كتابة المتاهة
’’فرصة ثانية’’ لأمجد ناصر
الأكيد إن ’’ طارق ’’ وهو يصنع موسيقاه في ’’ سيق الخزعلي ’’ فإذا هي ’’ صوت الريح مرة , وتكسرات الرمل مرة أخرى, خفق أجنحة طائر ...خشخشة , صمتا , جفافا يطقطق .’’ طارق هذا لم يسمع بجان كاجjohn cage والانقلابات الجوهرية التي أحدثها بمقطوعاته الصامتة في الموسيقى حيث الطبيعة هي الآلات وهي التي تؤلف وتعزف أيضا ؛ حيث الصمت هو الأصل و,ليس مجرد أخذ نفس واستراحة وسط تزاحم الأصوات فقط ؛ موسيقي الصمت بما هي تمرد على القانون المنظم للتأليف الموسيقي ولمَّا كان كاج قد استوحى أفكاره هذه بعدما استوعب النظريات الفلسفية الداعية للعودة إلى الطبيعة وبالأخص فلسفة هنري ديفيد ثورو فإنما روح طارق البدوية المشدودة إلى الرعوية الطبيعية هي التي جاءت بهذه الموسيقى .
هذه الروح العفوية المسكونة بصمت الأوابد و تنهدات الخلاء وزغاريد الرمل وضجة الصمت هي التي دفعت بأمجد ناصر أيضا إلى التمرد على الأصول , أصول الكتابة ليكتب ’’ فرصة ثانية ’’ بإيقاع لا يبحث عن انتظام خارجي أو داخلي وفق الأعراف المعمل بها في الكتابة عموما وأسلوب يتمرد على سياقاته المعهودة بحيث يمتزج السردي بالشعري والبصري بالحلمي والواقعي بالأسطوري ؛ كتابة المتاهة ليس على الطريقة البورخيسية أو على شاكلة ألأساطير الإغريقية ولكن على طريقة الترحل البدوي أو هي كتابة التلاشي في الذاكرة والنفاذ من خلالها إلى حاضر هو ماض قريب أحيانا وبعيد غالبا فتجيء الأصوات نوستالجية قادمة من سحيق الزمن بلغة تؤلفها شوارد اللغة التى قاومت الاندثار لتقاوم الانمحاء وتبقى وترا مشدودا وقد عبر الزمن يؤكد استنفاره الأبدي : وتر مشدود يُثقف سهامه بحالة طوارئ مستمرة لمقاومة البلى .هكذا هي اللغة.
ورغم ’’ انه صار يرى الكلمات على نحو مختلف ’’يعرف الكاتب إن اللغة جرح عميق يظلُّ ينزف و إن الكلمات الأولى هي قاموس التكوين , ما تجذَّر في المرء واستقرَّ مادة عضوية شأنها شأن بقية الأعضاء في الجسد لا مفر منها لتستوي الذات كيانا يمكنه الحياة ؛ هذه الكلمات تثير رائحة ما’’ الرائحة التي تهبمن هناك تتأرجح بخفة’’ رائحة العناصر الأولى للكائن / البدوي الذي لن يستطيع التخلص من بعض عاداته مهما بعدت به المسافات ومهما فعلت فيه الحواضر, رائحة ظلت عالقة بالروح تسمها وتمنحها هويتها رغم كل أفاعيل الزمن وتصريفاته لتمزيق الذات, وتدميرها ومن ثمّة محوها ومنحها قناعا مختلفا ؛ ليست مجرد أصوات هذه التي شكلتها تلك الكلمات ولكنها صور سوف تبدو كأنها أخيلة من نتاج جفاف الحلق وحشرجة الاحتضار وكآبات العزلة و إنما هي مما خبَّأه الرمل تحت كثبانه ومما دسته الجبال في كهوفها ومما غيبته االأودية بين شقوقها وحكايات هي علامات دمغت الذات وسكنتها في لاوعيها ومن هنا تجيء لعب المرايا / الضمائر ويتحكم المخاطب بمسار القول ثمة مسافة بين الراوي والكاتب والمروي عنه ؛ مسافة سوف توحي بالبعد والغربة بل والاغتراب في مكان ذي حميمية خاصة : مراتع لهو الطفولة وساحات المدارس وباحات المنازل وهذه الطرق المؤدية من والى السوق ؛ وفي الغرف أيضا ,تلك الغرف التي شهدت لحظة الميلاد وساعات الحبو وأول تهجي أبجديات الخطو على الأرض بقدمين سوف تتعبان لاحقا من الهرولة ؛ شعور مرير بالاغتراب ترافقه هذه المكابدة الشديدة لمقاومة النسيان ولكن المكان لا ُينسى انه هنا انه في اللاوعي وفي أعماق الدواخل في الكلمات التي تجيء عفوية ضمن التحاور مع الأخير ضمن الكتابة ضمن التفكير. ينزاح الاغتراب عن مفهومه الأول ليصبح محاولة إعادة ابتكار الذات من خلال علاقتها الأولى بالمكان ..
