صدرا بعد غيابه عن أحبابه
كتابان ممتعان لرجاء النقاش عن أولاد حارتنا وأجمل قصص الحب بقلم: حسن توفيق
بعد غيابه عن أحبابه يوم الجمعة الثامن من فبراير 2008 صدر له كتابان جديدان ممتعان، أولهما أولاد حارتنا بين الفن والدين وقد صدر ضمن كتاب الهلال وثانيهما أجمل قصص الحب من الشرق والغرب وقد صدر ضمن كتاب اليوم في القاهرة. قد يندهش بعض منا، لكن دهشتهم لابد أن تتلاشي حين يعرفون معدن رجاء النقاش، وكيف أنه ظل يعمل دون كلل، لأن العمل عنده هو البلسم الشافي أو المخفف من كل ما يتعرض له الإنسان من مواجع وفجائع علي امتداد سنوات حياته. لم يكن العمل دون كلل مجرد شعار جميل، بقدر ما كان إحساساً عميقاً بالمسؤولية تجاه كل كلمة يكتبها، وأتذكر هنا أن شريكة حياته الرائعة - الدكتورة هانية عمر المارية - كانت تطالبه كلما حل فصل الصيف بأن يرتاح لبعض الوقت في الإسكندرية أو سواها من مدن مصر الساحلية، فإذا استطاعت أن تقنعه فإنه كان يتهيأ كذلك لعمل من نوع آخر، هو القراءة الجادة المثمرة وليس القراءة التي تتطلبها الراحة ويفرضها الاستجمام. ومن هنا فإني أقول منذ الآن ما أعرفه، أقول إن لأستاذي الكاتب الكبير رجاء النقاش دراسات عديدة لم تصدر بعد، وبالتأكيد فإنها ستصدر - دراسة تلو أخري - بفضل عناية الدكتورة هانية عمر المارية، ومحبة تلاميذه وأصدقائه الكثيرين. في مقدمته التي كتبها يناير 2008 لكتابه أولاد حارتنا بين الفن والأدب يتحدث الكاتب الكبير عن الدوافع التي حدت به لدراسة هذا الموضوع، وينبهنا جميعاً في خاتمتها إلي البلاء الذي يهدد مجتمعاتنا العربية بصورة عامة، فيقول: .. قصة أولاد حارتنا وما أحدثته من ردود أفعال مختلفة، ومعظمها عنيف، هي موضوع هذه الفصول، وقد خرجت من دراستي للرواية التي أحدثت زلزالا في حياتنا الأدبية والاجتماعية، بأن المأساة كلها تكمن في التفسير الخاطئ للدين، وإقحام الدين في أمور لا علاقة له بها، وهذا بلاء يهدد مجتمعنا بالعزلة القاتلة عن العالم الذي نعيش فيه، وهو بلاء ينذر بتقييد العقل حتي يتحول إلي مصدر للظلام وليس مصدراً للنور، وعلينا أن نقف ضد هذا البلاء بكل ما نملك من قوة وعزيمة.. . في هذا الكتاب لا ينتصر رجاء النقاش للفن علي حساب الدين، وإنما يفرق بين طبيعة كل منهما، مؤكداً أن جوهر الدين هو الارتقاء بالإنسان، أما التفسيرات الخاطئة للدين فهي التي تبتعد - بقصد أو دون قصد - عن هذا الجوهر النبيل والجليل، ولا يقتصر الأمر علي تلك التفسيرات الخاطئة في حد ذاتها، وإنما علي محاولة فرضها بالعنف الذي يصل إلي حد الاغتيال لمن يتجرأون علي الوقوف ضدها أو حتي مجرد مناقشة ما ورد فيها. وإذا كان رجاء النقاش قد استهل كتابه بالحديث عن الشاب الجاهل الذي حاول اغتيال نجيب محفوظ في أكتوبر سنة 1994 دون أن يكون قد قرأ له ولو حرفاً واحداً، فإنه يختتم هذا الكتاب بمناقشة دقيقة لما كتبه السيد صادق المهدي عن أولاد حارتنا في جريدة الشرق الأوسط السعودية، موضحاً أنه .. إذا كان من حق الصادق المهدي أن يكتب ويتكلم في السياسة كما يشاء، فإن ما قد يبدو غريبا بعض الشيء ان يتكلم في الأدب، فليس الأدب هو مجال الصادق المهدي بأي حال من الأحوال.. والحق أن ما نبهنا إليه الكاتب الكبير هنا يتجلي في ضرورة أن تكون لنا معرفة عميقة بالموضوع الذي نتصدي لمناقشته، بينما نلاحظ في كثير من الأحيان أن هناك أشخاصا يتجادلون ويتحاورون حول كل ما يخطر ببالهم من موضوعات، دون أن تكون لهم أية معرفة إلا من خلال السماع المتعجل لما يقال أمامهم، وقد يستقر كله أو بعضه في آذانهم!. إذا كان أولاد حارتنا بين الفن والدين كتابا فكريا، لكنه مكتوب بأسلوب رجاء النقاش البعيد تماما عن التقعر والتعقيد، فإن كتابه الثاني الجديد أجمل قصص الحب من