"الليل دائماً وحده" نصوص جديدة للشاعر التونسي عبد الوهاب الملوح
جسد للقصيدة يتحول كوخاً مهجوراً
المستقبل - الاثنين 12 تموز 2010 - العدد 3708 -
جهاد الترك
كلما ارتدى الشعر جسداً جديداً يتستر به في عراء اللغة، أصبح أكثر انكشافاً في نزوعه الغريزي نحو التفلت مما يُلقى عليه من أشكال وألوان وأردية وأقنعة. ومع ذلك، لا يستقيم الوضع من دون أن تتخذ القصيدة لباساً لها من المعنى الذي تقتطعه لنفسها. تفصل جسداً تتقمصه لتنضم الى ذلك الفلك المزدحم بالأشياء والكائنات وكل من تسول له نفسه أن يتسلل من العدم الى الوجود. ثم ينهار هذا الجسد. يتهاوى في منتصف الطريق.
يتحول غباراً مشتتاً. يعود من حيث أتى. يتطلع الشعر إلى جسد آخر يستخدمه نافذة فقط للإطلالة على العالم. من جسد الى آخر ينتقل الشعر. يخلع واحداً تلو الآخر ليزداد انكشافاً على المعنى الذي لم يبلغه بعد. جسد الشعر مرحلة انتقالية فقط من معنى إلى آخر. يستهلك الشعر من الأجساد أكثر مما يستهلك من الكلمات. ولا يمل أبداً من تغيير جلده كلما أحس بترهل هذا الجلد.
قد لا تبدو هذه التصورات الأولية، إذا جاز التعبير، وثيقة الصلة بالمجموعة الجديدة للشاعر التونسي عبد الوهاب الملوح بعنوان "الليل دائماً وحده" الصادرة حديثاً عن "دار النهضة العربية" في بيروت. غير أنها قد تستوحي منها ما ينبغي، على الأرجح، ليس ضرورياً أن يتعمّد الشاعر هذا المنحى الصعب. يرتحل جنباً الى جنب مع المعنى وهو يلتقط صوره من الفضاء الأوسع أو من الذاكرة المنفتحة على مخزونها القديم. أو أنه يسير خلفه أو بمحاذاته عله يرى جزءاً يسيراً أو كثيراً من الكيفية التي يتكون بها المعنى وهو يتجلى في اللغة أو على تخومها أو في تلك المناطق البعيدة وراء الكلمات. أربعة وعشرون نصاً يتضمنها الكتاب قد تقترب بشكل أو بآخر من هذا النمط الذي يحمل المعنى من جسد الى آخر مشحوناً بتلك الرغبة العارمة في أن يتحول جسد القصيدة منزلاً موقتاً لها قبل أن يصبح كوخاً مهجوراً تتردد بين جدرانه أصداء خافتة لمعنى مرّ من هنا مرور الكرام.
والأغلب أن الأمر كذلك في هذه النصوص التي ينطلق كل منها من الطريق نفسها التي اهتدى اليها النص السابق. على هذا الأساس، تبدو قصائد الكتاب ونصوصه أكثر اقتراباً من مشروع حيوي لرؤية شعرية مشرعة على مناخ شاسع من المعاني التي تبحث عن أجساد لها في اللغة. ولأن السياق العام يتدافع على هذا النحو، لا يبدي عبد الوهاب الملوح اعتناء مبالغاً فيه باللغة وحدها التي تتطلب بالضرورة حفراً عميقاً في طبقاتها الصلبة قبل أن تفرج هذه الأخيرة عن شفافية مختبئة في صمتها الداخلي. نراه أكثر اهتماماً بتقصي المعنى من خلال تدفقاته المتعاقبة في الصورة المتحولة. ولعله لا ينحاز، في هذا التوجه، ألى المعنى على حساب اللغة. بل يُفسح في المجال أمام الصورة الشعرية لتختار الجسد الذي تريد. المعنى، في هذا المجال، هو الذي يستدرج اللغة الى ملعبه. والعكس ليس صحيحاً على الأرجح. لا يندرج الشاعر، والحال هذه، الى فئة من نظرائه الذين يستوحون اللغة فقط من أجل أن يحملوها على استيلاد المعاني التي يرغبون في صوغها. وهو في ذلك لا يستنطق ذاكرة اللغة بقدر ما يسعى الى استنطاق ذاكرة المعنى. ولربما يلتقي المعنى واللغة، في هذا الإطار، في منتصف الطريق. أو أنهما قد لا يلتقيان إلا نادراً وقد اطمأن أحدهما إلى الآخر.