هل المكان شرط الكائن ؟
ألذلك قال الزعيم لاهندي الحمر واتنكوتاتانكا ’’ هذه الأرض هي حياتنا إن خرجنا منها نموت ’’
ألذلك مهما تطوف بالمرء المسافات والغربات وتحتضنه مدن وبلدات ومحطات ومطارات وناطحات سحب وبلدان بعيدة أو قريبة فهو في النهاية حين تزف ساعته ينشد قبرا حيث وُلد حيث مراتع طفولته الأولى؟
ولقد أراد صاحب ’’ مرتقى الأنفاس ’’ أن يُجرب اللعبة مع المكان باستعمال ضمير يوحي في الظاهر بالحياد والمسافة مع المكان فلجأ إلى المخاطب: مفردا / مثنى / جمعا في أغلب مواضع الكتابة للتجرد والإفلات من الانفعالية والتماهي وإذ استدعى ضمير المتكلم تحول نصه إلى شكل من أشكال الغرائبية والأسطرة وما قد تستوجبه من عاطفية غنائية ’’ سيكون لك ما كان لي , ستمشي الخطى التي كُتبت ومثلي لن تصل !’’ كانت هذه رسالة لأمجد ناصر من أبيه وجدها ’’ في شق يكاد لا يرى تحت تلك العارية ’’ وهو يتحدث هنا عن لوحة فريسكية في ’’ قصر عمرة ’’ المهمل في أعماق الخلاء ؟ شيء بالغ الأهمية هذه التقنية في توزيع الأدوار بين الضمائر لتصريف شؤون المقول فإضافة إلى أنه يفلت بالنص من الرتابة وما من شانه أن يشيع الملل فإن التعددية في الأصوات تشكل تنوعا خصبا في الدلالات بما يحول النص إلى مجموعة من الطبقات تؤكد ثراءه سواء من حيث التيمة المعالجة أو من حيث الأسلوب و في الأخير يحقق ما يسعى إأليه الكاتب من البداية ألا وهو ’’ البحث عن سردية قصصية وشعرية في تلافيف تلك الحاضرة التي تلاقت فيها ’’ الأنا ’’ و ’’الآخر ’’وتواجهت بعنف’’وهو نفسه هذا العنف الذي استدعى المضي في مغامرة الولادة الثانية والتخلص من جميع الأقنعة التي استوجبها ترحاله عبر أزمنة الغربة وذلك بإزاحة الحجب عن هذه العلامات التي تسكن اللاوعي و ’’ لا وعي المكان’’ كما تقول خالدة سعيد .
