« كتاب التجلي » وشعرية التجريب
بقلم :أحمد مكاوي
نجد في كتابات الشاعر بشير ونيسي الشعرية والنثرية نكهة الفيلسوف ، وتأمل المتصوف ورقة الشاعر وجرأة المجرب ..ولعبة الماسك بزمام لغته، يحذيك ثقته بما يكتب فتجد نفسك تصغي إليه .. تقرأ سطوره .. تحاول فك شفرة الرسالة التي يريدك أن تتماه فيها ..بشير في نصوصه يحملك معه إلى أبواب الدهشة.
خواطر عنت لي قبل الولوج في «كتاب التجلي » الكتاب الشعري الثالث للرائع بشير ونيسي هذا الكتاب رغم حجمه الصغير وعدد صفحاته القليلة (ثلاثة وسبعون صفحة) والذي قسمه صاحبه إلى قسمين ومدخل فحاز «مدخل»على صفحة واحدة، والجزء الأول «عيد النور» يتربع على سبعة وأربعين صفحة وهو الجزء الأكبر من الكتاب ، فيما احتل الجزء الثاني «جزائر الوجود» باقي صفحات الكتاب ..
في « مدخل » يعرفنا الشاعر بالمتجلي الذي نسب الكتاب له، فقدمه في تعريفات سبعة ، والرقم لمن يعرف بشير يوقن أنه ليس صدفة ، كل تعريف يغاير الذي قبله والذي بعده :
«
- المتجلي هو الذي أريده ويهجرني
- المتجلي أكون به حين أريد
- المتجلي ما أريد حين أرى
- المتجلي هو الوجود لحظة العدم
- المتجلي ما أنا فيه و به ومنه وإليه
- المتجلي عرس الوحي في جنة النور
- المتجلي أسمّي به الروح وأفعل شكل الجسد » (ص01)
وكما يظهر فيما سبق المتجلي هو الشاعر/ بشير ونيسي المتوحد في الشعر والتصوف والفلسفة
لنحتفل مع المتجلي بعد معرفتنا به بـ «عيد النور»في مقاطعه الخمسين ، والملاحظة الأولى التي نلحظها هي العنونة حيث أن أغلب المقاطع عنونت بكلمة وهو ما يدفع للوقوف عندها حيث العنوان وحده يحتاج منا لقراءة وتحليل لعل أقرب تفسير عندي لهذا الفعل هو محاولة التجرد من التعريف بالصفات والإضافة وحتى ب(الـ )فكانت في الغالب نكرات تفتح على التأويل كما النصوص تحتها وهو فن يتقنه بشير جيدا ..
في « عيد النور» يقابلنا من ضمن العناوين عنوانين الأول : « عيد الوجود» و « هيكل النور»
فإذا فككنا العنوانين عيد ، الوجود ، هيكل ، النور وعدنا و ركبناه بهذا الشكل :
1- عيد النور
2- الوجود هيكل
وفي المعنيين يدور كل ما يوجد في هذا الجزء، بل في الكتاب كله..فتوحد الشاعر مع الوجود يشكل هيكل فلسفته التي تعتمد على الاحتفال بالنور الذي بثه هذا التوحد ضمن لغة ترتقي إلى لغة الفلاسفة والمتصوفة كلما حاولت الاقتراب من الشعر ، مما يضطره إلى الحيرة .
يقول في « حيرة » وهي آخر قصيدة / مقطع من الجزء:
« زدني تحيرا
يا عشقا كله
دمي البتول آية عرس
بي ليل
ما به قمر
بنورك
صارت ناري
بردا وسلاما » (ص 50)
وهنا مربط المعني لدى الشاعر /الرائي فالاحتفال بالنور عبر هيكل الوجود يحيله إلى الحيرة مرورا بما « لا يعول عليه » حيث:
« وحي بلا جسد
لا يعول عليه
وجود بلا نور
لا يعول عليه
دم بلا روح
لا يعول عليه
وقت بلا تجل
لا يعول عليه
ليل بل ألم
لا يعول عليه »( ص44)
هنا نرى أن الوحي بلا جسد ، والجسد بلا نور، والنور بلا هيكل ، شيئا خارج نطاق الفعل ، والفعل هو ما يتوخاه المتجلي فكيف إذا يرقى لبؤرة الرؤيا؟!
فالوجود بلا نور ظلمة ، والدم بلا روح رجس ، والوقت بلا تجلي وهم ، والليل بلا ألم خمول وموت !
إن بشير هنا عبر مقاطعه / قصائده التي تبدأ بـ « توحد» لتنتهي لـ «حيرة» في هذا الجزء يعبر بنا حالات النفس البشرية / النفس الشاعرة ، في لغة حالمة تعتمد على المفارقة والتناقض والثنائية الضدية أحيانا والمتكاملة أخرى ، تبني لنا كيانا عيده النور وهيكله الوجود .
ما يلاحظ ضمن هذا كله أن الشاعر يعتمد ويتعمد إبعاد الروابط بين الكلمات من حروف العطف وحروف الجر ، كما يعتمد ويتعمد التنكير في الكثير من الحالات ، و أرى أنه في أحايين يضعف نصه ، فليس حذف الروابط بالضرورة يفتح المعاني على التشظي ، ولا التنكير في كل الحالات يفتح المعنى على التأويل ونفي التحديد .
في القسم الثاني من «كتاب التجلي » يمضي بنا بشير عبر« جزائر الروح » معتمد على الرقم سبعة ، حيث يرد القسم في سبعة مقاطع هذه المرة دون عنونة ، وهو هنا أيضا لم يتخلى عن ألفاظ : الجسد/ النور/ الوجود / الوحي / التشظي / الخضرة / الحمرة / الحلم / التكوين / الوئام / الجحيم / الثورة / الشهداء/ الربيع / الاغتراب / التيه / الشمس / السراب / الجزائر .
والمتأمل فيما سقت من ألفاظ احتواها هذا الجزء يلحظ أن بشير وهو يخاطب جزائر روحه مازال بنفس اللغة الصوفية / الفلسفية ، يخاطب معشوقته ، ويختصر فيها سنين الجمر السبعة في مقاطع سبعة ، تنقلنا كل لفظة مما سبق ذكره إلى بحار المعاني المؤلمة / المفرحة في ثنائية لم تفارق بشير / لغة بشير / حلم بشير..
لينهي الكتاب بـ « بدء» حيث الفضاء المفتوح / النص المفتوح / الحلم المفتوح الذي كلما قلنا انتهى ابتدأ:
« أبدأ من دمي
وجهي أعلى
آه لو تتجلى » (ص72)
ثلاث جمل تختصر « كتاب التجلي » في بداية تبشر بآتي الشاعر وأمنياته وتجلياته التي تحمل القارئ إلى مدخل « الكتاب» في دائرة تشعرك بخدر النشوة، ولذة الحلم ، وطيف الآتي ..
هكذا بشير في لغته / أغنياته ، يعبث / يحضن اللغة ، يلملم / يشظي المعنى ، يخفي / يجلي الصورة ، مما يتركنا في حيرة التصنيف الذي لا يعترف به حيث يقدم لك النص ، وعليك أن تقول وتتأول !!
كتاب التجلي :بشير ونيسي ط01 بمساهمة دار الثقافة بولاية الوادي ومجموعة من الجمعيات المحلية الوادي الجزائر 2009
التعليقات (0)