عنصر المفاجأة
من دلالات هذا التصور في نصوص الكتاب، أن الشاعر غالباً ما يستخدم عنصر المفاجأة وهو ينتقل بصوره من معنى إلى آخر. المقصود بذلك، على الأغلب، أنه يوحي، للوهلة الأولى، بأنه يتقدم بهذه الصورة أو تلك في اتجاه مواضع محددة لتصبح مهيأة، بشكل أو بآخر، لتتخلى عن معالمها التي كانت عليها في الأصل، لتخلع عنها جسدها الذي عبرت به أرض الواقع الهش. لتبدأ رحلة التحول في الذاكرة من هيئة إلى أخرى. فإذا به يحيد بسرعة عن هذه الوجهة إلى أخرى مختلفة. نراه يقفز بالصورة فجأة إلى فضاء شعري أبعد من دون أن يتوقف عند المرحلة الانتقالية التي كان أعد لها وأوحى بها. نادراً ما يحجم عبد الوهاب الملوح عن اللجوء إلى هذه التقنية الذكية في إطلاق صوره نحو فضاءات غير متوقعة. وكان بمقدوره أن يمهر لمعانيه انتقالاً هادئاً من صيغة إلى أخرى وهو يلتقط لصوره ما تحتاج إليه من أجساد لتنتقل من وجود إلى آخر. غير أنه يفضل، على الأغلب، أن يداهم المعنى نفسه، وأن يقارب اللغة من حيث لا يعود باستطاعتها أن تفرض عليه رقابة صارمة. مزاج هو من نسيج هذه النصوص التي تنفر من الانتظار الطويل ليتفكك لمعنى على مهل. لا يصبر الشاعر على ذلك. يقدم من دون تردد على بعثرة المعنى على نحو يتيح له الانتقال به مباشرة إلى معنى آخر وثالث ورابع وهكذا دواليك. والملاحظ أيضاً أنه كلما أمعن الشاعر تفكيكاً بالصورة، لجأ تلقائياً إلى استخدام ضرب من المفردات تدل على الغياب، أو الظلال، أو العزلة، أو الوحدة، أو ما شابه. وكأن المقصود بهذا التفكيك أن يتمكن عبد الوهاب من إزالة كل المعوقات من أمامه ليقترب حثيثاً من حيث تصبح الصورة أكثر عرضة لتظهر ما خفي منها في اللغة، أو في ما يتوارى عن المفردات المألوفة من ايحاءات قوية.
ولعل الشاعر لا يستهدف تفكيك المعنى في حدّ ذاته بقدر ما يستخدمه ذريعة لحمل المعنى على التخلي الطوعي عن الجسد الذي ارتداه واستبداله بآخر أكثر ملاءمة للحالة المستجدة التي بلغها. كل من نصوص الكتاب، من دون استثناء، ينطوي على محاولة حقيقية من هذا النوع. كلما يفتقر نص إلى هذا الإقبال المتزايد على تفكيك المعنى وصولاً إلى تفكيك الصورة. وفي الحالات التي تزدحم فيها هذه الرؤية إلى المعنى المتحول على ايقاع التفكيك أو الشرذمة، تلحظ على الفور غياباً يتوسله الشاعر من أجل أن يواكب عملية التحول هذه من موقعه البعيد في الظل الخافت أو الباهت أو حتى من حيث تتراكم العتمة في الظلام الحالك. الغياب، في هذا السياق، هو غياب المعنى نفسه، غياب الصورة نفسها، غياب الفضاء الشعري نفسه عن الواقع الموضوعي، عن اللغة الصلبة المتدفقة بقسوة المفردات، والأرجح أنه الغياب المتعمد عن الجسد الذي ترتديه الصورة من أجل أن تولد به.