الشرق والغرب هو كتاب إنساني ممتع بكل المعايير، وإن كان قد صدر دون مقدمة بقلمه، حيث تكفلت الكاتبة نوال مصطفي بذلك، وكتبت مقدمة بقلمها - مؤرخة في مايو 2008 - أما الكتاب ذاته، فيبدو أن عنوانه الأول كان أربعون قصة حب - كما عرفت من خلال الفهرسة التي أعدتها الهيئة المصرية العامة لدار الكتب - لكني حين أحصيت قصص الحب التي تحدث عنها رجاء النقاش وجدت أنها تزيد علي الخمسين، وإذا شئنا التحديد، فهي ثلاث وخمسون قصة حب. لم يلجأ رجاء النقاش إلي الإسهاب والإطناب في رواية كل قصة من قصص الحب التي اختار أبطالها من السياسيين والمفكرين والفنانين والأدباء، وإنما لجأ إلي أسلوب الومضة الكاشفة والدالة رغم أنها سريعة التلاشي، وهذه الومضات تثير النشوة في قلب قارئها إذا كان قارئا متعجلا، لكنها تدفع القاريء المتمهل إلي السعي بنفسه للتعرف علي التفاصيل المتعلقة بكل قصة، وما فيها من مفارقات أو زوايا جانبية متعددة، فالومضة تكشف لنا ملامح من الطريق بصورة وافية لكنها سريعة، ولنا الحق إذا اكتفينا بها إذا كنا متعجلين، أو أن نتحمس لمتابعة أكثر وأكثر بأنفسنا إذا كنا متأملين متمهلين. من قصص الحب التي توقفت عندها ما كتبه رجاء النقاش بعنوان نابليون.. وسي السيد و كمالا ونهرو.. قصة حب نادرة ويتساءل الكاتب الكبير في استهلال القصة الأولي: هل يمكن للحب أن يتفق مع السياسة؟ وفي صيغة أخري للسؤال: هل يمكن لصاحب القلب العاشق المشغول بعاطفة مشتعلة في داخله أن يكون سياسيا ناجحا؟ وحين يطبق هذا السؤال - عمليا - علي نابليون، فإنه يؤكد علي حبه العميق لزوجته الأولي جوزفين مع أنها لم تكن مخلصة له، لكن نابليون كان يفرق - بشكل واضح - بين الحب والسياسة، وفي هذا السياق يورد رجاء النقاش عبارة طريفة قالها نابليون: لو أن جوزفين رأت يوما أن أمرا ما يجب أن تفعله حكومتي، لدعاني رأيها هذا إلي أن أفعل نقيضه علي خط مستقيم.. ! ولكن جواهر لال نهرو الذي أحب زوجته كمالا كان مختلفا عن نابليون، فلماذا؟ يري رجاء النقاش أن التفرقة بين السياسي المحترف والمناضل الشعبي ضرورية، لأن المحترفين يتحملون التقلب في عواطفهم ويرون في ذلك أداة من أدوات النجاح، بينما المناضلون من أجل شعوبهم لابد أن يكونوا ثابتين في عواطفهم العامة والخاصة وهم لا يقبلون أبدا أن تكون مشاعرهم خادمة لمصالحهم وأن تكون قلوبهم وسيلة لتحقيق أهداف عملية تتغير مع تغيير الظروف.. . ونستطيع هنا أن نقول ان الفارق بين الجنرال العسكري والسياسي نابليون، والمناضل الشعبي نهرو يتجلي كذلك في مدي تحكم العقل في القلب عند الوقوع في الحب. إذا انطلقنا بعيدا عن السياسة والنضال، فإننا نتوقف عند الفن، من خلال الفنان العالمي بابلو بيكاسو، وعلي الرغم من تقدير الكاتب الكبير لعبقرية بيكاسو الفنية، إلا أنه - من خلال الومضة التي أضاءها لنا عنه - يؤكد أن قلب بيكاسو لا يعرف الوفاء وهو يستشهد بما قالته حفيدته عنه: أن بيكاسو كان إنسانا جافا وقاسيا، ولا يمكنني عند الحديث عنه أن أستعمل كلمة جد لأن الجد كلمة تفترض الحنان والود والذكريات الجميلة، بينما بيكاسو كان يعاملنا - أنا وأخي بابليتو - بقسوة وجفاء لا مثيل لهما.. . بعيدا عن الفنان العبقري، تومض أمامنا ومضتان مؤثرتان.. هما قصة حب الكاتب العملاق عباس محمود العقاد ل سارة وقصة حب الشاعر الرقيق كامل الشناوي لنجاة الصغيرة، وهي القصة التي انتهت بطلب من الشاعر لحبيبته: لا تكذبي.. إني رأيتكما معا.. ودعي البكاء.. فقد كرهتُ الأدمعا.. . ما رواه أستاذي الكاتب الكبير رجاء النقاش ليس مجرد قصص حب، إذا توقفنا عند المعاني والدلالات، وإنما رحلات متجددة في أعماق النفس الإنسانية، بكل ما تحفل به من مفارقات، بل تناقضات. magnoonalarab@yahoo.com
التعليقات (0)