يخرج أمجد ناصر إلى الغياب وإذ يعود لن تكون عودته فولكلورية ولن تكون مجرد نوستالجية سياحية يعود وقد نال منه الوعي المهموم وقد نال هو من ثقافات وحضارات الدنيا ما سوف يدفعه للإنصات إلى أصوات لم يصغ إليها من قبل كما لم يتنبه إليها الحاضرون الآن ؛ يجوس خلال المكان ؛يحدق في صمته يحقق في سبات عناصره يتوقف طويلا عند: لحظة ساكنة حجر بركاني ؛ واد مهمل ؛ عبارة لم يدقق في معناها سابقا يتحقق من كل شيء ليس كما يفعل المستشرقون الغرباء لكن؛ ليستعيد نبضا فيه خفت ليتحسس ملامح وجه كان له افتقده يعود الآن ’’ أوليس’’ بكل قلق الشاعر وارتيابه من ضياع فرصته في الانسجام مع عناصره الأولى يعود منكسرا مهزوما يبحث بين الخرائب وحشرجاتونعيق الغربان الماضي وانكسار العساكر المهزومين يبحث عن فرصة ثانية للحياة فيكتشف إنه بين الآن وهناك ثمّة أشياء اختفت وامَّحت تماما فلا أثر لها لكن الكثير لم يتغير رغم الطبيعة الكارثية: زلازل وبراكين وجفاف و رغم مؤامرات الآخرين غازين أو أصحاب بلد ويكتشف أسطورة المكان : ’’ لا علو لشيء .الانبساط.التماثل. الشبه الملتبس . التكرار. التيه......الخلاء المرتاب .. الصحراء المنتظرة بلا تلهف ’’ ها هو المكان الوحيد العصي على الترويض الذي يربي المولود فيه على أن يكون شبيهه تماما كثير التكتم؛ شديد الحرص على مستلزماته ينفر الوفرة والترف والتبذير في أي شيء ’’ الرجل , في عرفهم , من يصبر على المكاره ويتحمل الشظف ولا يترك نفسه أسيرة بطنه وشهواته . القلَّة قوام حياتهم في كل شيء : الثياب , الأكل , الماء , الكلام, المشاغل’’.
ولعل عرقه البدوي هذا هو الذي جعله يثبت أمام صدمة ما اكتشفه من أشياء آسرة كان في الماضي القريب يمر من حذوها ولا يعيرها اهتماما ’’ تماثيل ’’ عين غزال’’ الضاربة في اللون الليموني/ هذه الأوابد التي صمدت أمام امتحان الزمن القاسي نحو عشرة آلاف سنة / المتاهة الفريسكية التي صمدت في قلب الصحراء/الحائط الصخري الذي يواجهنا هو الحجاب والسيق هو طريق السالكين ووصولنا إلى الخزنة هو التجلي .’’ .
سحر المكان وعبقريته ؛ هذا المكان الذي كان مهد الحضارات الكبرى للعالم عبر التاريخ : مصرية , نبطية, يونانية ,عربية؟ ومازال يحتفظ بألقه إلى اليوم رغم كل شيء وهذه معجزة أخرى من معجزات هذا المكان .الذي وان تغيرت فيه أشياء ورحل عنه حراسه الأوائل فالكثير منه مازال باق بما يتيح فرصة ثانية وثالثة للانبعاث مجددا لعل هذا ما أراد أن يقوله أمجد ناصر من خلال هذه الكتابة المتاهة التي جاءت صورة للغموض الجليل الذي اكنساه هذا المكان وهو يتكتم عن كل شيء فيه ويحرس أسراره وطلاسمه التي تستعصي على من يمر به أو يعبره غازيا حربيا كان أو مستشرقا ويدافع عن عزلته بما فيه من وحشة وقفر ف ’’ العزلة ليست وصفة جاهزة للاستشفاء ’’ لذلك عاد أمجد ناصر إليه مرة أخرى متسلحا ل’’ البحث عن سردية قصصية وشعرية..’’ ولعله نفس الهاجس الذي حمله إلى جهة أخرى نوستالجية أيضا ’’ يتعقب أثر ملك شقي في ايبريا ’’ و للحكاية رواية أخرى وبأسلوب آخر ضمن سلسلة
’ كتاب في جريدة ’’ بعنوان ’’ البحث عن أبي عبد الله الصغير ’’ لأمجد ناصر..
عبد الوهاب الملوح
التعليقات (0)