يغيب الشاعر مع صوره كلما اقتربت من الغياب عن أجسادها. وفي كل لحظة من هذا الغياب المتجدد، يموت جسد ليحيا آخر. الغياب عن المعنى ومكوناته هو غياب عن اللغة التي ترافق الصورة في أشكالها المختلفة وتجلياتها المتعددة.
ولولا ذلك، لبقيت اللغة على حالها، والمعنى على حاله، والصورة على ما هي عليه. ومع ذلك، يجتهد الشاعر في نصوص الكتاب في ألا يبقى الغياب مقصوراً على أشكاله المألوفة. لكل صورة غيابها الخاص بها. يتبدل غياب الشاعر بتبدل الغياب في صوره ومعانيه. ونراه أحياناً يوحي بأنه يغيب من الغياب نفسه دلالة على أن للمعنى المقصود تتمات أخرى. تجربة من الغياب المتواصل أو أنها على الأقل تسعى في هذا السبيل، إلى الحد الذي تصبح فيه قراءة النصوص أمراً متعذراً من دونها.
أصداء المعنى
النصوص، على هذا الأساس من محاولة الكشف عن أصداء المعنى من خلال الصورة المفككة، هي أقرب الى مشروع شعري يتوسل المغامرة في عالم واسع من احتمالات التعبير. يوحي عبد الوهاب الملوح، في هذه التجربة المثيرة للجدل والقراءة المتعمقة، بأنه يرمق صوره الشعرية من البعيد، من خلف ستار اللغة، من المكان الذي يطمئن اليه، من حيث يختبئ خلف الظلال التي أوجدها على تخوم المعنى. والأغلب أن ثمة ما يشير الى أنه يحقق نجاحاً ملحوظاً في هذه المغامرة التي يبدو أنه يعول فيها على تفتيت المعنى أكثر من محاولته العبث مع اللغة الصلبة. الحفر في المعنى بديلاً عن الحفر في الأرض العنيدة للغته. الأول يسلتزم تواصلاً مع ذاكرة الكون. الثاني يفترض، بالضرورة مقاربة أصعب لذاكرة تبدو مغلقة تحت مسام اللغة. وبين هذه وتلك، يخترع المعنى لغته الخاصة به، وفي الآن عينه لا تعترض اللغة على هذا المنحى باعتبار أن لها حصة كبرى في هذه المعادلة.
ولعل في هذه النصوص أيضاً ما يوحي بتعاظم فكرة الموت في الفضاء الشامل للكتاب. موت اللغة في جسدها يتحول هاجساً متفاقماً لاحساس الشاعر المتزايد بموته هو. كلما شارف جسد القصيدة على الانهيار تمهيداً للسقوط، أوشك الشعر على إعلان موته أيضاً. البقاء والزوال مرتبطان، في هذه الحال، بقدرة اللغة على الموت وقدرتها كذلك على أن تنهض ثانية من تحت ركام الفناء. من أجل ذلك، على الأرجح، يختصر الشاعر الطريق على نفسه بالذهاب مباشرة الى حيث يوحي بأنه ذلك الغائب عن كل شيء، الحاضر في كل شيء استجابة لأقدار اللغة التي تموت ثم تحيا وفقاً لخاطرة المعنى الذي يختار أحياناً الموت لينتقل خطوة إضافية الى حيث التلاشي التام في الظل. يحلو لعبد الوهاب أحياناً أن يصف هذه المعادلة بالنسيان. والأغلب أنه يقصد بذلك التغاضي المتعمد عما يذكره بواقع الأشياء بل تفكيكها وتغيير معالمها. وكأنه بذلك يسعى الى إطالة فترة مكوثه في متاهة الغياب أقصى مدة ممكنة ليتمكن من رصد الأشياء وهي تتخفف من أحمالها الزائدة قدر المستطاع. ليرى بعد ذلك أي مسار قد تتخذه الصورة وهي تقفل على نفسها طرق العودة. ومع ذلك، يعود عبد الوهاب الى النقطة التي انطلق منها ليغادر من جديد الى حيث أرض اللغة الواسعة.
مختارات
من نصوص الكتاب نقتبس:
كما تسلم نفسها لغبطة غامضة
البارحة
نزلت تستحم في مخيلة النهر
لاحت كاستعارة مضمونة في وردة مقصودة الرقبة
تلقفها الظلام بمنشقته
مشت بنعال حلم طري تقلد خطوات امرأة عاشقة
و
مكنسة الغبطة تعد لها في مسودة الدهشة معجماً
لم يتبق من الليل في حديقة المنزل غير حواس النجوم
و
شالاً يعارك حبل الغسيل
مشت نحو النبع تقشر جلد الفراغ وتكسر بيضة الحيرة
فيما يشبه محاولة للنسيان
ليس لي في عتمة النسيان غير أغنية مكسورة ارتقها على مسامع
الريح في انتظار رائحة اسمك او شيء من هذا القبيل
نالني من دفئك وهج العبارة وبرد الفقدان
هذا اسمك يضيء الممر الى صوتي غير أن حزني قليل الكلام
ولغتي أنهكتها بلغة الفقد
بودي أن أنساك فعلاً
لست في حاجة للخروج منك
الطقس في الخارج يحتاج الى موهبة أخرى غير البرق
هكذا يأخذني الغياب منك يلزمني ما يشبه البكاء لاتفقد ملامح وجهي
www.almustaqbal.com/storiesprintpreview.aspx
طموحات عبد الوهاب الملّوح
جريدة الا خبار اللبنانية الجمعة 3 جويلية 2010
يأتينا صوت عبد الوهاب الملّوح من منطقةٍ لم تعد مغرية بالنسبة إلى الشعراء الجدد. في وقتٍ يغرف فيه أغلب هؤلاء من نثر الحياة اليومية، يدعونا هذا الشاعر التونسي إلى طموحاتٍ مختلفة. القصيدة هنا غير منجزة بالكلام العادي، وغير محكومة بالقفلة الشعرية المفاجئة التي يُفترض أن تضيء كل ما يسبقها من سطور شحيحة بالشعر. نتحدث هنا عن اختلاف إجرائي، عن كتابة شائعة باتت تثير الضجر إن لم نقل الغثيان أحياناً. لكن هذا النموذج الذي يُصرِّح باختلافه لا ينجو من ملاحظات ومشكلات تخصّه أيضاً.
الواقع أن الكتابة خارج اليومي تتضمن مخاطرة الوقوع في أسر نموذج شعري آخر وصلت معظم تجاربه إلى طريق مسدود، وخصوصاً تلك المكتوبة بلغة متفاصحة، ومصحوبة بتهويلاتٍ بلاغية وعاطفية. بهذا المعنى، يمكن القول إن مجموعة «الليل وحده دائماً» (دار النهضة ـــــ بيروت)، وهي الخامسة له، تضع ممارسة عبد الوهاب الملوح خارج اليومي، لكنّها تظل مهددة بمعايير كتابة أخرى. لعل هذا يفسر عناية الشاعر بتشكيل أغلب قصائده حرفاً حرفاً. كأنه يضيف جزالةً إضافية إلى لغته الجزلة أصلاً: «البارحة/ نزلتْ تستحمّ في مخيلة النهر/ لاحتْ كاستعارةٍ مضمومة في وردةٍ مقصوفة الرقبة/ تلقّفها الظلام بمنشفته/ مشتْ بنعالِ حلمٍ طريٍّ تقلِّد خطوات امرأة عاشقة/ ومكنسة الغبطة تعدُّ لها في مسوّدة الدهشة معجماً ...». إنها لغة أكثر تعقيداً ودسامةً مما نقرأه في شعرية التفاصيل اليومية. لا يبتعد الشاعر عن مجايليه اليوميين في ذكاء اللغة وصفاء النبرة، لكنه يفعل ذلك بلغة لا تُدير ظهرها لحساسية اللغة العربية. بل إن اللغة تصبح مكوناً من مكونات القصيدة.
هكذا، نقرأ جملة مثل «يُطمئنني النثرُ حين أفزعُ إليه في شبهِ يقينٍ لأنه المنفى الأخير هرباً من عاطفةٍ ترتابُ مني ومن برْد الفقدان»، أو «أما السفن التي أضاعت طريق التوابل/ ستقتفي أثر الإبل في لامية الشنفرى/ والنصوص المتمردة على الأسلوب».
هناك مذاق قديم وعريقٌ في هذه اللغة التي يُراهن الشاعر على صلاحيتها لكتابة قصيدة نثرٍ عصرية ومقنعة. صحيح أن هذه اللغة تجلب معها ممارساتٍ مكرورة وغير محبَّذة، كما هي الحال في مزج المحسوس بالمجرد: «ميتافيزيقيا الوصول، غيبوبة النهار، رغوة الحقيقة، بغتة الفوانيس ...». لكن القارئ لا يستطيع تجاهل العذوبة التي تسري في أغلب القصائد.
حسين بت حمزة
www.al-akhbar.com/ar/node/197282
"الليل دائماً وحده" لعبد الوهاب الملوح جريدة النهار 3 سبتمبر 2010
قـــــراءة الألــــم
تثير مجموعة الشاعر التونسي عبد الوهاب الملوح الجديدة "الليل دائما وحده"، الصادرة لدى منشورات "دار النهضة العربية"، شجناً خاصاً إذ هي تنفتح على عوالم شعرية بالغة الخصوصية في زمن شعري عنوانه الفوضى، وغلبة الرديء الذي تزدحم به الكتب الورقية والصحف والمواقع الألكترونية.
يؤثث الشاعر قصيدته بعناصر الشعر ومفرداته الأهم: اللغة الطازجة، والمخيلة الخصبة، ثمّ المضامين التي تشي ولا تقع في تأطير "الموضوعات"، ولا صخبها واشتراطاتها.
قصائد "الليل دائماً وحده" تتجوّل في شقوق الحزن الفرديّ بالذات، وهي تفعل ذلك بتلقائية محسوبة، تتخفّى خلالها حرفية الشاعر وخبرته برشاقة وافتتان يجعلان الجملة الشعرية تحمل غالبا ما بعد المعنى المباشر، وما خلف الكلمات من معان أخرى، أو في الأدق من ظلال معان، نستعيدها مع الشاعر في مخيلتنا: "سعداء بأشياء قليلة/ نزرع في الفقدان أزهارا برّية/ وما تيسّر من مطالع أغنية نزقة/ سعداء بما يلزمنا/ من انتظارات طويلة/ وخسارات هائلة".
تفتح قراءة القصائد باباً لرؤية تجربة مغايرة لقصيدة عربية تمتحن جدارتها في حمّى الإغتراب الفردي، كما في المحنة العامة، ولكن من نافذة روح الشاعر، وخرائط أحزانه الشخصية. وفي لغة الشعر ثمة ذهاب سلس نحو بنائيات لغوية تحترف البسيط وشبه العادي، الذي يعيد عبد الوهاب الملوح اليه أهميته واستثنائيته التي لا يمنحها إلا الخلق الفنيّ، المشغول بسبك مختلف.
هي تجربة تنحني لتلتقط من الواقع والحياة الراهنة أهمّ ما فيهما: الألم.
إنها قصائد الألم في تجلّيه الصاعد من الروح، الذي ليس مصادفة أن ينتظمه عنوان ينتسب إلى الليل، ويصدر عن مناخاته وحلكته: "سيرى/ ريحا هرمت في البعد ولم تهدأ/ سيرى شجرا شاب الورق النامي فيه/ لم يسقط منكسرا".
هي فداحة الشعر إذ يطلع من فداحة اغتراب الشاعر ومحنة أيامه. ولأن قصائد "الليل دائماً وحده" تتجوّل في الأسود والطافح بالمرارة، نلمح كلّ مرة اتكاء الشاعر على الصورة الشعرية في شكل ملحوظ، فالصورة تكاد تكون الحجر الأساس في البنائية الشعرية، وهي غالبا تتصف، إلى جماليتها، ببساطة عناصرها إلى الحد الذي يجعلها قابلة للاقتراب من الواقعي والمحسوس، كي لا نقول المألوف، فالألفة التي تتوافر عليها صور الملوح في قصائده تنتسب بالذات الى تلك الإنتباهات الذكية لجزئيات وتفاصيل تبدو عابرة، ولكنها باجتماعها تشتمل على صور الحياة حين تكون على نحوها الوالغ في احتدامه، وتشظّيه، وفي اندحار أفراحه على نحو يستدعي الشعر.
بين شعراء تونس الجدد، أعتقد أن تجربة عبد الوهاب الملوح تنفرد بهذه الخصوصية التي تنتسب الى العلاقة مع قارئها، وإقامة معادل فني يتأسس من اندفاعات تتوالى، وتحمل وهجها وبريقها، فتنجح في صبغ القصيدة بألوان مناخاتها الشعرية وما فيها من ظلال وأمواج ضوء تبدو سوداء، ورمادية، ولكنها في الوقت ذاته، شرسة، جارحة تشتبك مع محيطها وتناوشه.
في قصيدة لعلّها من أهم قصائد المجموعة، "ولكننا غرباء"، يكتب الملوح جدلا عاصفا بالمعنيين الفني والفكري، فسطورها تحمل مجموعة لا تحصى من متناقضات العيش، ومتناقضات اللعبة الفنية على السواء. إنها قصيدة تحمل تركيبية تتسع لكل الهواجس الشعرية، التي تجول في خاطر الشاعر، وتطلع من ذاكرة تستعيد القراءات والموروث والمشاهدات الحيّة أيضا. يكتب الشاعر تضادّ ذلك، وارتطامه بلغة الشعر وبنائياته، ويختار لها هذا السبك الحيوي: "حسناً كلُ شيء على ما يرام/ سماء المدينة منشغلة بالقيامة/ والناس منشغلون بما قد يزيد شهيتهم للنكاح، وجرو الحقيقة يأخذ قيلولة قرب مستنقع الحلم/ تحرسه القهقهات وفحل الذباب وليس لنا غير الذهاب إلى حيث يرفو الصدى حشرجات خطانا".
في هذه القصيدة نقف عند سؤال الشعر باعتباره سؤالا إشكاليا، يجد تعبيريته وجمالياته في محاولة مناوشة بؤس العيش الإنساني، ومحنة البشر في عالم غير متوازن، يترنح كلّ لحظة. عبد الوهاب الملوح يكتب من "هناك" بالذات، أي من الصراط الصعب، المحفوف بالأشواك، والمزدحم باشتعالاتها وخيباتها على السواء.
"الليل دائماً وحده"، تجربة من شاعرية مختلفة، تحمل إلينا جماليات الشاعر، وتفرد في مخليتنا صفحات لنرسم صورها وتلاوينها. إنها قصائد تستحق القراءة وتعصى على النسيان.
راسم المدهون
التعليقات (0)