبارة عن فؤوس على شكل لوزة أو قلب. ما يشي باقتراب المجتمعات من بعضها ونشوء تقاليد متجانسة فيما بينها تعبّر عن وحدتها الاجتماعية الآخذة في التجانس والتمازج الإيجابي.
رابعاً: أنه في الفترة بين /150.000 – 80.000 /سنة:
شهدت بلاد الشام تغيرات حضارية مهمة ويعتقد الباحثون أنها عرقية شملت كافة المواقع وأن بعض المواقع شهد استيطاناً لسويات عديدة ما يعني أن ثمة التصاقاً بالأرض وارتباط بها أكثر مما قبل.
خامساً: مع ثقافة المجتمعات العاقلة اعتباراً من 40.000 سنة: بتنا أمام ظهور بداءات لتخصص محلي حضاري وصار بإمكاننا التحدث عن الخصوصية الحضارية المرتبطة بمناطق جغرافية محددة. وهذا ما تكرس حسب الكشوف والأبحاث الأثرية حيث أشار الباحث "جاك كوفان " إلى عمق وتواصل حضاري تبدى في الثقافة النطوفية 10000 ق.م وشمل منطقة امتدت من وادي النيل في الغرب حتى نهر الفرات في الشرق.
كما أن الحياة الذهنية التي عبّرت عن نفسها في تطور مفاهيم الحالات الاعتبارية للأم وكذلك في اعتبار للثور ثم في ظاهرة الأرواحية تؤكد على وحدة حضارية متجانسة بين كافة مواقع المشرق العربي القديم ومنذ تلك الحقبة.
سادساً: أن جملة التطورات وتراكم المنجز الحضاري على مدى مليون عام في المشرق أدى إلى تفاعل إيجابي تجلى في منحيين:
المنحى الأول: تفاعل بين مكونات البيئة الاجتماعية عبر التجوال والترحال ثم الاستيطان بحيث خلق هذا الأمر تفاعلات لجهة الاجتماع البشري مما شكّل خاصية أساسية من خصائص الاجتماع البشري، عنيت، التفاعل الاجتماعي والديمغرافي.
المنحى الثاني: تفاعل بين البيئة الاجتماعية والبيئة الطبيعية والمحيط الحيوي ما أدى إلى تطور هائل في حياة البشر واستقرارها وفهمها لنواميس الطبيعة وحركتها.
وعبر هذين الرائزين بدأ المشرق العربي في صياغة الأرضية والبنية الحضارية للاجتماع البشري عبر منجز الزراعة وتدجين الحيوان ثم في نشوء المدن الأولى مع العصور التاريخية وظهور منجز الكتابة الذي سيسرع من الانعطاف الحضاري للبشرية. كل هذا متوافقاً مع جملة المعطيات الذهنية والفكرية والعمرانية والاعتقادية والفنية والتي ستوثق مع ظهور الكتابة.
ولعل هذا الخط الحضاري الذي انطلق منذ مليون سنة عبر العصور اللاحقة هو ما أدى إلى النظر لمنطقة المشرق العربي كبؤرة إبداع في مساق الحضارة الإنسانية.
مع ملاحظة أنه إلى الآن لم تكن ثمة إشكالية تعنى بدخول جماعات جديدة أدت إلى حرف حركة التاريخ المشرقي عن إبداعها، إلا ما تبدى حديثاً من محاولات الدوائر الإسرائيلية الأثرية من جعل النطوفي الفلسطيني قائماً بذاته ولذاته ومنفصلاً عن مساره الحضاري التاريخي الاجتماعي في المشرق العربي.
بيد أن الحقائق العلمية أفرزت حسمها لجهة وجود نطوفي مشرقي واحد ما يعبّر عن خط حضاري واحد لمجتمع واحد في مواقع عديدة وكثيرة على مدى المشرق العربي.
ولعل الدخول نحو عالم العصور التاريخية سوف يكشف اللثام أكثر عن هذه الإشكالية خصوصاً وأننا أمام عالم وثائقي، كتابي يفرض نفسه وحقائقه على كل الأوهام والاختلاقات والمبالغات.
 

 

 

 

ثبت المراجع والهوامش:
2- بشار خليف- دراسات في حضارة المشرق العربي القديم- مركز الإنماء الحضاري – حلب – سورية2003.
3- سلطان محيسن- الصيادون الأوائل – دار الأبجدية – دمشق1989.
4- المرجع السابق.
5- المرجع السابق.
6- جان كوفان – الألوهية والزراعة – ت: موسى ديب الخوري – وزارة الثقافة – سورية1999.
7- سلطان محيسن: كتاب الوحدة الحضارية للوطن العربي – وزارة الثقافة – سورية2000.
8- سلطان محيسن – المزارعون الأوائل – دار الأبجدية – دمشق1994.
9- HOUHS,COPELAND, AURENCHE,1973
LES INDUSTIRES PA LEoLITIQUE DU PROCHE-ORIENT.
10- بورهارد برينتس – نشوء الحضارات القديمة – دار الأبجدية – دمشق1989. ت: جبرائيل كباس.
11- سلطان محيسن: المزارعون الأوائل – مرجع سابق.
12- سلطان محيسن – المرجع السابق.
13- سلطان محيسن – الوحدة الحضارية – مرجع سابق.
14- سلطان محيسن – المزارعون الأوائل – مرجع سابق.
 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات